ما بين ضجيج العواصم الغربية، حيث تسكن الكلمات في حجرات الدبلوماسية الجوفاء، وتُكمَّم الأفواه لتحقيق المصالح، وقفت إسبانيا، كأنها صوت أتى من الماضي عرف فيه الناس معنى الشرف، وجعلوا للدم الإنساني حرمةً لا تُمتهن، وللحق مقامًا لا يُساوَم عليه. ففي حين تداعت قوى الاستكبار من كل حدبٍ وصوب، تسوغ للإبادة، وتُشرعِنُ للمجزرة، وتغضُّ الطرف عن جرائم الاحتلال الصهيوني، نهضت مدريد لتكسر جدار الصمت، وتعلن بصوت مدوٍّ أن من يقتل الأطفال لا يُدافع عن نفسه، بل يهوى إلى قاع الوحشية وإلى مزبلة التاريخ، وإن زيَّن كلامه بمفردات الحداثة.
ليست هذه الكلمات إطراءً لسياسة، ولا مديحًا لحكومة، وإنما شهادة واجبة؛ إذ شهدنا في سلوك إسبانيا موقفًا أخلاقيًّا، تفوَّق في صدقه وجرأته على مواقف دولٍ زعمت طويلًا أنها حاملة لواء الحقوق والحريات، فإذا بها عند الامتحان، ترتمي في حضن الجلاد، وتترك الضحية تصرخ وتنزف جراحها دمًا، دون أن تساعدها، أو تدين جلادها.
وإنه لمن الملفت للنظر أن الموقف الإسباني القوي لم يكن ضجيجًا خطابيًّا عابرًا، بل كان حراكًا متكامل الأركان، تضافرت فيه السياسة الرسمية، والدبلوماسية الدولية، والضمير الشعبي، ليشكِّل لوحة ناصعة البياض في زمنٍ تكالبت فيه قوى الباطل على طمس معالم الحق في فلسطين.
أولًا: موقف سياسي رسمي في وجه الاحتلال
منذ بداية العدوان الصهيوني على غزة في أكتوبر 2023م، أبت الحكومة الإسبانية أن تكون شريكة في الجريمة بالصمت أو التواطؤ، بل صدح صوت رئيس الوزراء، بيدرو سانشيث، بإدانة صريحة لا لبس فيها، معلنًا أن ما يُرتكب في غزة من قتلٍ للأطفال، وتدميرٍ للأحياء السكنية، جريمة لا تحتمل التأويل، ولا تُقاس بميزان المصالح الباردة.
وفي خطوةٍ طالما انتظرها أحرار العالم، أعلنت إسبانيا، في الثامن والعشرين من مايو 2024م، اعترافها الرسمي بالدولة الفلسطينية، على حدود 1967م، وعاصمتها القدس الشريف. لقد كان هذا الاعتراف صفعةً رمزية للكيان المحتل، وتأكيدًا على أن الشرعية لا تُستمد من فوهات البنادق، بل من التاريخ والحق، ودماء الشهداء.
لم تكن هذه الخطوة معزولة، فقد سبقها موقفٌ جماعي جمع إسبانيا بإيرلندا وبلجيكا ومالطا، مطالبةً بوقف دائم لإطلاق النار، ورافضةً لصمت الاتحاد الأوروبي تجاه المجازر اليومية التي ارتكبها الاحتلال تحت سمع العالم وبصره.
ثانيًا: زيادة المساعدات الإنسانية
لعل ما يُميِّز الموقف الإسباني عن غيره، أنه لم يكتفِ بلعن العدوان، ولا بإصدار البيانات، بل انحاز إلى الجريح بما تيسَّر من دواء، وإلى الجائع بما قُدِّر له من زاد؛ فمنذ اللحظات الأولى، رفعت مدريد سقف مساعداتها الإنسانية للشعب الفلسطيني، حتى تجاوزت الأربعين مليون يورو في عامٍ واحد، وأتبعتها بطائرات عسكرية محمَّلة بالغذاء والدواء، تُحلِّق في سماء التضامن فوق كل الحسابات.
وفي يونيو 2025م، خصصت إسبانيا ستة عشر مليون يورو إضافية دعمًا لوكالة "الأونروا"، التي ضُيِّق عليها الخناق ماليًّا من حلفاء الاحتلال، في محاولةٍ خسيسة لشلِّ عملها وخنق اللاجئين الفلسطينيين. ولكن إسبانيا، في موقفها هذا، كانت كمن يزرع زيتونةً في أرضٍ يباب، مؤمنة بأن الظلم وإن طال، فإن جذور الكرامة لا تموت.
ثالثًا: تحرك دبلوماسي أممي يُعيد لفلسطين اعتبارها
لم تكتفِ إسبانيا بالوقوف عند عتبة البيانات والتصريحات، بل خاضت معركة الحق داخل أروقة الأمم المتحدة. ففي يونيو 2025م، قدَّمت مشروع قرار مشترك مع فلسطين، يدعو إلى وقف العدوان، والإفراج عن الأسرى، وفتح الممرات الإنسانية، وتأمين الحماية الدولية للمدنيين. وقد صوَّتت لصالح هذا القرار 149 دولة، مقابل 12 فقط عارضته، بينهم الدول المعروفة بولائها الأعمى للكيان الصهيوني. كما دعت إسبانيا إلى تعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والكيان الصهيوني، وحظر تصدير السلاح إليه.
بل وأكثر من ذلك، بادرت مدريد إلى إطلاق مجموعة "مدريد+"، التي ضمَّت دولًا عربية وغربية؛ بهدف كسر الحصار الدبلوماسي عن غزة، ووضع رؤية بديلة لمفاوضات السلام، لا تُملى من واشنطن، ولا تُستنسخ من أوسلو، بل تنبع من ضمير عالمي يتوق إلى عدالة لا تُؤجَّل.
رابعًا: نبض الشارع الإسباني.. صوتٌ للحق لا يُسكَت
إن أعظم ما يُثلج الصدر في هذه المواقف، أن الحكومة لم تكن وحدها، بل كان الشعب الإسباني خلفها، بل أمامها أحيانًا؛ فمنذ الأيام الأولى للعدوان، خرجت مئات الآلاف من أبناء الشعب الإسباني إلى الشوارع، يهتفون لفلسطين، ويُندِّدون بالاحتلال، رافعين الأعلام الفلسطينية في مشاهد لم تَغِب عنها حرارة الدم، ولا صِدقُ المشاعر.
ولم تقتصر التحركات على الشارع، بل امتدت إلى الجامعات والمؤسسات الثقافية، حيث أعلنت العديد منها تجميد تعاونها مع الجامعات الصهيونية، ورفضها استقبال أي دعم ثقافي أو أكاديمي صادر من الكيان الصهيون، كما شارك الفنانون والكُتَّاب في حملات تضامن أظهرت الوجه الإنساني الحقيقي لإسبانيا، في مقابل نفاق كثيرٍ من القوى الغربية.
ولم تُخفِ الأحزاب اليسارية مواقفها، فطالبت بوقف استخدام القواعد الجوية الإسبانية في تزويد الاحتلال بالسلاح، ونددت بتورط دولٍ غربية في تمويل آلة القتل المتواصلة في غزة، معتبرةً أن من يرسل الرصاص لا يختلف عمَّن يضغط على الزناد.
ولم يكن صوت الشعب الإسباني حكرًا على الجموع في الشوارع، بل تجاوبت معه نخبٌ فكرية ورياضية وثقافية، تؤمن أن الوقوف مع المظلوم ليس ترفًا أخلاقيًّا، بل هو واجب إنساني؛ فقد صدح بيب جوارديولا، المدرب المعروف بمواقفه الجريئة، بكلمة حق مؤكدًا تضامنه مع الشعب الفلسطيني، ومنددًا بجرائم الاحتلال. ولم تكن هذه المرة الأولى، بل هي امتداد لموقفه الثابت منذ العدوان على غزة عام 2014م، حيث تبرَّع بمبلغ كبير لحملة إغاثية، متحديًا حينها محاولات إسكات صوته.
وإلى جانبه، برزت أسماء كُتَّاب وممثلين ومطربين، أعلنوا رفضهم للتطبيع الثقافي مع الكيان الصهيوني، ومنهم من انسحب من فعاليات دولية تُموَّل من جهات صهيونية، رافعين شعار: "الحرية لفلسطين" على خشبات المسارح ومنصات الفن والإعلام. لقد أظهرت هذه النخبة وجهًا حضاريًّا لإسبانيا، لا تشوبه حسابات السياسة، بل يستند إلى ضميرٍ حيٍّ يأنف أن يُساوم على الدم البريء، أو يصمت عن الظلم تحت أية ذريعة.
وإن مرصد الأزهر لمكافحة التطرف يؤكد أن إسبانيا شامةٌ في جبين الغرب؛ إذ تقول للعالم: إن الصمت ليس حيادًا، وإن الحياد في موطن الجريمة خيانة، لا سيما في زمنٍ طغت فيه الموازين المختلَّة، وساد فيه منطق الغلبة على منطق العدالة.
لقد سجَّلت مدريد نفسها في صفحة من صفحات الكرامة والنزاهة، لن تُنسى في ذاكرة التاريخ، لأن من يقف مع فلسطين في ساعة العتمة، إنما يقف مع الحق حين تتيه السبل. وربما لا نملك اليوم إلا أن نُسجل هذه الشهادة، لعلها تكون منارةً لبقية العالم، ليوقن أن نصرة المظلوم ليست خيارًا سياسيًّا، بل فريضة إنسانية لا تسقط بالتقادم.
وإن كانت إسبانيا قد خطَّت بمداد المروءة موقفًا مشرفًا في زمن التواطؤ والصمت، فإن الأمل معقودٌ على ألا يكون هذا الموقف نهاية القول، بل بدايته. فما أكثر أن تُستهلك الكلمات وتُهدر المواقف حين لا تُترجم إلى أفعال، وحين تظل الشعوب تنزف، ويظل القاتل طليقًا يختال في دماء الأبرياء.
إن ما يُنتظَر من إسبانيا، وقد قالت كلمتها، أن تثبِّت قدمها في ميدان العدالة، وألا تسمح لرياح المصالح أن تزعزع بوصلتها الأخلاقية. يُنتظَر منها أن تدفع في محافل الأمم بخطابٍ لا يُساوي بين الجلاد والضحية، وأن تُفعِّل أدوات القانون الدولي لا لتُزيِّن بها صفحاتها، بل لتُعيد بها حقًّا مغتصبًا، وتردع بها كيانًا لا يعرف إلا منطق القوة.
ويُنتظَر من العالم الحر، إن بقي فيه من يسمع صوت الضمير، أن يتّخذ من هذا الموقف الإسباني نقطة انطلاق، لا موضع إعجاب عابر. فالمجازر لا تُدان بالبيانات وحدها، والاحتلال لا يُزاح بالمجاملات، بل بالمواقف الحاسمة، وبحشد الإرادات، وبكسر دائرة الإفلات من العقاب التي أغرت هذا الكيان الصهيوني بأن يتمادى في جرائمه. لقد آن للأمم أن تُثبت أن الإنسان أغلى من الحسابات، وأن الحق، وإن خُذل طويلًا، لا يموت إذا نصرته ضمائر حيَّة.
وحدة رصد اللغة الإسبانية