المكتبات حصن التراث الثقافي.. من الإسكندرية إلى قرطبة

  • | الإثنين, 4 أغسطس, 2025
المكتبات حصن التراث الثقافي.. من الإسكندرية إلى قرطبة

شكَّلت المعرفة اللبنة الأولى للحضارة منذ فجر التاريخ، ولا شك أن المكتبات كانت من أولى وسائل المعرفة التي تقود الفرد إلى الإبداع. ومن أجل ذلك، حرصت جميع الدول، منذ نشأتها، على تأسيس مكتبات تمتلئ بالمعارف، لتكون حجر الأساس لحضارتها.

ومن هذا المنطلق، تستمر وحدة اللغة الصينية بمرصد الأزهر في إبراز وتقديم القيم والنماذج المضيئة من المكتبات والتي نهضمت بها الأمم والمجتمعات وكان لها دور كبير في نهضة الحضارات القديمة وخاصةً الحضارة الإسلامية، باعتبارها أحد أبواب المعرفة.

دور المكتبات في نشر العلم

تؤدي المكتبات دورًا جوهريًّا في جمع النتاج العلمي وحفظه عبر العصور، بما يشمل: الكتب، والمخطوطات، والبحوث، والدوريات. وبهذا، تحفظ المكتبة ذاكرة الأمة، وتتيح للأجيال الاستفادة من تجارب السابقين.

وتُعد المكتبات من أقدم المؤسسات الثقافية والتعليمية التي عرفها الإنسان؛ فقد كانت، ولا تزال، منابر للعلم، وحواضن للمعرفة، وأدوات فعَّالة في نشر الوعي والتنوير بين الأفراد والمجتمعات. ومع تطور البشرية، تطورت وظائف المكتبة لتشمل أبعادًا معرفية وتقنية متقدمة، مما عزَّز من دورها في نشر العلم بكفاءة أكبر.

وللمكتبات العديد من الأدوار المعرفية ومن أهم هذه الأدوار: حفظ المعرفة وتوثيقها؛ فعبر التاريخ الطويل، وخاصة قبل اختراع الطباعة، لعبت المكتبات الكبرى في الحضارات القديمة دورًا مهمًّا في حفظ النتاج العلمي والثقافي من الضياع، من خلال جمع وتصنيف الكتب، والمخطوطات، والمراجع، والأبحاث.

والمكتبة تُمثل ذاكرة الأمة ومرجعًا للباحثين والمهتمين بمختلف التخصصات، كما تتيح المعرفة لجميع فئات المجتمع. لقد مثلت نموذجًا ومظهرًا فريدًا من العدالة المعرفية، إذ وفرت بيئة مفتوحة للجميع، بما في ذلك الطلاب، والباحثين، والعامة؛ مما يُسهم في نشر العلم وتيسير الوصول إلى المعلومات دون عوائق مادية أو اجتماعية.

وفي العصر الحديث، وفرت المكتبات الأكاديمية والبحثية مصادر علمية متخصصة، مثل: قواعد البيانات، والدوريات المحكمة، والمراجع المتخصصة، إضافة إلى الأدوات التقنية للمساعدة في التوثيق والتحليل، مما يُعزز من جودة البحث العلمي، ويُسهل على الباحثين الوصول إلى المعلومات الدقيقة.

المكتبات ودورها في بناء الحضارات

كانت المكتبات إحدى ركائز النهضة الفكرية والعلمية، وشكَّلت معاهد للعلم والمعرفة في زمنٍ كانت فيه كثير من الشعوب الأخرى ترزح تحت وطأة الجهل والظلام.

ومنذ القرن الثامن الميلادي، بدأ المسلمون ببناء صروح علمية جمعت بين الطابع الروحي والعقلي للحضارة الإسلامية، وكان من أبرزها: "بيت الحكمة" في بغداد، و"مكتبة قرطبة" في الأندلس، اللتان اعتُبرتا من أبرز ملامح النهضة الإسلامية. وقد بدأ الاهتمام بالمكتبات منذ القرن الأول الهجري؛ حيث سعى المسلمون إلى جمع الكتب وتأسيس المكتبات، ليس فقط لحفظ النصوص الدينية، بل أيضًا لتشجيع البحث العلمي في مجالات: الطب، والفلك، والرياضيات، والفلسفة، والأدب.

ظهر هذا الاهتمام واضحًا منذ استقرار الدولة الإسلامية في العصر الأموي، وبلغ ذروته في العصر العباسي؛ حيث شهدت المكتبات الإسلامية ازدهارًا كبيرًا. وكان لتشجيع الخلفاء للعلماء والمترجمين على نقل علوم الأمم السابقة وتوثيقها في مكتبات كبرى أثر بالغ في تقدم العلوم وازدهار الحضارة الإسلامية.

ومن أشهر المكتبات في العالم:

مكتبة الإسكندرية

لم تكن مكتبة الإسكندرية القديمة أحد المكاتب التاريخية فقط، بل هي واحدة من أعظم مكتبات العالم القديم، ورمزًا للعلم والمعرفة في الحضارات القديمة. وقد اتفق المؤرخون أن المكتبة أُسست في مدينة الإسكندرية المصرية في عهد البطالمة، وتحديدًا في عهد بطليموس الأول، وهو أحد قادة الإسكندر الأكبر، والمؤسس الحقيقي لدولة البطالمة، ليشهد عهد خلفائه وتحديدًا بطليموس الثاني (القرن الثالث قبل الميلاد) نهضة كبيرة للمكتبة. وقد هدفت إلى جمع كل معارف العالم في مكانٍ واحد، فجعلت من الإسكندرية مركزًا علميًّا وثقافيًّا عالميًّا.

ويؤكد كثير من المؤرخين أن المكتبة ضمت أكثر من 700,000 لفافة بردي، تشمل أعمالًا في الفلسفة، والطب، والفلك، والجغرافيا، والأدب، والعلوم الطبيعية باللغات الإغريقية، والمصرية القديمة، والفارسية، والهندية وغير ذلك. وقد استقطبت المكتبة العلماء والمفكرين من شتى بقاع الأرض، مثل أرخميدس، وأفلاطون، وإقليدس، وغيرهم من روَّاد الفكر الإنساني.

اختلفت المصادر التاريخية حول كيفية دمار المكتبة إلا أن الرواية الأشهر هي أن المكتبة تعرضت لحريق كبير وقع سنة 48 ق.م، في أثناء دخول يوليوس قيصر مدينة الإسكندرية في إطار الصراع مع الملكة كليوباترا وأخيها بطليموس الثالث عشر، حيثُ امتدت النيران إلى أجزاء من المدينة، وأصابت مخازن الكتب التابعة للمكتبة. وهناك من يرى أن المكتبة تعرَّضت لدمار تدريجي، وليس لحريق واحد، بسبب الإهمال والاضطرابات السياسية، لكن المؤكد أن خسارة مكتبة الإسكندرية كانت ضربة موجعة لذاكرة الإنسانية، وفقدًا لتراث علمي هائل.

بيت الحكمة – بغداد

أُسِّس بيت الحكمة في بغداد خلال العصر العباسي، ويعود تأسيسه إلى عهد الخليفة هارون الرشيد في القرن الثامن الميلادي، لكنه بلغ ذروته في عهد ابنه الخليفة المأمون (813–833م). مثَّل بيت الحكمة أحد أبرز رموز النهضة العلمية الإسلامية، وكان أشبه بـ مجمع علمي أو أكاديمية متعددة التخصصات. وقد تمثَّل الهدف الأساسي من إنشائه في ترجمة العلوم اليونانية والفارسية والهندية إلى اللغة العربية، ضمن مشروع واسع لنقل المعارف القديمة، وتوطينها في الثقافة الإسلامية.

ومع مرور الوقت، تحوَّل بيت الحكمة إلى مركز مهم لنسخ الكتب، وتأليفها، وتبادل الأفكار العلمية، حيث اجتمع فيه علماء من ديانات وخلفيات ثقافية مختلفة، ما جعله رمزًا للتسامح الفكري والتعدد المعرفي. ومن أبرز العلماء الذين عملوا فيه: حنين بن إسحاق، وهو من أعظم المترجمين، نقل أعمال جالينوس وأبقراط إلى العربية، وأتقن عدة لغات، منها السريانية واليونانية. وثابت بن قرة، عالم الرياضيات والفلك والطبيب المشهور، وقد أسهم في تطوير الجبر والهندسة، إضافة إلى العديد من العلماء منهم: الرازي، والفرغاني، والكندي، الذين شاركوا في إثراء المكتبة بالعديد من المؤلفات.

مكتبة قرطبة – الأندلس

في مواجهة مكتبة بيت الحكمة في بغداد، التي أنشأها العباسيون في خلال العصر العباسي، كانت مكتبة قرطبة واحدة من أعظم مكتبات العالم في العصور الوسطى. وقد أُسست في مدينة قرطبة بالأندلس، خلال القرن العاشر الميلادي، في عهد الخليفة الأموي الحكم المستنصر بالله، الذي حكم في المدة بين عام 961–976م، وبلغت أوجها خلال النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي.

كانت المكتبة تحتوي على أمهات الكتب في مختلف العلوم: الطب، والفلك، والرياضيات، والفقه، والفلسفة، والأدب، والمنطق، والتفسير، والتاريخ. كما كانت مركزًا نشطًا للنسخ والترجمة، حيث تُرجمت فيها العديد من الكتب الإغريقية والفارسية إلى اللغة العربية. وقد تميزت بدورها البارز في نشر الثقافة والعلوم في أوروبا، خاصة بعد أن انتقلت بعض محتوياتها من الكتب والمخطوطات إلى الغرب عقب سقوط قرطبة. وكانت المكتبة تحظى برعاية مباشرة من الخليفة الحكم المستنصر بالله، الذي كان عالمًا وعاشقًا للكتب، وكان يرسل بعثات علمية خاصة إلى المشرق الإسلامي لشراء الكتب النفيسة.

وعلى الرغم من الأثر الثقافي والعلمي العظيم الذي تركته المكتبة في الأندلس، فإن الاضطرابات السياسية التي تلت انتهاء مدة الدولة الأموية في الأندلس جعلتها عرضة للتخريب والتدمير خلال أوائل القرن الحادي عشر، ما أدى إلى ضياع كثير من كنوزها المعرفية.

 

مكتبة تيمورلنك – سمرقند

تأسست مكتبة سمرقند في عهد الدولة التيمورية، التي أسسها القائد المغولي الشهير، تيمور لنك (1336–1405م)، والذي اتخذ من مدينة سمرقند (في أوزبكستان حاليًا) عاصمةً له. وقد بلغت المكتبة أوج ازدهارها في عهد حفيده السلطان أولوغ بيك (1394–1449م)، وهو أمير وعالم فلك ورياضيات، واكتسبت المكتبة شهرتها، بسبب جهود تيمور لنك، والذي قام بجلب الكتب والعلماء من البلدان التي فتحها، خاصة من خراسان، والعراق، وفارس، والشام والهند، لتصبح مركزًا علميًّا متكاملًا يضم مكتبة ضخمة تحوي آلاف الكتب، وكان المرصد الفلكي لأولوغ بيك واحدًا من أعظم مراصد القرون الوسطى. هكذا كانت مكتبة تيمور لنك مركزًا فكريًّا موازيًا لما كان في بغداد وقرطبة في العصور السابقة، ويرجع لها الفضل في إعادة إحياء التراث العلمي الإسلامي ودمجه بالتقاليد الفارسية والهندية. وللأسف بدأت مرحلة انحدار للمكتبة والعلم في سمرقند، بعد مقتل أولوغ بيك سنة 1449م.

خصائص المكتبات في الحضارة الإسلامية

تميَّزت المكتبات في الحضارة الإسلامية منذ نشأتها بجملة من الخصائص التي جعلتها مختلفة ومتفوقة على كثير من نظيراتها في الحضارات الأخرى، سواء من حيث التنظيم، أو الأهداف، أو النطاق المعرفي الواسع الذي شملته. ومن أبرز ما تميزت به المكتبات في الحضارة الإسلامية هو الغاية منها؛ فقد سعت إلى خدمة العلم الشرعي والعقلي معًا. ونشأت المكتبات أولًا في المساجد ثم في المدارس، حيث كانت المساجد تؤدي دور المكتبات والمدارس في آنٍ واحد، فاشتملت على حفظ القرآن والحديث، إلى جانب احتوائها على العديد من كتب الطب، والفلك، والهندسة، والفلسفة.

ومن خصائص المكتبات الإسلامية أيضًا:

·       رعاية الدولة والمجتمع لجهود العلماء، ومساهمة الخلفاء والأمراء في تأسيس المكتبات ودعمها؛ فقد أنشؤوا مكتبات ضخمة مثل بيت الحكمة ودار العلم.

·       كما ساهم الأغنياء وأصحاب الوقف في دعم المكتبات وطلبة العلم، باعتبار الإنفاق على العلم ونشره من مصارف الزكاة. ومن المعلوم أن "في سبيل الله" أحد مصارف الزكاة الثمانية، وقد أخذ كثير من العلماء بهذا التفسير ليشمل كل عمل يُبتغى به وجه الله، ومن ذلك طلب العلم ونشره.

·       كذلك، تميّزت المكتبات الإسلامية بـ انفتاحها على غير المسلمين؛ فلم يُقصر العلماء اهتمامهم على الكتب الإسلامية فقط، بل شارك النصارى واليهود في الترجمة والبحث داخل هذه المكتبات. ونتج عن ذلك نسخ آلاف الكتب يدويًّا بدقة، كما حظي المترجمون من اليونانية، السريانية، الفارسية، واللاتينية بدعم كبير من الدولة. وساعدت هذه الجهود في حفظ المعارف ونقلها إلى أوروبا لاحقًا، ما جعل من المكتبات الإسلامية جسرًا حضاريًّا بين الشرق والغرب.

وختامًا، مثَّلت المكتبات في الحضارة الإسلامية منارات للعلم والنهضة الفكرية، وأسهمت في حفظ التراث الإنساني، ونقل المعرفة إلى العالم أجمع. وهي دليل على تقدير المسلمين المبكر للعلم والبحث، مما يجعل من الضروري إحياء هذا التراث العظيم في العصر الحديث. والواجب يقتضي من الأمة الإسلامية والعالم أجمع حماية هذه المكتبات، وتجديد رسالتها في عصر رقمي طغت فيه السرعة على العمق. فكما حفظ أسلافنا كتب اليونان والفرس والهنود، علينا نحن أن ننقذ تراثنا من الضياع؛ لأن المكتبات ليست مجرد أرففٍ للكتب، بل ذاكرة الأمم، وبذور نهضتها القادمة.

وحدة الرصد باللغة الصينية


 

طباعة