هندسة الجمهور وتزييف العقول: الإعلام بين التنوير والتضليل

  • | الأربعاء, 6 أغسطس, 2025
هندسة الجمهور وتزييف العقول: الإعلام بين التنوير والتضليل

في عصر الإعلام الرقمي، لم يعد دور وسائل الإعلام مقتصرًا على نقل الأحداث، بل تحوّل إلى قوة فاعلة في تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه الرأي العام. وبينما يُفترض بالإعلام أن يكون أداة للتنوير وكشف الحقائق، أصبح في كثير من الأحيان وسيلة لتزييف الواقع وإعادة تشكيله وفقًا لمصالح بعينها، في ظاهرة يصفها الخبراء بـ"هندسة القبول".

الإعلام.. من الاتصال إلى التأثير

يُعرّف الإعلام بوصفه عملية اتصال جماهيري تهدف إلى نقل المعلومات والأفكار والآراء من المرسل إلى المتلقي، عبر وسائط متعددة، بغرض إحداث تغيير معين في سلوك الأفراد أو تشكيل وعيهم. وتُعتبر التغذية الراجعة "الصدى الإعلامي" عنصرًا أساسيًّا في تقييم مدى نجاح الرسالة في تحقيق أهدافها.

ويُعد نموذج "هارولد لازويل" من أبرز النماذج التفسيرية لعملية الاتصال، ويتضمن خمسة عناصر رئيسية:

من؟ (Who): المرسل الذي يبث الرسالة.

يقول ماذا؟ (Says What): محتوى الرسالة الإعلامية.

بأية وسيلة؟ (In Which Channel): الوسيلة الإعلامية المستخدمة.

إلى من؟ (To Whom): الجمهور المستهدف.

وبأي تأثير؟ (With What Effect): الأثر الذي يحدثه الإعلام على المتلقي.

هذا النموذج يُسلّط الضوء على العلاقة التفاعلية المعقدة بين الرسالة الإعلامية والجمهور المستهدف، ويكشف كيف يمكن توجيه الرأي العام باستخدام أدوات الاتصال الحديثة.

هندسة القبول: كيف يُصاغ الواقع وفقًا للمصالح؟

رغم أن الإعلام يُفترض أن يكون وسيلة لبناء الوعي الجمعي، فإن الواقع يُظهر أنه كثيرًا ما يتحول إلى أداة لصناعة الوهم وتسويق أجندات خاصة. وينعكس ذلك في المقولة الشهيرة: "من يدفع للزمار يختار اللحن"، والتي تُجسد كيف يمكن للإعلام أن ينحرف عن رسالته الأصلية حين يخضع للتمويل أو المصالح السياسية.

هذا الانحراف ليس وليد اللحظة، بل يرتبط بنظرية "هندسة القبول" التي أسسها رائد العلاقات العامة الأمريكي إدوارد بيرنيز، والذي رأى أن بإمكان الإعلام إقناع الجماهير بتقبّل أفكار معينة دون وعي نقدي. فقد أدرك بيرنيز أن المشكلة ليست في الرسالة، بل في الجمهور، الذي يمكن إعادة "برمجته" ليقبل أي محتوى مهما كان زائفًا.

الإعلام الرقمي.. التأثير العميق على العقول

مع التحوّل من الإعلام التقليدي إلى الرقمي، ارتفع حجم التأثير الإعلامي إلى مستويات غير مسبوقة. إذ تُظهر الإحصائيات أن أكثر من 98% من الشباب يستخدمون منصات التواصل الاجتماعي يوميًّا، ويقضون في المتوسط أكثر من ثلاث ساعات يوميًّا على هذه المنصات. وباتت تطبيقات مثل "يوتيوب"، "واتساب"، و"إنستغرام" مصادر أساسية للمعلومات، متجاوزة في تأثيرها الأسرة والمدرسة.

هذا الواقع أدى إلى تغيّر جوهري في وظيفة الإعلام، إذ لم يعد ناقلًا للواقع فحسب، بل أصبح صانعًا له. ولم تعد وظيفته تقتصر على تقديم الأخبار، بل تجاوز ذلك إلى تشكيل القيم والمعتقدات وحتى الذوق العام، مما يجعل المتلقي في كثير من الأحيان "رهينة" لهذا التيار الجارف من المعلومات التي قد تكون مُضلّلة أو موجهة، ومن نماذج التأثير السلبي للإعلام وتزييف العقول وتأثيره على الجمهور في الهند وباكستان.

ففي السياق الهندي؛ تم استخدام الإعلام الرسمي للبلاد لتأجيج خطاب الكراهية، وتوجيه الرأي العام الهندي إلى أن الهند هندوسية، وأن المسلمين خطر على الهوية القومية الهندية.

وفي السياق الباكستاني؛ استغلت الجماعات المتطرفة وسائل التواصل الاجتماعي؛ لنشر أيدولوجيتها، ومنها: حركة طالبان باكستان (TTP) التي تبث مقاطع فيديو مصورة للعمليات الانتحارية عبر أقراص مدمجة وعبر شبكات التواصل الإعلامي وقنواتها الرقمية في المناطق القبلية، وبدأت تلك الجماعات في استقطاب الشباب ومحاولة تجنيدهم من خلال تلك المنصات الرقمية، وبث الرعب في نفوس الناس وتوجيههم ضد الحكومة والأقليات الدينية في البلاد.

في ضوء هذه التغيرات، يحذر مرصد الأزهر لمكافحة التطرف من خطورة الإعلام الموجّه، مشددًا على ضرورة تنمية الوعي النقدي لدى النشء وتمكينهم من مهارات التفكير التحليلي والقدرة على التمييز بين الحقيقة والدعاية. ويؤكد المرصد أن الإعلام، رغم كونه أداة للمعرفة، قد يتحول إلى سلاح خطير يُستخدم لتزييف الوعي الجماهيري إذا تُرك دون رقابة أو وعي.

ويدعو الخبراء إلى إشراك المؤسسات التعليمية والثقافية في معركة "تحصين العقول"؛ وذلك عبر تضمين مناهج التربية الإعلامية، وتعليم الأجيال القادمة كيف تستهلك المعلومة بعين ناقدة.

وحدة الرصد باللغة الأردية

طباعة