في ظل تصاعد موجات العنف والإرهاب في العصر الحديث، برزت التنظيمات المتطرفة أطرافًا فاعلة لا تستند فقط إلى القوة المسلحة، بل تعتمد بشكل رئيسي على خطاب ديني مفخخ، يتلاعب بالنصوص الشرعية ويوظفها لخدمة أجندات مشبوهة. ومن أبرز أدوات هذا الخطاب ما يُعرف بـ"التفسير التجزيئي للنصوص"، حيث يتم اقتطاع الآيات والأحاديث من سياقها الكامل، وتحميلها دلالات لم ترد في مقاصدها الأصلية. فما هو التفسير التجزيئي؟ ولماذا تلجأ إليه التنظيمات المتطرفة؟ وما مخاطره على الوعي الديني والمجتمعي؟
أولًا: مفهوم التفسير التجزيئي للنصوص
التفسير التجزيئي: هو اقتطاع النصوص الشرعية –قرآنية كانت أو نبوية من سياقها العام، سواء كان السياق النصي (ما قبله وما بعده)، أو السياق التاريخي والاجتماعي، ولا يُراعى في التفسير التجزيئي البناء الكلي للنصوص والتعامل معها ككلٍ ّمتكامل لا كأجزاء متفرقة.
ثانيًا: كيف تستغل التنظيمات المتطرفة هذا التفسير؟
تلجأ التنظيمات المتطرفة إلى التفسير التجزيئي لعدة أهداف:
تضليل الخطاب الديني مستهدفة بذلك الفئة العمرية الشابة للتأثير عليهم والتشكيك في صحيح الدين، والحيلولة دون الفهم الصحيح للنصوص الشرعية.
تحريف معاني الآيات القرآنية حتى تتمكن الجماعات المتطرفة من تحقيق أهداف وأجندات سياسية.
توظيف النصوص المجتزأة والمُحرّفة لبثَّ أيدولوجيتهم المتطرفة بلغة دعائية محملة بمضامين دينية عبر وسائل التواصل وإصداراتهم الخاصة .
تحريض الشباب على الخروج عن ولاة أمورهم وتكفيرهم واستباحة دمائهم من خلال الاستدلال بالآيات القرآنية في غير موضعها الصحيح، مثل الاستدلال بقول الله تعالى : ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٍۚ إِلَّا تَفۡعَلُوهُ تَكُن فِتۡنَةٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَفَسَادٞ كَبِيرٞ ﴾
[ الأنفال: 73] دعمًا لادعاءاتهم الباطلة ومزاعمهم في تجنيد المتطرفين.
شرعنة العنف لتسويغ إستراتيجيتهم في استباحة الدماء وقتل الأبرياء، كاقتطاعهم قوله عز وجل: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5] دون الإشارة إلى سياقها القتالي الخاص.
تزييف عقول الشباب لتدمير المنهجية الصحيحة والمنضبطة في فهم النصوص الشرعية، كي يسهل عليهم بذلك الإقدام على العمليات الإرهابية وتهديد الآمنين وهدم كيان المجتمع.
التلاعب بالعواطف الدينية واستفزاز مشاعر الشباب حتى يسهل إقناعهم بأنهم في معركة مقدسة وأنّ الجهاد الحقيقي هو حمل السلاح والانخراط في صفوف الجماعة
خلق حالة افتراضية بالاغتراب الديني في المجتمع، وتصدير صورة عامة بأن انحصار معالجة الانحراف المجتمعي قاصرًا على نصوصهم المحرفة والمؤولة بعيدًا عن صحيح القرآن الكريم والسنة النبوية.
ثالثًا: آثار التفسير التجزيئي على الفرد والمجتمع
تشويه صورة الإسلام عالميًّا: إذ تُروج مفاهيم دموية باسم الدين، مما يسهم في نشر الإسلاموفوبيا وربط الإسلام بالعنف.
تفكيك المجتمعات: حيث يُكفَّر المختلف، وتُشَرْعَن الفتنة الداخلية، ويُستهدف الآمنون باسم "الحاكمية" أو "الولاء والبراء".
إضعاف المرجعيات الدينية الوسطية: إذ تُقدَّم تفسيرات متشددة على أنها "الحق المطلق"، ويُتهم العلماء المعتدلون بالتخاذل أو العمالة.
رابعًا: الرد على هذه الظاهرة
نشر التفسير المقاصدي والمتكامل، حيث يجب ترسيخ منهجية التعامل الشامل مع النصوص، بما يعيد التوازن في الفهم الديني.
تعزيز الوعي النقدي لدى الشباب من خلال برامج تربوية وتعليمية تُنمّي التفكير التحليلي وتُحصّنهم من خطاب الكراهية.
وضع ضوابط حاكمة للفهم الحقيقي للنص، حتى نحفظ له قداسته وخصوصيته مما لا يدع مجالًا للجماعات المتطرفة لتوظيف النصوص في غير ما وُضعت له.
تفعيل دور المؤسسات الدينية الرصينة؛ لتقديم خطاب بديل يتسم بالعمق والاعتدال، ويكشف زيف الخطابات المتطرفة.
فالتفسير التجزيئي للنصوص ليس مجرد خطأ تأويلي عابر، بل هو أداة خبيثة تستخدمها التنظيمات المتطرفة لهدم المجتمعات من الداخل، وترويج فكرة العنف تحت ستار الدين، ولذا؛ فإن التصدي له لا يكون بمجرد الرد العلمي، بل بجهد متكامل يشمل التربية، والتعليم، والإعلام، والمؤسسات الدينية؛ لحماية النصوص من التشويه، والشباب من الاستغلال والانسياق وراء تلك التأويلات الخاطئة.
ويؤكد مرصد الأزهر لمكافحة التطرف على أهمية ترسيخ الوعي الديني والفكري والنقدي لدى الشباب في مواجهة محاولات الاستقطاب التي تمارسها الجماعات الإرهابية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تلك المنصة الأساسية التي تنفذ من خلالها الجماعات المتطرف إلى عقول النشء.
وفي هذا السياق، يوصي المرصد بما يلي:
· تعزيز وعي الشباب بالعلم الرصين والمنهج الصحيح.
· تعزيز الفكر النقدي لمواجهة النصوص المنحرفة والمضلِّلة.
· تحصين عقول الشباب من خلال إدراج مناهج تعليمية تدمج بين التعليم الديني المعتدل والتربية الإعلامية الحديثة.
· إعداد برامج توعوية شاملة في الإعلام الرسمي وعبر منصات التواصل الاجتماعي بلغة عصرية تناسب تطلعات الشباب واحتياجاتهم.
· الإلحاح على كشف أخطاء المنهج المتطرف والتفسير التجزيئي للنصوص، عبر بيان علمي دقيق ومبسط يفهمه الشباب.
· تكثيف الندوات والمحاضرات الفكرية والثقافية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب، مع ضرورة التفاعل المباشر مع تساؤلات الشباب وتحدياتهم.
· توسيع الوجود المؤثر للمؤسسات الدينية المعتدلة على وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال محتوى منتظم وفعّال يواجه خطاب الكراهية والتضليل بالحكمة والبصيرة.