قبل مدة ليست بالبعيدة، لم تكن أمريكا اللاتينية ضمن خرائط التنظيمات الإرهابية المتطرفة، بل كانت قارة مفعمة بالحيوية، منشغلة بتحدياتها الاقتصادية والسياسية الداخلية. إلا أن هذا المشهد تغيَّر جذريًّا، مع تسلل رسائل إرهابية مظلمة إلى مدنها، حاملةً بصمات الرايات السوداء نفسها التي خفقت سابقًا فوق الرقة والموصل. وقد تم بث هذه الرسائل بلغات محلية عبر منصات رقمية، مستهدفةً أفرادًا معزولين، وجاذبة إياهم ليكونوا "ذئابًا منفردة" تتحرك في الخفاء، وتسهم في كتابة فصل جديد من فصول الإرهاب العالمي بحروفٍ من أمريكا اللاتينية.
لا تقوم المعادلة الجديدة على غزو عسكري تقليدي أو سيطرة ميدانية واسعة، بل تعتمد على اختراق غير مرئي، ينطلق من فضاء الإنترنت لينتهي في مسارح عمليات محدودة النطاق، لكنها قادرة على إيصال رسائل عنيفة عابرة للقارات؛ إذ أدرك تنظيم داعش أن خسارته لمعاقله في الشرق الأوسط لا تعني نهاية مشروعه، بل تمثل فرصة لإعادة انتشاره في بيئات أقل استعدادًا أمنيًّا، وأكثر تقبلًا لدعايته المتطرفة.
لم يكن اختيار هذه القارة وليد الصدفة، بل جاء نتيجة تخطيط مدروس وإدراك عميق لسماتها المميزة؛ فبفضل تنوعها الثقافي والديني والاجتماعي، وما تعانيه من تحديات اقتصادية وأمنية، تشكل أمريكا اللاتينية بيئة حاضنة لانتشار التطرف؛ حيث تضم هذه القارة أكثر من 650 مليون نسمة، وتمتد من المكسيك شمالًا إلى الأرجنتين جنوبًا، مما يوفر مساحة جغرافية واسعة، وتنوعًا سكانيًّا يصعب السيطرة عليه أمنيًّا.
وفي ظل هذه الإستراتيجية المتطورة، برزت أمريكا اللاتينية وجهةً جديدة، ليس بوصفها مركز قوة للتنظيم، بل لأنها منطقة بعيدة عن مراكز الاهتمام؛ حيث يمكن للوجود الإرهابي أن يتشكل في الخفاء، وينمو عبر مزيج من التحريض الإلكتروني والهجمات ذات الدلالات الرمزية، منتظرًا اللحظة التي تتحول فيها هذه النوايا إلى واقع ملموس يصعب التغاضي عنه. ومع تزايد الأدلة على هذا الانتشار الخفي، تؤكد الوقائع الميدانية أن ما يجري ليس مجرد أحداث منعزلة، بل هو جزء من خطة مُحكمة تعيد تشكيل جغرافيا التهديد العالمي.
في منتصف يناير 2025م، نفذت السلطات الأرجنتينية، بالتعاون مع مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، عملية معقدة استمرت 9 أشهر، انتهت باعتقال "ديفيد نازارينو" (24 عامًا) بتهمة الانتماء لداعش والتخطيط لهجوم يستهدف حكومة الرئيس "خافيير مايلي"، فقد أظهرت التحقيقات أنه استغل "تيليجرام" و"إنستغرام" لنشر دعايته والتواصل مع شبكات إرهابية دولية، وأنه كان في مرحلة متقدمة من التخطيط؛ إذ عُثر على مواد دعائية وتعليمات لصناعة المتفجرات على هاتفه.
وفي يوليو من العام ذاته، ضبطت السلطات الأرجنتينية مراهقًا (17 عامًا) كان على تواصل مباشر مع عناصر داعش عبر تطبيقات مشفّرة مثل "تيليجرام" و"ديسكورد"، وقد عُثر في منزله على أجهزة إلكترونية وسلاح ناري وذخائر. وكشفت التحقيقات صلته بمواطن أوروجواياني معتقل في قضايا إرهابية، ما أكد وجود شبكة عابرة للحدود. وتعيد هذه الحوادث إلى الأذهان وقائع سابقة؛ ففي 2017م، اخترق داعش موقع الجيش الأرجنتيني، وفي عام 2023م فككت السلطات خلية من سبعة أفراد خططت لهجمات بمدينة "ميندوزا".
وفي مشهد قلب التوقعات رأسًا على عقب، وجدت أوروجواي نفسها فجأة على خريطة تهديدات تنظيم داعش، بعدما كانت رمزًا للهدوء والاستقرار في أقصى جنوب القارة؛ ففي منتصف فبراير 2025م، بثَّ تنظيم داعش مقطعًا مصورًا بلهجة فيها تحدٍّ، معلنًا أنه وصل إلى "حيث لم يتوقع أحد". واحتوى الفيديو على مشهد ملفتة غامضة كُتب عليها: «لقد كان هنا ذئب منفرد»، مصحوبة برسائل تحريضية تدعو إلى تنفيذ عمليات دهس جماعي، ويُقال إن المشهد صُوّر في أحد شوارع المدن الأورجوانية.
وبعد مدة وجيزة، أعلنت السلطات اعتقال امرأة بايعت أحد قادة التنظيم عبر الإنترنت، وكانت على صلة بشبكات محلية تستقطب الأفراد، وتدفعهم نحو التطرف، في مؤشر على أن القارة لم تعد بعيدة عن إستراتيجية "الذئاب المنفردة".
وبعد أسابيع قليلة من أحداث أوروجواي، وجدت الإكوادور نفسها في صدارة المشهد، حيث اعتقلت السلطات "والتر ألكسندر" (45 عامًا)، وهو شخص يحمل الجنسيتين الإسبانية والإكوادورية، بعد أن دأب على نشر خطابات تحريضية ضد إسبانيا والغرب، وقام بتمجيد هجمات 11 سبتمبر 2001م في نيويورك، و11 مارس 2004م في مدريد، إلى جانب التخطيط لاستهداف سفارات أجنبية في العاصمة.
وأسفرت المداهمة الأمنية عن ضبط 6 هواتف محمولة وجهاز كمبيوتر محمّل بمواد دعائية وتحريضية، ما كشف عن خطورة القضية التي لم تتوقف عند فرد واحد، بل سلطت الضوء على خلايا نائمة تترقب اللحظة المناسبة للتحرك، بما يهدد الاستقرار الدبلوماسي والأمني للبلاد.
وفي مارس 2025م، شهدت البرازيل، أكبر دول أمريكا الجنوبية، كشف مخطط إرهابي يقوده شاب يُدعى "ماتيوس دي أفيليو" (24 عامًا)، كان يعيش حياة طبيعية في ساو باولو، قبل أن ينجرف عام 2022م إلى أيديولوجيا متطرفة استقاها من الفضاء الرقمي؛ إذ تبنَّى نسخة مشوَّهة من الإسلام روَّجتها منصات دعائية تابعة لتنظيم داعش، لا تمت للإسلام الحقيقي بقيمه السمحة ومبادئه النبيلة بأية صلة، فتحول تدريجيًّا إلى مشروع «ذئب منفرد» يخطط لضرب مقر الشرطة الفيدرالية بهجوم انتحاري. وعند مداهمة منزله في حي "سان رافائيل"، عثرت الشرطة على ترسانة بدائية من الأسلحة المصنَّعة يدويًّا، وسكاكين، وأقواس وسهام، إضافة إلى رايات سوداء تحمل شعارات التنظيم. غير أن الأخطر كان دفتر يومياته، الذي دوَّن فيه خططًا مفصلة للهجوم، في محاكاةٍ لعمليات نفذها داعش في العراق وسوريا. هذه القضية أكدت قدرة الدعاية الرقمية على تحويل شاب عادي إلى تهديد أمني حقيقي في قلب أكبر دولة بأمريكا الجنوبية. وهي ليست حالة معزولة؛ فقد شهدت البرازيل في الأعوام الأخيرة اعتقال مسافر عام 2023م كان في طريقه إلى الانضمام للتنظيم، والكشف عن شبكة لتجنيد أطفال من الأمازون ونقلهم إلى تركيا للتدريب، فضلًا عن تفكيك خلايا إرهابية في عامي 2016م و2018م كانت تخطط لهجمات داخلية، وتجنيد مقاتلين.
وتكشف الوقائع السابقة عن أن تمدد "داعش" في أمريكا اللاتينية لم يعد مجرد احتمال بعيد، بل تحول إلى ملامح إستراتيجية واضحة تقوم على التسلل عبر الفضاء الرقمي؛ فقد نجح التنظيم في تحويل الإنترنت إلى بوابة خلفية نحو القارة، مستغلًّا منصات مشفَّرة، ودعاية مصممة بعناية، لاستقطاب شباب يعانون من هشاشة الهوية والاضطراب الاجتماعي.
هنا يتجلى ما يمكن وصفه بـ"الإرهاب الرقمي"، نسخة أكثر خفة، وأشد خطورة من الأشكال التقليدية، لا تعتمد على خلايا منظمة أو معسكرات تدريب، بل على «ذئاب منفردة» تنمو في عزلة تامة، وتنفجر عند لحظة الإشارة. هذه الآلية تمثل تحديًا مزدوجًا؛ فهي من جهةٍ أقل كلفة وأسهل انتشارًا، ومن جهة أخرى أشد فتكًا؛ لأنها تتخفى في مساحات غير مرئية يصعب تعقبها بالوسائل الأمنية التقليدية. إنها معركة تدور في ميدان جديد، حيث تتحول الكلمة إلى سلاح، والفكرة إلى رصاصة، والمجتمع بأكمله إلى هدف إذا تُرك بلا حصانة فكرية، أو رقابة تقنية.
وتزداد خطورة المشهد حين نضع في الاعتبار الخصائص العامة للقارة اللاتينية؛ حيث وجود فجوات اجتماعية واقتصادية عميقة، وبطالة متفاقمة بين الشباب، وضعف في بعض المؤسسات التعليمية والثقافية، إلى جانب تنوع ديني وثقافي قد يُستغل لزرع الانقسام. هذه العناصر مجتمعة تمنح التنظيم بيئة مثالية للتغلغل، لا سيما مع النمو المتسارع لاستخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في ظل ضعف الرقابة. فالخطاب المتطرف يبدو في كثير من الأحيان أكثر جاذبية من الخطاب المعتدل، لأنه يقدم إجابات مبسطة لقضايا معقدة ويمنح شعورًا بالانتماء إلى قضية "مقدسة". إن ما تشهده أمريكا اللاتينية اليوم ليس حدثًا معزولًا، بل جزء من إستراتيجية أوسع لـ"داعش" تقوم على التمدد في الأطراف، بعد أن ضاقت عليه ساحات الصراع التقليدية. ومن خلال هذه القارة، يسعى التنظيم إلى إعادة بناء شبكاته عبر قنوات التهريب والسلاح والمخدرات المنتشرة فيها، وفي الوقت نفسه تعزيز رمزيته بوصفه تنظيمًا "عابرًا للقارات".
أمام هذا المشهد، يرى مرصد الأزهر أن المواجهة لا يمكن أن تقتصر على الحلول الأمنية، بل تبدأ من تحصين العقول. وإلى ذلك فإن المؤسسات التعليمية والدينية والثقافية مطالبة بكشف زيف الخطاب المتطرف وتقديم بدائل فكرية وروحية أكثر جاذبية للشباب الباحث عن معنى؛ إذ إن المعركة الحقيقية تُحسم أولًا في الوعي قبل الميدان. ومع ذلك، يظل البعد الأمني عنصرًا لا غنى عنه، خاصة عبر تعزيز التعاون بين دول القارة وتطوير قدراتها التقنية لمراقبة الفضاء الرقمي ورصد الأنشطة المشبوهة في وقت مبكر، مع الحفاظ على التوازن بين الأمن والحريات.
إن ما شهدته أوروجواي والبرازيل والإكوادور والأرجنتين ليست أحداثًا معزولة، بل حلقات في مشهد أكبر يكشف انتقال التنظيمات الإرهابية إلى أطراف جديدة بعد فقدانها معاقلها في الشرق الأوسط. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل يستوعب العالم الدرس قبل فوات الأوان؟ فإما أن يستثمر المجتمع الدولي في التعليم والتنمية والتعاون الاستخباراتي والحوار بين الثقافات، أو يترك أمريكا اللاتينية تنزلق إلى مصير شبيه بما شهدته مناطق أخرى. التحدي اليوم اختبار لقدرتنا على التعلم من مآسي الماضي، والفرصة ما زالت قائمة لتجنيب القارة الانزلاق نحو الهاوية، شرط توفر إرادة سياسية جادة، ورؤية شاملة تجعل من المواجهة الفكرية والأمنية والتنموية جبهة واحدة ضد الإرهاب.
وحدة الرصد باللغة الإسبانية