باتت التنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتها داعش والقاعدة، تخوض مرحلة جديدة من التطور الإستراتيجي، إذ تحولت من الاعتماد على العمل الميداني التقليدي إلى بناء منظومات متكاملة في الفضاء الرقمي، موظِّفة أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتزييف العميق، وخوارزميات الاستهداف الإعلامي.
وقد أتاح لها هذا التحول إنتاج محتوى دعائي متعدد اللغات عالي الجودة، وإخفاء هويات عناصرها، وتنفيذ عمليات تجنيد موجهة بدقة نحو الفئات الهشة، خصوصًا القصَّر والشباب المهمشين. كما سمح لها بإعادة صياغة خطابها التحريضي بصورة أكثر جاذبية، مستثمرة القضايا الإنسانية والصراعات السياسية لتأجيج مشاعر الغضب والكراهية، بما يعقِّد جهود المواجهة الأمنية والفكرية على المستويين المحلي والدولي.
ومن خلال هذا التقرير نستعرض التحولات التي صنعتها التنظيمات المتطرفة في نشاطها، وهي ما تعتمد عليها للتجنيد والسيطرة على عقول الشباب لاستخدامهم أدوات لتنفيذ أهدافهم المتطرفة.
1- الذكاء الاصطناعي كسلاح دعائي
تشير التقارير الإعلامية والأمنية -ومنها تقرير وكالة الأنباء الإسبانية "EFE"- إلى سابقة خطيرة تمثلت في إنتاج تنظيم داعش -لأول مرة- مقطع فيديو بتقنية الذكاء الاصطناعي على شكل نشرة أخبار مزيفة، عقب هجومه في باميان بأفغانستان (مايو 2024م)، والذي أودى بحياة 4 سياح إسبان. لم يكن الهدف مجرد إظهار العملية كإنجاز، بل إعادة صياغة سردية موجهة بدقة لاستقطاب مجندين جدد، خاصة من الشباب المتأثر بالدعاية الرقمية. وقد استخدم التنظيم منصات ناطقة بالإسبانية، أبرزها "صوت الأندلس"، لنشر بياناته، وإضفاء طابع محلي على خطابه. بالتوازي، كثَّف فرع "ولاية خراسان" رسائله الموجهة للجمهور الأوروبي، في محاولة لاختراق الفضاء الإعلامي الغربي وتوسيع رقعة تأثيره.
2- استهداف القصَّر والشباب المهمّشين واستغلال المعاناة الإنسانية
برز مؤخرًا في إسبانيا مؤشر مقلق يتمثل في ارتفاع غير مسبوق لتورط القاصرين في قضايا مرتبطة بالتطرف العنيف، إذ سُجّل في عام 2024م توقيف 15 قاصرًا، وهو رقم يتجاوز مجموع الموقوفين من هذه الفئة خلال السنوات السبع السابقة مجتمعة. ويرتبط هذا التصاعد بعدة عوامل، أبرزها العزلة الاجتماعية، والمعاناة من اضطرابات نفسية، إلى جانب التعرض المكثف للدعاية المتطرفة عبر تطبيقات مشفرة مثل "تليغرام"، التي تتيح التواصل السري وتبادل المحتوى المحرض.
ولم يقتصر النشاط الدعائي للتنظيمات الإرهابية على توظيف التكنولوجيا الحديثة، بل امتد إلى استغلال القضايا الإنسانية والسياسية لتحقيق أهداف تحريضية. فقد سعى تنظيم القاعدة، عبر جناحه الإعلامي "الملاحم"، إلى استثمار المعاناة الإنسانية في غزة بخطاب موجّه للمصريين، خصوصًا في سيناء، مستخدمًا غطاءً إنسانيًّا لحثهم على تقديم الدعم، مع تجنب الإشارة المباشرة لأية أطراف سياسية كحماس أو الاحتلال، في محاولة لتوسيع قاعدة التعاطف وتجنب الانقسام. في المقابل، لجأ داعش إلى استدعاء وقائع تاريخية مثل حروب الاسترداد الإسبانية، محرفًا سياقها لتأجيج الكراهية الدينية، ومروجًا لأحداث تاريخية ارتُكبت ضد المسلمين، ذريعةً لتسويغ العنف ضد الكنائس والتجمعات المسيحية. يعكس هذا التوظيف المزدوج للتاريخ والواقع الإنساني براعة دعائية في إعادة صياغة السرديات لخدمة أجندات التطرف، ما يستدعي مواجهته بخطاب مضاد يكشف زيف المزاعم ويحصِّن المجتمعات من الانجرار وراءها.
3- الطابع المادي للدعاية الدينية
من أبرز التحولات الخطيرة في خطاب تنظيم داعش الإرهابي اعتماده على وعود أخروية ذات طابع مادي خالص، كما ظهر في نشرته الصوتية "صوت القرآن" التي تصف الجنة بصور حسية مفرطة؛ من قصور لؤلؤية وخدم بعشرات الآلاف، مقدمة الموت في المعركة كصفقة رابحة تفوق أية خسارة دنيوية. يحوِّل هذا التلاعب المفهوم الديني للجنة من بعده الروحاني السامي إلى سلعة دعائية تُسوّق للعنف والانتحار، مستهدفة العقول القابلة للتأثر بالخطاب العاطفي. ويقترن هذا الطرح بتحريض طائفي صريح ضد اليهود والمسيحيين، عبر تصويرهم طرفًا في "حرب عالمية ضد المجاهدين"، بما يعمق الانقسام، ويسوغ العنف باسم الدين، في إطار إستراتيجية متكاملة لتغذية التطرف وترسيخ العداء المطلق.
4- التحول نحو الحرب اللامركزية
كما أظهرت دراسة أمنية حديثة أن تنظيم داعش أعاد تشكيل بنيته بأسلوب أكثر تعقيدًا ومرونة، متخليًا عن نموذج السيطرة المكانية في معاقله السابقة بالرقة والموصل، لصالح انتشار لامركزي تديره فروع نشطة في أفغانستان وشرق إفريقيا. أتاح له هذا التحول الجمع بين هجمات ميدانية محدودة التأثير المباشر وعمليات إلكترونية عالية القدرة على إرباك الخصوم، مع استثمار الفضاء الرقمي منصةً للتجنيد والتحريض. كما يكثف التنظيم استغلاله لمسارات الهجرة غير الشرعية كقنوات محتملة للتسلل إلى أوروبا، ما يزيد من التحديات الأمنية أمام دول الاتحاد الأوروبي. ويبرز فرع ولاية خراسان كأخطر أذرع التنظيم حاليًا، نظرًا لنشاطه العابر للحدود وقدرته على التخطيط لهجمات خارجية، مع مؤشرات متزايدة لاحتمال تنفيذ عمليات تستهدف القارة الأوروبية بحلول عام 2026م، في سياق إستراتيجية تهدف لإبقاء التنظيم حاضرًا في المشهد الأمني العالمي رغم فقدانه أراضيه التقليدية.
5- التحديات والمواجهة
ويحذر خبراء الأمن من أن التطورات التكنولوجية، وعلى رأسها روبوتات الدردشة المتطرفة، باتت تختصر المدة اللازمة للتأثير والتجنيد، خصوصًا لدى الفئات المهمشة أو المعزولة اجتماعيًّا في أوروبا، ما يزيد من سرعة انتشار الفكر المتطرف. وتواجه جهود المواجهة عقبات عدة، أبرزها الثغرات في التنسيق الدولي، وتباين الأطر القانونية بين الدول، إضافة إلى ضعف الرقابة على المنصات الرقمية التي توفِّر للتنظيمات الإرهابية مجالًا رحبًا للتواصل مع المستهدفين. كما سجلت السلطات الإسبانية في عامي 2024م و2025م معدلات غير مسبوقة من الاعتقالات المرتبطة بالإرهاب الجهادي، بلغت 81 معتقلًا خلال العام الواحد، وهو الرقم الأعلى منذ 2005م. وأغلب هذه القضايا ارتبطت بأنشطة دعائية وتحريضية عبر الإنترنت أو الوسائط المغلقة، فيما تمكنت الأجهزة الأمنية من تفكيك خلايا صغيرة قبل وصولها إلى مرحلة التنفيذ، بفضل تشديد الرقابة الميدانية والرقمية، مع أنها حتى الآن غير كافية. وبرغم هذه النجاحات، لا تزال ظاهرة "الذئاب المنفردة" تمثل التحدي الأكبر؛ إذ تتميز بقدرتها على التحرك بشكل فردي وإمكانات محدودة، مع استهداف مواقع سهلة وذات رمزية عالية، ما يصعِّب عملية التنبؤ بهجماتها، أو إحباطها في وقت مبكر.
وفي النهاية، فإن ما نشهده اليوم هو انتقال الإرهاب الجهادي من طوره التقليدي القائم على السيطرة المكانية والعمليات المسلحة واسعة النطاق، إلى مرحلة أكثر تعقيدًا وتخفيًا، حيث يختلط الميدان المادي بالفضاء الافتراضي. إذ لم تعد التهديدات مقترنة فقط بالسلاح أو العبوة، بل بالبيانات المضللة، وخطاب الكراهية الرقمي، وتقنيات الذكاء الاصطناعي التي تعيد صياغة الرواية بما يخدم أجندات التطرف. ويجعل هذا التحول من المواجهة معركة متعددة الجبهات، تتقاطع فيها اعتبارات الأمن مع قضايا الفكر والثقافة، وحماية النسيج الاجتماعي من التمزق. ولعل أخطر ما في الأمر هو أن هذه التنظيمات باتت تمتلك قدرة على اختراق العقول قبل الحدود، مستهدفة الشباب والمهمشين بخطاب عاطفي مُنمّق ومضلل. لذا، فإن أية إستراتيجية ناجحة لا بد أن تمزج بين الصرامة الأمنية، والتحصين الفكري، والعمل الإعلامي التوعوي، مدعومة بشراكات دولية حقيقية، لضمان بيئة مقاومة للتطرف، قادرة على إبطال مفعول دعايته قبل أن تتحول إلى فعل مدمر.
وحدة رصد اللغة الإسبانية