كيف يصبح الذكاء الاصطناعي درعًا رقميًّا أمام خطاب الكراهية؟

  • | الإثنين, 1 سبتمبر, 2025
كيف يصبح الذكاء الاصطناعي درعًا رقميًّا أمام خطاب الكراهية؟

مقدمة:

إنّ المتأمل في موجة الأحداث الإرهابية التي شهدتها عدد من دول العالم خلال السنوات الأخيرة، لا تخطئ عيناه أبدًا أنَّ «خطاب الكراهية» هو المحرك الرئيس للعديد من أعمال العداء والتمييز والعنف، ويعود ذلك إلى غياب خط فاصل متّفَقٌ عليه دوليًّا أو محليًّا بين حرية التعبير التي يكفلها القانون الدولي لحقوق الإنسان، وبين ما يُعد تحريضًا مباشرًا ضد شخص ما، أو مجموعة من الأشخاص؛ بسبب دين، أو عرق، أو لون، أو جنس، أو غيرها من الصفات الفردية.

كما تؤكد معاناة الضحايا الأبرياء لهذه الهجمات، حقيقة أن «الخطاب المتشدد» على المستوى العقائدي أو السياسي، لا سيما في ظل الثورة التكنولوجية الهائلة وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح وعاءً لترويج الأفكار والأهواء المغلوطة والمتطرفة إلى جمهور واسع بسرعة غير مسبوقة.

ومع ازدياد التفاعل البشري عبر الشبكة العنكبوتية، وارتفاع وتيرة استخدام منصات التواصل الاجتماعي، تحول «خطاب الكراهية» إلى ظاهرة واسعة الانتشار، تنتقل كالنار في الهشيم، مما جعل الحاجة إلى أدوات تقنية متطورة أمرًا ملحًّا، بهدف رصد هذا الخطاب والحدّ من آثاره المدمرة على الأفراد والمجتمعات.

وفي هذا السياق، برز دور الذكاء الاصطناعي (AI) كأحد أبرز الحلول التكنولوجية التي يمكن الاستفادة منها لمواجهة هذه الظاهرة. فبفضل قدراته المتقدمة في تحليل البيانات، وتصنيف المحتوى، والتعلم المستمر، يتيح الذكاء الاصطناعي إمكانية الكشف المبكر، ورصد خطاب الكراهية بشكل دقيق وسريع. ورغم أنه لا يمثل حلًّا سحريًّا أو بديلًا عن الدور البشري، فإنه يشكل أداة فاعلة إذا ما استخدم ضمن إطار قانوني وأخلاقي واضح، وبالتكامل مع جهود الحكومات، والمجتمع المدني، وشركات التكنولوجيا.

ومن هنا، يهدف هذا المقال إلى تحليل الدور الذي يمكن أن يؤديه الذكاء الاصطناعي في مكافحة خطاب الكراهية، من خلال استعراض الفرص التي توفرها هذه التكنولوجيا وتحليلها، والوقوف عند التحديات الأخلاقية والتقنية التي تحيط بها. كما يسعى إلى تقديم تعريف منهجي لمفهوم «خطاب الكراهية»، بوصفه تعبيرًا يتضمن تحريضًا أو تمييزًا أو إساءة لفظية موجهة ضد أفراد أو جماعات على أساس العرق، أو الدين، أو الجنس، أو الجنسية، أو الإعاقة، أو غيرها من السمات الشخصية. وتتخذ هذه الخطابات أشكالًا متعددة، منها النصوص المكتوبة، والصور، والرموز، والمقاطع المصورة، وغالبًا ما تحمل مضامين سياسية، أو اجتماعية، أو دينية متطرفة.

أهمية توظيف الذكاء الاصطناعي في رصد «خطاب الكراهية» ومكافحته:

جدير بالذكر أنّ توظيف الذكاء الاصطناعي في رصد «خطاب الكراهية» أصبح ضرورة متزايدة في ظل الانتشار الواسع للمحتوى الرقمي، خاصة على منصات التواصل الاجتماعي. وتتمثل آلية عمل هذه التقنية في سلسلة من الخطوات التقنية تبدأ بجمع البيانات، مرورًا بمعالجتها وتحليلها، وتدريب نماذج متخصصة على التعرف إلى الأنماط الخطابية العدائية، وصولًا إلى دمجها في أنظمة مراقبة المحتوى، مع المتابعة المستمرة لأداء هذه النماذج وتحديثها دوريًّا لضمان الدقة والفعالية.

وتكمن أهمية هذا التوظيف في عدة جوانب، أبرزها القدرة على الاستجابة السريعة للبلاغات والانتهاكات، وحماية الفئات المستضعفة والمستهدفة بخطاب الكراهية، وتحسين بيئة الحوار الرقمي. كما يوفر الذكاء الاصطناعي دعمًا نوعيًّا للجهات القضائية والأمنية من خلال تقديم بيانات وإحصائيات دقيقة حول النشاطات الخطابية العدائية عبر الفضاء الإلكتروني.

وبفضل تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، خاصة النماذج القائمة على التعلم العميق، بات بالإمكان مراقبة المحتوى الرقمي على منصات التواصل وفهمه وتحليله بشكل لحظي، بما يسمح بالتدخل السريع عبر إزالة أو حجب المحتوى المسيء قبل أن يتوسع نطاق تأثيره. ومع ذلك، فإن فعالية هذه الأنظمة تظل مشروطة بوجود توازن دقيق بين الكفاءة التقنية من جهة، والحفاظ على الحريات الأساسية، واحترام التنوع الثقافي من جهة أخرى. ومن هنا تبرز أهمية تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تشاركية، تعتمد على الشفافية، والتحديث المستمر، وإشراف بشري فعال لضمان نزاهة النتائج.

علاوة على ذلك، يُسهم استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل فعال في التخفيف من الآثار النفسية السلبية التي قد تلحق بضحايا خطاب الكراهية والتمييز، وذلك من خلال تقليل تعرضهم لمثل هذه المضامين عبر تصنيفها، أو حجبها بشكل استباقي. كما يُسهم في بناء بيئة رقمية أكثر أمنًا وشمولًا تدعم التفاعل الايجابي، من خلال حماية حرية التعبير وتحد من مظاهر التهديد أو الترهيب اللفظي أو الرمزي، ما يعمل على تمكين الفئات الأكثر استهدافًا من قبل خطاب الكراهية والتمييز، مثل النساء والأقليات، والمهاجرين وغيرهم، من المشاركة بحرية في المجال الرقمي.

ومن خلال التحليلات المستخرجة من أنظمة الذكاء الاصطناعي يمكن لجهات صنع القرار والسياسات رسم خرائط دقيقة لمواقع انتشار خطاب الكراهية،  والتعرف على الاتجاهات العامة للخطاب العام، ما يُمكنها من وضع إستراتيجيات توعوية أو تشريعية استباقية تُسهم في الوقاية من مظاهر العنف الجماعي أو التحريض السياسي أو الطائفي.

وعليه فإن توظيف الذكاء الاصطناعي في رصد خطاب الكراهية لم يعد خيارًا تكنولوجيًّا فحسب، بل تحول إلى ضرورة أخلاقية ومجتمعية، تمثل خط الدفاع الأول في مواجهة المحتوى الضار، ويُسهم في بناء فضاء رقمي أكثر عدالة وأمانًا وتسامحًا.

التحديات المرتبطة باستخدام الذكاء الاصطناعي في مكافحة «خطاب الكراهية»:

على الرغم من الإمكانات الكبيرة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي في رصد خطاب الكراهية ومكافحته، إلا أنّ توظيفه يواجه مجموعة من التحديات المعقدة، والتي تستوجب بناء إطار قانوني وأخلاقي متماسك، إضافة إلى اعتماد مزيج متوازن بين القدرات التقنية للأنظمة الذكية، والإشراف البشري لضمان حماية الحقوق والحريات الفردية. وتتمثل أبرز هذه التحديات فيما يلي:

1-     صعوبة التمييز بين حرية التعبير وخطاب الكراهية

أحد أبرز التحديات التي تواجه مطوري أنظمة الذكاء الاصطناعي هي التفرقة بين حرية التعبير المحمية قانونيًّا وبين خطاب الكراهية المحظور. إذ قد يعجز الذكاء الاصطناعي عن التفرقة الدقيقة بين الرأي المشروع والمحتوى التحريضي، خاصة في المواضيع السياسية أو الدينية التي تتسم بالحساسية العالية.

التحيز في البيانات والنماذج

تعتمد فعالية خوارزميات الذكاء الاصطناعي على جودة البيانات التي تُدرَّب عليها وتوازنها. وعندما تكون هذه البيانات محدودة أو غير شاملة، تظهر نتائج منحازة قد تؤدي إلى إغفال أنماط معينة من الكراهية، أو إلى استهداف غير عادل لبعض الفئات مثل النساء أو الأقليات أو اللاجئين.

فهم التنوع الثقافي واللغوي

يواجه الذكاء الاصطناعي صعوبة في فهم الفروقات الثقافية واللغوية المختلفة مثل: اللهجات، والمصطلحات المحلية، مما قد يؤدي أحيانًا إلى تصنيف خاطئ للمحتوى، إما باعتباره خطاب كراهية دون مسوغ، أو العكس.

التعامل مع المحتوى متعدد الوسائط

لا يقتصر خطاب الكراهية على النصوص فقط، بل يشمل الصور، الفيديوهات، الرموز التعبيرية، والرسوم المتحركة.. وتحليل هذه الوسائط يتطلب تقنيات متقدمة في مجالات الرؤية الحاسوبية والتعرف الصوتي، مما يزيد من التكاليف التقنية، ويعقد عمليات المراقبة.

التطور المستمر لأساليب خطاب الكراهية

يبتكر المستخدمون الذين يسعون إلى نشر خطاب الكراهية طرقًا جديدة لتجاوز أنظمة الكشف مثل (استخدام كلمات مشفرة، أو تعبيرات جديدة)، لذا يجب تحديث النماذج والخوارزميات باستمرار لمواكبة هذه التغيرات، لكي تبقى فعالة أمام هذه الأساليب المتغيرة.

الخصوصية وحماية البيانات

مراقبة المحتوى وتحليله يستوجب التعامل مع كميات ضخمة من البيانات الشخصية، وهذا يثير مخاوف جدية بشأن انتهاك الخصوصية، أو إساءة استخدام البيانات، ما يفرض ضرورة وضع ضوابط قانونية واضحة تحكم عمليات الجمع والمعالجة.

الإشراف البشري والمساءلة

رغم تقدم الذكاء الاصطناعي، فإن الاعتماد الكلي عليه دون رقابة بشرية، قد يؤدي إلى قرارات خطأ أو تمييزية، لذا كان ضروريًّا وجود مراجعة بشرية لضمان العدالة وفهم السياقات المعقدة التي قد تتجاوز قدرة الآلة على التقييم الدقيق.

احتمالية إساءة استخدام التكنولوجيا

في بعض السياقات السياسية، قد تُستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي أداةً للرقابة على الخطاب المعارض، أو قمع حرية التعبير، تحت ذريعة مكافحة خطاب الكراهية. وهذا يسلط الضوء على أهمية وجود ضوابط ومعايير شفافة تُقيد الاستخدام القمعي للتكنولوجيا.

خاتمة:

في ظل التوسع الهائل في استخدام الفضاء الرقمي، أصبح من الضروري توظيف أدوات فعَّالة للحد من تفشي خطاب الكراهية المتنامي على المنصات الإلكترونية. وقد أثبت الذكاء الاصطناعي كفاءته العالية في رصد هذا الخطاب وتحليله والتعامل معه بسرعة وكفاءة تفوق الإمكانات البشرية. وعلى الرغم من التحديات التقنية والأخلاقية المرتبطة باستخدام هذا النوع من التكنولوجيا، فإنها تظل وسيلة واعدة لتعزيز بيئة تواصل أكثر أمانًا واحترامًا وتنوعًا. ومع ذلك، فإن نجاح الذكاء الاصطناعي في هذا الدور مرهون بتكامل الجهود التقنية مع الأطر القانونية والرقابة الإنسانية، لضمان الاستخدام العادل والمسؤول للذكاء الاصطناعي دون المساس بحرية التعبير، أو انتهاك الخصوصية.

فنجد أن توظيف الذكاء الاصطناعي في مكافحة خطاب الكراهية يمثل تحولًا نوعيًّا في آليات مراقبة المحتوى الرقمي، وتحسين جودة التفاعل في الفضاء الإلكتروني. إذ تتيح تقنيات المعالجة اللغوية والتعلم الآلي إمكانية رصد المحتوى المسيء وتحليله على نطاق واسع وضمن أطر زمنية قصيرة، ما يسهم في الحد من انتشار الخطاب الضار، وتعزيز الأمان الرقمي. ومع ذلك، تظل فعالية هذه التقنيات مرهونة بمدى دقتها في فهم السياق اللغوي والثقافي، وبمدى توفر بيانات تدريبية خالية من التحيز، فضلًا عن وجود رقابة بشرية تكميلية. إن تطوير نظم ذكاء اصطناعي متوازنة، تُراعي الخصوصية وتفصل بين حرية التعبير وخطاب الكراهية، يعد شرطًا أساسيًّا لضمان استخدامها بشكل عادل، ومسؤول.

وحدة الرصد باللغة الفرنسية


 

طباعة