الإسلام والفنون (2)

  • | الأربعاء, 23 نوفمبر, 2016
الإسلام والفنون (2)

إذا كان الإسلام قد دعا إلى الإحساس بالجمال وتذوقه وحبه؛ فإنه قد شرع التعبير عن هذا الإحساس والتذوق بما هو جميل أيضًا بعيدًا عن الإسفاف، وأبرز ما يتجلى ذلك من فنون القول، الإبداع في الشعر والنثر والمقامات والقصة  والملحة، وسائر فنون الأدب، وقد استمع النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى الشعر وتأثر به، ومنه قصيد كعب بن زهير الشهيرة "بانت سعاد" وفيها من الغزل ما هو معروف، بل واستشهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالشعر كما في قوله – صلى الله عليه وسلم -:"أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ"متفق عليه. وعَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا اسْتَرَاثَ الْخَبَرَ (أي استبطأه)تَمَثَّلَ بِبَيْتِ طَرَفَةَ: «وَيَأْتِيكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ» رواه الترمذي. وأنشد الشعر الصحابة  بحضرته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-في الأسفار وغيرها، وأنشده الخلفاء  وفضلاء السلف، ولم ينكره أحد منهم على إطلاقه، وإنما أنكروا المذموم منه وهو الفحش ونحوه.
 فالشريعة لا تحرّم الأعمال الأدبية، من شعر وأدب وغيرهما، ولكنها في نفس الوقت لا تبيحها بإطلاق؛ بل تقيد إباحة الأعمال الأدبية، والإبداع الأدبي بقيدين هما: عدم تضمنه أمرًا محرمًا، وعدم معارضته للقرآن والسنة، ويستأنس لهذا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:"إنَّ مِن البَيانِ سِحْراً، وإن مِنَ الشعرِ حِكماً" رواه أبو داود، فمفهوم الحديث أن من الشعر ما هو بعيد عن الحكمة، بل هو نقيضها، مثل شعر المديح
 بالباطل، والفخر الكاذب , والهجاء المتعدي، والغزل المكشوف، ونحو ذلك مما لا يتفق مع القيم الأخلاقية، والمثل العليا.
فالفن وسيلة إلى مقصد، فحكمه حكم مقصده، فإن استخدمه في حلال فهو حلال، وإن استخدمه في حرام يكون حرامًا، لذا يعبر عنه بـ (حسنه حسن،وقبيحه قبيح) فإذا كانت الموسيقى والغناء تحمل ألحانًا جميلة وكلمات مهذبة وأنغاما راقية، وأصواتًا جميلة فذلك لا يرفضه الإسلام، طالما كان في إطار المبدأ الأخلاقي؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة، وقد سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – صوت الدف والمزمار دون تحرج، وفي يوم عيد، فعَنْ عَائِشَةَ  -رضي الله عنها- ، قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ، تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ
 بُعَاثٍ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي،
 وَقَالَ: مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "دَعْهُمَا"، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا، وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِمَّا قَالَ: "تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ"؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: "دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ" حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ: حَسْبُكِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَاذْهَبِي" متفق عليه.
ففي الحديث دليل على جواز سماع الرجل صوت الجارية الأجنبية؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- سمع، ولم ينكر على أبي بكر سماعه، بل أنكر إنكاره، وقد استمرتا تغنيان، إلى أن أشارت إليهما عائشة بالخروج. بل أذن رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للسيدة عائشة وأوصاها أن ترسل من يغني في حفل زفاف امرأة زفت  إلى رجل من الانصار فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما كان مرحكم لهوٌ، فإن الانصار يعجبهم اللهو"  وفي رواية: " فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغنى؟ قلت: تقول ماذا؟ قال تقول: أتيناكم أتيناكم… فحيانا وحياكم" رواه ابن ماجه.
أما ما جاء في صحيح البخاري يُفهم منه حرمة الغناء والموسيقى وهو حديث رسول -صلى الله عليه وسلم-الذي قال فيه:"لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِى أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ، وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ، وَالْمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ لِحَاجَةٍ، فَيَقُولُوا: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ الْعَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"
وإن كان (هذا الحديث) في صحيح البخاري إلا أنه من المعلقات لا من الأسانيد المتصلة، و لذلك رده ابن حزم لانقطاع سنده ... و بهذا لا يصلح للاستدلال به على تحريم الغناء.
والحديث يصف حالة أقوام يستحلون الغناء الماجن ويمارسون الفحش ويلبسون الحرير أثناء ارتكاب هذه الفاحشة في صورة واحدة.
أما بالنسبة للنحت والتصوير، فمحل اتفاق بين العلماء أنه حرام إذا قُصد بها العبادة أو المضاهاة لخلق الله –عزوجل–التي يُقصد بها أن يتحدى صنعة الخالق -عز وجل- ويفتري عليه بأنه يخلق مثل خلقه.
 أما غير ذلك فالرأي الراجح المفتى به الجواز، والدليل على ذلك قوله -تعالى-:"يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ" (سورة سبأ: 13).
ووجه الدلالة من الآية على الإباحة: أن الله امتن على سيدنا سليمان  بصناعة التماثيل، فدل ذلك على أنها لم تكن للعبادة، لأن الله لا يمتن بما هو شرك، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا ما لم ينص على تحريمه في شرعنا؛ لِقَوْلِهِ-تَعَالَى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}(سورة الأنعام:90).
كما يستدل على إباحة النحت والتصوير، إذا لم تكن بقصد العبادة بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَقِّ الْمُصَوِّرِينَ "الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ" وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ "الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ"  وَقَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:"وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا ذَرَّةً".
أما بالنسبة للتشدد في عقوبة المصورين التي وردت في حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قوله: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ" فالمقصود بالتصوير الوارد في الحديث هو صناعة التماثيل لمضاهاة خلق الله وليس التصوير المعتاد الذي يعرفه الناس اليوم فهذا لا يطلق عليه تصوير ولكن (حبس الظل) والذي أصبح ضرورة من ضرورات الحياة المعاصرة.
كما يستدل على الإباحة أيضا بتعامل الصحابة والتابعين بالدنانير الرومية والدراهم الفارسية دون نكير رغم ما كان عليها من نحت بارز.

 

طباعة
كلمات دالة:

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.