من الناس من يحسب أن هناك خصومة بين الإسلام وبين الجمال، تدعو المسلمين إلى التجهم في النظرة إلى الحياة، وإدارة الظهر إلى ما في الكون من آيات البهجة والزينة والجمال .. يحسبون ذلك، فيقولونه، أو يعبرون عنه بالسلوك المتجهم إزاء آيات الجمال والفنون والإبداعات الجمالية في هذه الحياة.
وهذه نظرة خاطئة للإسلام؛ بل إن الإسلام يحيي الشعور بالجمال، ويؤيد الفن الجميل، فقد أحيا الإسلام ألوانًا من الفنون، وازدهرت في
حضارته، وتميزت بها عن سائر الحضارات الأخرى.
وإذا كانت روح الفن هي الإحساس بالجمال وتذوقه، فهذا ما عُني القرآن الكريم بالتنبيه عليه وتأكيده في أكثر من موضع من آي الذكر الحكيم.
إن الجمال الذي يظن بعضٌ من الناس مخاصمة الإسلام له، هو – إذا نحن تأملناه – بعض من آيات الله سبحانه وتعالى، التي أبدعها في هذا الكون، وأودعها فيه، إنه بعضٌ من صنع الله وإبداعه سوّاه وسخّره للإنسان، طالبًا منه أن ينظر فيه، ويستجلي أسراره، ويستقبل تأثيراته، ويستمتع بمتاعه، ويعتبر بعبرته "وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (سورة الأنعام : 99) إنها آيات خلق الله، يأمر الإنسان أن ينظر فيها.
وأينما يمم الإنسان بصره أو بصيرته أو عقله أو قلبه، فإنه واجد آيات الله التي خلقها "زينة" للوجود، ودعاه إلى النظر فيها "إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ"(سورة الصافات6-7) فهذه"الزينة" التي هي آيات إبداع الله – سبحانه وتعالى – هي "زينة جمال" يدعو الله الإنسان إلى النظر فيها، بل وبيّن- سبحانه - أنه خلقها ليس "للحفظ" فقط، ولا "للمنفعة" وحدها، وإنما"للزينة" التي أبدعها الله؛ لينظر فيها الإنسان ويستمتع بما فيها من جمال!
ومثل ذلك حديث القرآن الكريم عن آيات خلق الله التي أبدعها لنا في صورة "الحيوان" المسخر للإنسان، فليست "المنفعة" وحدها هي الغاية من هذا الخلق والتسخير، وإنما"الجمال" و"الزينة" أيضًا غايات يتغياها الإنسان من هذا الخلق الذي خلقه الله، قال تعالى: "وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ *وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ*وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (سورة النحل : 5 – 6 – 7- 8 )فليست"المنفعة المادية" فقط هي غاية خلقها وتسخيرها للإنسان،إذ "الجمال والزينة" كذلك منفعة محققة ولازمة أيضًا للإنسان!
وكذا البحار التي سخرها خالقها للإنسان .. لا تقف منافعها عند المنافع المادية – اللحم الطري، وسبل الاتصال – وإنما ابتغاء "الحلية، والزينة، والجمال" أيضًا من منافعها "وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (سورة النحل " 14).
فالقرآن يلفت أنظارنا إلى ما في الكون من تناسق وإبداع وإتقان , وما يتضمنه ذلك من جمال وسرور وبهجة للناظرين، ومن هنا لا يعقل أن يرفض الإسلام الفن إذا كان جميلا، فإذا كان الفن هدفه المتعة الذهنية، وترقيق الشعور، وتهذيب الأحاسيس، فلا اعتراض عليه؛ لأنه يتسق مع الإسلام الذي لا يعادي الجمال، بل يدعو إليه، ويحث عليه، ويرغب فيه.
ومن ثَمَّ فالفن هو في حقيقته إبداع جمالي لا يعاديه الإسلام، وغاية ما في الأمر أن الإسلام يجعل الأولوية للمبدأ الأخلاقي على المبدأ الجمالي – بمعنى أن يجعل الثاني مترتبًا على الأول ومرتبطا به - وهذا هو الموقف المبدئي للإسلام إزاء جميع أشكال الفنون.