ثالثا: الإطار الصحيح لفهم آيات القتال في القرآن الكريم :
إن من أبجديات التحقيق العلمي لدى أي باحث منصف جمعَ النصوص المختلفة ذات الموضوع الواحد مع مراعاة السياق والدلالات الزمانية والمكانية ومقاصد الشريعة للخروج بنتيجة صحيحة.
أما بتر النصوص، أو عزلها عن سياقها، أو تأويلها على غير مرادها، أو تفسيرها بما يتناقض مع القطعيات الأخرى، وبما يخالف مقاصد الشريعة الحنيفية السمحة الغراء ومرد ذلك إلى الجهل باللغة وفساد القصد.
وقضية الجهاد أو القتال في القرآن الكريم والسنة النبوية من القضايا الخطيرة والتي يتهم فيها الإسلام ظلما وعدوانا من أعدائه الذين يتحينون الفرص للنيل منه والإساءة إليه، ويأتي هذا المقال لوضع الأمور في نصابها وفهم آيات القتال والجهاد فهما صحيحا بغير إفراط ولا تفريط.
ومن ذلك: قوله تعالى {قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } [التوبة: 14]
وقد استشهد الكاتب [كينيث آل وود وارد] بهذه الآية على أنها تحث المسلمين على قتال المعارضين بغير وجه حق.
تفنيد هذه الشبهة: إن هذه الآية وردت في سياق متصل، وعزلها عن السياق الذي جاءت فيه هو سبب الخطأ في فهم هذه الآية قال تعالى {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } [التوبة: 12، 13، 14]
فالأمر بالمقاتلة هنا ليس عاما، ولكنه متعلق بقوم نكثوا العهد، وطعنوا في الدين وأخرجوا المسلمين من ديارهم، وتربصوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة.
ومما يتعلق بهذا المقام ضرورة التفريق بين "اقتلوا – وقاتلوا" فاقتلوا: أمر بإزهاق الأرواح، أما " قاتلوا " فهو لفظ من ألفاظ المفاعلة، وألفاظ المفاعلة بحسب الدلالة اللغوية تدل على مشاركة طرفين فهناك من يقاتل ظلما وعدوانا، وهناك من يقاوم هذا الظلم، وهذا يستفاد من التعبير بهذه الصيغة "قاتلوا".
وهذا هو فهم الأئمة لهذه الآية يقول الإمام الشافعي: "ليس القتال من القتل بسبيل فقد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله" [1].
إذا: فالمقاتلة تعني المحاربة وتحري القتل من الطرفين، وهذا يقتضي المجابهة لرد الاعتداء؛ لأن الفعل واقع من كل واحد وعليه وهي من باب الفاعلين والمفعولين الذي يفعل كل واحد بصاحبه ما يفعله صاحبه به فالسياق طبيعي لنزول الآية من باب الرد بالمثل.
ولذلك في موضع آخر لما تجمع الكفار وتواطئوا جميعا على قتال المسلمين اقتضى السياق المثلية في المواجهة فأنزل الله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]
والمعنى: قاتلوهم جميعا كما يقاتلونكم جميعا، وهذه هي قواعد الحرب أن كلا من الطرفين يتربص بالآخر لتكون له الغلبة فإذا جاز ذلك للمشركين فمن باب أولى أن يجوز للمسلمين لأنهم أصحاب حق ومظلومون.
فإن لم تكن هناك ضرورة للحرب وتوقف الآخر عن قتال المسلمين سارع الإسلام إلى السلم أخذا بقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61]، وقوله صلى الله عليه وسلم "لا تقاتلوا إلا من قاتلكم" ذلك أن الإسلام يحب البقاء ويكره الفناء، وقد كشف القران الكريم عن هذا المبدأ وهو يوثق العلاقة بين القرآن والتوراة في حق الإنسان في الحياة، فقال تعالى: { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} المائدة:32.
رابعا: أخلاقيات الإسلام في ميدان القتال إذا ما استدعته الضرورة :
بعد أن بينا أن القضية الأساس في التعامل مع الغير المسلمين الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والتعايش السلمي، وأن القتال يشرع لضرورة طارئة ولسبب عارض، وعند زوال هذا السبب يعود الأمر إلى طبيعته من التعاون والتعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم إلا أن الشريعة لم تقف عند هذا الحد وحسب، بل وضعت الضمانات الكافية التي تقلل من أخطار الحروب وويلاتها، وتمنع المدنيين من أن يصطلوا بنارها.
ومن التشريعات الإسلامية في هذا الشأن ما يلي:
1 - النهي عن العدوان بغير حق:
إن غايات القتال في الإسلام نبيلة فلا يشرع في الإسلام قتال لنهب الأموال واستعباد الأحرار ونشر الخراب والإرهاب في الأرض، وإنما يشرع القتال والجهاد في الإسلام لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإعلاء كلمة الله ورد عدوان المعتدين وحماية الدين والنفس والمال والعرض.
وتتفق الشريعة الإسلامية مع سائر الشرائع الربانية في تشريع رد العدوان ومقاومة الظلم الواقع على المستضعفين في الأرض، إلا أن الشريعة قد اتخذت خطوات واسعة لتجنب الأضرار التي تنشأ عن المبالغة في رد العدوان فقال تعالى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194]
حيث قررت هذه الآية وجوب الوقوف في رد العدوان على المجازة بالمثل، وهذه الآية وإن أفادت بمفهومها حرمة مجاوزة حد المثل في رد العدوان فقد صرحت آية أخرى بهذا المعنى قال تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
بل إن الإسلام يحث المسلمين على المسارعة في إنهاء الحروب والنزاعات بأسرع إشارة تظهر نية الخصم في الصلح والجنوح للسلم قال تعالى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الأنفال: 61]
وفي التعبير بقوله "وَإِنْ جَنَحُوا" أي مالوا إلى مسالمتك وترك الحرب[2]، دلالة على تشوف الشارع لحقن الدماء وإنهاء النزاعات؛ لأن الحرب لا تبقي ولا تذر.
2 -النهي عن قتل النساء والأطفال والرهبان:
ومن النصوص التيوردت في هذا الشأن ما يلي:
- أنامرأةوجدتفيبعضمغازيالنبيصلىاللهعليهوسلممقتولةفأنكررسولاللهصلىاللهعليهوسلمقتلالنساءوالصبيان "[3].
- عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا" [4]
- وروي عن أَنَس بن مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا طِفْلًا وَلَا صَغِيرًا وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَغُلُّوا، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ، وَأَصْلِحُوا وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»[5].
- عن الأسود بن سريع : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث سرية يوم حنين فقاتلوا المشركين فأفضى بهم القتل إلى الذرية ، فلما جاؤوا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما حملكم على قتل الذرية ؟ قالوا يا رسول الله إنما كانوا أولاد المشركين.
قال أو هل خياركم إلا أولاد المشركين؟
والذي نفس محمد بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها[6].
ونستنتج من هذه الأحاديث ما يلي:
- النهي عن قتل النساء والصبيان أثناء الحرب المشروعة، فكيف بالحرب غير المشروعة بل البطش والعدوان والاحتلال؟
- مجرد المخالفة في العقيدة لا تبيح دم المخالفين، ولهذا كان رد النبي صلى الله عليه وسلم حاسما عندما قال: هل خياركم إلا أولاد المشركين؟
- قضية النهي عن قتال النساء والصبيان غير المحاربين مجمع عليها، قال ابن رشد: "لَاخِلَافَبَيْنَ المسلمين على أَنَّهُلَايَجُوزُقَتْلُصِبْيَانِ غير المسلمين وَلَاقَتْلُنِسَائِهِمْمَالَمْتُقَاتِلِالْمَرْأَةُوَالصَّبِيُّ[7].
وبعد هذا:
فبأي مسوغ من منطق، أو أثارة من علم يتهم الإسلام زورا وبهتانا بالإرهاب وتعطشه للدماء؟؟؟
ألا إن الذين يفترون على الله الكذب فيأولون القرآن تأويلا فاسدا، ويزعمون أن الإسلام يدعوا إلى استحلال الدماء والأموال بغير وجه حق ضالون منحرفون، وهذا شذوذ في الرأي وتطرف في الفكر لا يتردد الأزهر الشريف في إعلان البراءة منه ومن الضالين المنحرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
إن تاريخ الإسلام والمسلمين صفحة ناصعة البياض، وإن سلوك بعض الجماعات المتطرفة هنا وهناك وصمة عار في جبينها، أما الإسلام فهو أسمى وأجل وأعظم من أن يتحدث باسمه متطرف أو منافق أو جاهل.
[7]بدايةالمجتهدونهايةالمقتصد (2/ 146)