الغلو في الدين

1

  • | الخميس, 5 يناير, 2017
الغلو في الدين

الدين الإسلامي دين وسط لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا يعرف التطرف ولا الغلو، بل هو دين السلام والسماحة واليسر، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) [سورة البقرة آية: 143] 

فبالوسطية بُعث نبينا ــ صلى الله عليه وسلم ــ  وعليها ربى أصحابه، الذين حملوا هديه، فأناروا العالم، وملكوا القلوب قبل أن يملكوا البلاد؛ ولذا كانت بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منة أنعم الله بها على المؤمنين، قال تعالى (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) [سورة آل عمران آية: 164كما كانت رسالته رحمة للعالمين، قال عز وجل (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)  [سورة الأنبياء آية: 107 وكان شرعه -صلى الله عليه وسلم- رحمة وهدى وشفاء، وفيه تبيان لكل شيء، قال تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)  [سورة النحل آية: 89]

ونتيجة لهذه السمات التي تميز بها ديننا كان بطبعه يرفض التطرف والغلو الذي يُعد منهجًا غريبًا عنه، فالغلو ليس من الإسلام في شيء، وليس من شأن المسلم الحق، وإنما تعود بذرته الأولى إلى بعض الجهلة والغوغائية، وكان ضحيتهم بعض الغيورين والمندفعين من الشباب الغر، الذين انخدعوا بزيفهم، وكانوا بذلك معاول هدم، وحُكم على الإسلام من خلال سلوكهم بأنه دين إرهاب، يميل إلى العنف، ويهوى التخريب، وسفك الدماء.

لا تكاد توجد أمة عانت من الغلو ما عانت منه أمتنا، فيكفي أن يوسم الإسلام جزافًا بالإرهاب والتطرف بسبب شراذم من الأراذل ضيقي الأفق والعقل، الذين اتخذوا من الدمار والقتل وترويع الآمنين منهجًا لهم، ولو أنهم تسلحوا بالعلم، وتحصنوا بوسطية الدين وهديه لكان أفضل وأزين.

أولا:  مفهوم الغلو في الدين لغة واصطلاحًا

  • الغلو لغة:

تشير مادة (غلا) إلى الارتفاع ومجاوزة الحد، وهذا المعنى هو الذى توافقت عليه معاجم اللغة، تقول غلا الماء إذا فار وارتفع، وغلا السعر إذا تجاوز العادة، والسهم يغلو غلوًا إذا وصل لأقصى الغاية، وغلا القدر إذا فاض بما فيه وطفح، وغلا في الدين إذا تشدد وتصلب حتى جاوز الحد.  

  • الغلو اصطلاحًا:

لم يبتعد التعريف الاصطلاحي للغلو كثيرًا عن التعريف اللغوي، فإذا كان المفهوم اللغوي للكلمة عام في كل تجاوز ماديًا كان أم معنويًا، فإن التعريف الاصطلاحي خصص الغلو وحدد مفهومه أكثر، فاقتصر على الجانب المعنوي الذى ينم عن توجه فكري يظهر أثره على السلوك، وقد وضع العلماء عدة عبارات تشرح معنى الغلو اصطلاحًا، ومن هذه العبارات:

1ــ عرفه ابن حجر العسقلاني في فتح الباري بأنه هو: المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد، وفيه معنى التعمق والزيادة على ما لم يطلب شرعًا.  

2ـ وفسر الفخر الرازي الغلو بالإفراط في جانب التعظيم.

3ــ ومن قبل الرازي فسر الزمخشري الغلو بأنه هو مجاوزة الحد في التعظيم أو في الغض والتنقيص من شيء ما.

وهذا الذى ذكره الزمخشري في تفسير الغلو يخصص المعنى الظاهري للغلو الذي يدل على مجاوزة الأمر ارتفاعًا وفعلاً، فالغلو -بحسب مادته لغة- يدل على المبالغة في الالتزام والتمسك، وأساسه عدم فقه النص، وأما الغلو الذي يقرره الزمخشري هنا فهو المبالغة في الشيء إفراطًا أو تفريطًا، فعلاً أو تركًا، فكلاهما يسمى غلوًا، والمنهج الوسط هو سلوك ما بينهما.

ثانيا: ذم الغلو في القرآن والسنة

يعدُّ الغلو انحرافًا عن الصراط المستقيم، وطغيانًا وخروجًا عن حد الاعتدال؛ ولذا جاء ذمه معلومًا مشهورًا في القرآن والسنة.

ففي القرآن الكريم جاء ذم الغلو في أكثر من موضع وبأكثر من لفظ:

  1. فتارة يذمه مصرحًا بلفظ الغلو كما في قوله تعالى (يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) [سورة النساء آية: 171]
  2. وتارة يعبر عنه بلفظ الطغيان كما في قوله تعالى (ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي) [سورة طه آية: 81]
  3. وأحيانًا يعبر عنه بلفظ البغي كما في قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) [سورة النحل آية: 90]

وأما في السنة المطهرة فقد ورد النهي عن الغلو بألفاظ متعددة منها:

  1. الغلو: كما في قوله صلى الله عليه وسلم (إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا الدماء واستحلوا المحارم).
  2. التنطع: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (هلك المتنطعون).
  3. التعمق: كما في قوله صلى الله عليه وسلم (إن أقوامًا يتعمقون في الدين يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية).
  4. التشدد: كما في قوله صلى الله عليه وسلم (إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه...).
  5. ومن الغلو أن أقف عند رأي معين في مسألة فرعية، وأبدع وأكفر كل من لم يأخذ بهذا الرأي، وهذا ما يعبر عنه بقول بعضهم يجب تجنب القطع والإنكار في المسائل الخلافية.
  6. التعسير والتنفير: كما في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري ــرضي الله عنهما- حينما بعثهما إلى اليمن (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعًا ولا تختلفًا).

 

ثالثا: بعض مخاطر الغلو

والمعنى الذي تلتقي عليه كل النصوص السابقة وغيرها: أن الغلو مجاوزة لما شرع الله بالزيادة والمبالغة فيه، والغلو يشتمل على مخاطر تجعله مذموماً منها:

  • أن الغلو يتضمن الاعتراض على الله تعالى في تشريعه وحكمه، كما يتضمن تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن المتطرف يقول للمشرع: لم تحسن التشريع، ويقول للمبلغ: لم تبلغ حق البلاغ، فالمتطرف معاند ومشاقق لله ولرسوله، وهذا غاية الانحراف؛ فإن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل زيادة ولا نقصانًا، كان الإمام مالك يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة.
  • كما أنه خروج عن طبيعة البشر العادية، وخرق لفطرة الله التي فطر الناس عليها، فالغلو لا تحتمله طبيعة البشر، ولا يصبر عليه المكلفون، وإن تحمله البعض لفساد فطرتهم، أو لتمتعهم بقدرات خاصة فلا يتحمله الكافة، وبالتالي لا يصلح الغلو دينًا؛ لأن الأديان خطاب للكافة، والغلو لكونه خروجًا عن الفطرة فتنة وفساد كبير، وهذا ما عبر عنه النبي (صلى الله عليه وسلم) موجهًا معاذ بن جبل لما بلغه أنه أطال بالناس في الصلاة (أفتان أنت يا معاذ؟ اقرأ بكذا وكذا)، ولا يفهم من هذا أن سيدنا معاذ كان متطرفًا، وإنما كان غضب النبي (صلى الله عليه وسلم) لعدم مراعاته لظروف الناس، وفيه شدة كراهة النبي (صلى الله عليه وسلم) لكل ما يؤدي من قريب أو بعيد إلى التعسير والتنفير.
  • كذلك الغلو يؤدى إلى الملل والترك، فالغلو قصير العمر والاستمرار عليه لا يتحمله الكافة؛ لأن الإنسان ملول بطبعه وطاقته محدودة، فمهما تنوعت مواهبه وعظمت قدراته، فسرعان ما تكل عزيمته، ولا عجب أن نجد أناسًا ممن عرفوا بالتشدد قد انقلبوا على أعقابهم وتغير بهم الحال، وتبدل التشدد تسيبًا وانحلالا من الدين بالكلية، وفي كل شر، فالمتشدد الغالي هو كالمنبت (المنقطع) الذى أخبر عنه نبينا (صلى الله عليه وسلم)، وبين أن سعيه بلا جدوى فلا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، ومن هنا كانت سماحة الدعوة تقتضى أن نبتعد عن الغلو، وأن نكلف من الأمر ما نطيق استجابة للتوجيه النبوي (عليكم بما تطيقون فوالله لا الله يمل حتى تملوا)، ولا يغيب عن الأذهان الحقيقة التي أسداها النبي لكل أتباعه، وهى أن أمر الدين شديد، فمن أوغل فيه فليوغل برفق.
  • كذلك يتضح من مفهوم الغلو أنه يشتمل على جور وظلم، ففي الغلو إهمال لحق يجب أن يُرعى؛ ولذا قال الحكماء: (ما رأينا إسرافاً إلا وبجانبه حق مضيع)، ولقد كان النبي وصحابته ينكرون على المبالغين في التنفل متناسين حقوق ذوي الحقوق، ومن النماذج الدالة على هذا ما يلى:
  1. آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى زوجته متبذلة، فقال لها ما شأنك؟ قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال كل فإني صائم، فقال سلمان ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال سلمان نم فنام، ثم ذهب يقوم، فقال نم، فلما كان من أخر الليل، قال سلمان قم الآن فصليا، فقال له سلمان إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي فذكر ذلك له، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) صدق سلمان.
  2. قول النبي لعبد الله بن عمرو حينما علم اجتهاده في العبادة ونسيان حق أهله، أُخبرت أنك تصوم النهار وتقوم الليل، قال: بلى يا رسول الله، قال لا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقاً، ولعينيك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقًا ...الحديث )، وبهذا يتضح لنا أن الغلو تجتمع فيه سيئات لا تجتمع في غيره، فهو اعتراض على التشريع، وطغيان على الحقوق، ومجاوزة لحدود المشرع سبحانه وتعالى، وهو مضاد لطبيعة النفس البشرية، معارض لسماحة الدين، وكفى به عيبًا أن يكون بعدًا عن هدي النبي (صلى الله عليه وسلم).

رابعا: الفرق بين الغلو والتمسك بالنصوص

في الواقع لا تشابه إطلاقًا بين التمسك الواعي بالنصوص وبين الغلو، فالصحابة والسلف الأول كانوا أبعد الناس عن الغلو والتشدد، إلا ما كان من بعض آحادهم في حالات فردية، شاء الله أن تقع لتكون نماذج تعليمية إرشادية، يرشد النبي وصحابته من خلالها الأمة إلى ترك الغلو، والتحذير من التنطع وأهله.

فالسلف الأول في الجملة كانوا من أبعد الناس عن الغلو، ومع ذلك كانوا من أشد الناس تمسكًا ووقوفًا عند حدود النص؛ لأنهم كانوا ينطلقون في تدينهم من علم صحيح، وفهم واعِ، وإدراك بصير لأهداف الدين ومراميه.

إذن: هناك أصل وضابط نحتكم إليه، ونقيس عليه السلوك؛ لنعرف إذا ما كان هناك غلو أم لا، وهذا يدعونا إلى طرح أقوال المتهاونين من أهل الخلاعة الذين يرمون كل ملتزم بالكتاب والسنة بالغلو، ويتهمونه بالتطرف والإرهاب.

وكما امتدت ألسنتهم بالطعن على سلوك المتدين الملتزم طالت أقلامهم وأفكارهم المؤسسات التي تحمل لواء الدين الوسطي - كالأزهر الشريف- متهمين إياه بالغلو والتطرف، ويعتبرونه من ينابيع الإرهاب ورعاته، وما برح هؤلاء يرمون الأزهر ومؤسساته بالغلو والتطرف ورعاية الإرهاب (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً)[سورة الكهف آية: 5]

خامسا: أنواع الغلو

  1. الغلو الاعتقادي                                   
  2. الغلو العملي

الغلو الاعتقادي: وهو الذى يقع في كلي من كليات الدين، أو الذي يرجع إلى الأصول العقدية، وهذا النوع أشدُّ خطرًا، وأبعد غورًا من جهتين:

جهة ترجع إلى عاقبته: وهي أن الغلو العقدي يؤدي في أغلب أحواله إلى الكفر والخروج من ربقة الإسلام أو إلى الفسق والبدعة في أحسن الأحوال.

جهة ترجع إلى أثره: وهي أن الغلو العقدي كان هو العامل الأهم في بروز الفرق والجماعات الخارجة عن الصراط المستقيم.

والمتأمل في تاريخ الفرق الإسلامية يجد أنها كانت من آثار النزعات الغالية في فهم كليات الدين وأصوله، فقد نشأت كأثر من آثار اختلاف المسلمين في قضايا عقدية.

ويبين الإمام أبو إسحاق الشاطبي أن الغلو العقدي يفضي إلى التفرق والتحزب وظهور الجماعات والكيانات المارقة فيقول "إن هذه الفرق إنما تصير فرقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين، وقاعدة من قواعد الشريعة، لا جزئي من الجزئيات؛ إذ الجزء أو الفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية"

وثمة جهة أخرى تجعل الغلو العقدي أشد خطرًا، وهي أنه يفضي إلى التفرق، وفى هذا مخالفة لأمر الله تعالى بالاعتصام وعدم التفرق، قال تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) [سورة آل عمران آية: 103] 

ومن صور الغلو العقدي:

أ ـــ غلو بعض الشيعة. 

ب ــ غلو الخوارج في تكفير عصاة المسلمين.

ج ـــ غلو القدرية بنفي القدر وقولهم: (لا قدر والأمر أنف)

الغلو العملي: وهو المتعلق بالأحكام الجزئية، وهذا النوع  قد يكون على جهتين:

1ـ الابتداع في أصل لم يشرع كصلاة سادسة ونحوها.

2 ـــ المبالغة في أداء ما شرع، وهذا النوع لا يكون عن عقيدة فاسدة، وإنما يكون ناتجًا عن فهم سقيم لأمور الدين، وهو أيضاً مرفوض مذموم، ومن أبرز النصوص الموضحة لذمه، ما فعله النبي في رمى الجمرات حيث كانت حصيات صغار، ولم يشترط الحصيات الكبار ثم قال صلى الله عليه وسلم (نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين)، والنصوص الدالة على نهي النبي لأصحابه عن التشدد أكثر من أن تحصى والشريعة كلها تقوم على رفض التشدد والتنطع والغلو وتدعو وتغرس قيم الوسطية والاعتدال في التعامل مع النصوص الشريفة، بلا إفراط ولا تفريط.

سادسا: نبذة موجزة عن تاريخ الغلو عند المسلمين

الغلو قديم بقدم البشرية، فهو نزعة متطرفة متأصلة بين كافة أتباع الشرائع، فلا يكاد يوجد دين من الأديان إلا وبين أتباعه جماعات متطرفة تغالي في الدين، وما يهمنا هنا ذكر نبذة موجزة عن بعض أمثلة الغلو من تاريخ المسلمين، فقد ظهر الغلو كذلك على عدة صور:

أ ـ ففي عهد النبي ذكرت حالات فردية للغلو لكنها لم تنتشر لقلتها ولعدم بقائها، كما أنها لا تمثل منهجاً مطردًا، بل سرعان ما عاد أصحابها إلى الجادة المستقيمة بتوجيه النبي لهم، وفى السنة أمثلة كثيرة لهذه الحالات من أظهرها:

ــ ما رواه البخاري بسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه يقول (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم أما أنا: فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

ب ـ ثم في عهد سيدنا أبى بكر الصديق ظهر الغلو مرة أخرى في صورة ثورات على أركان الدين وانقلاب على الأعقاب، فرأينا غلو المتنبئين والمرتدين الذين منعوا الزكاة وخرجوا على قانون الدولة في ذلك الوقت، ولكن الخليفة الأول تصدى لهذا الغلو بكل قوة.

ج ــ وفى عهد سيدنا عمر انحصر الغلو، فلم يظهر إلا نادرًا جدًا، وفى مسائل جزئية غير مؤثرة؛ إذ كان سيدنا عمر رضي الله عنه شديدا كفيلا برد أي انحراف، وواقعة صبيغ بن عسل الذي تكلم في المتشابهات، فنفاه سيدنا عمر حتى صلح حاله واقعة مشهورة معلومة.

د ــ ثم ظهر الغلو أكثر وبصورة أعنف وأشد في آخر عهد سيدنا عثمان وفى عهد سيدنا علي، وقد كانت الدعوة (السبئية) من أخطر صور الغلو، وقد حمل لواء هذه الدعوة عبد الله بن سبأ اليهودي المكنى بابن السوداء، والذى تستر بالإسلام، لكنه ظل على دينه، وبمكر اليهود المعهود حاول إحياء بدع اليهودية، فقال بألوهية علي بن أبى طالب، فنفاه سيدنا علي إلى المدائن، ولكن دعوة ابن سبأ لم تمت، بل تجدد ظهورها بعد مقتل سيدنا علي، فنادى ابن سبأ بمبدأ الرجعة، وقال بأن عليًا لم يمت، ولكنه ذهب إلى ربه وسيرجع كما رجع موسى وهارون.

وبعد الدعوة السبئية توالت دعوات غلاة الشيعة والخوارج والمرجئة التي يضيق المقام عن بسطها وحصرها، ويكفينا أن ننظر في أي كتاب من كتب الفرق والمقالات لنظفر بما يشفي الغليل في هذه الجزئية.

سابعا: أسباب الغلو:

تقف وراء ظاهرة الغلو عدة أسباب، وهذه الأسباب مجتمعة تنتج ما يسمى بالغلو في الدين، والموضوعية تقتضي أن لا نسند هذه الظاهرة إلى سبب واحد ونغفل ما سواه؛ إذ إن ظاهرة الغلو ظاهرة مركبة، وأسبابها كلها متشابكة متداخلة، وبالتالي فلا يتسنى أن ننتزع سبباً منها مع إغفال ما سواه، ومن أهم أسباب الغلو:

1 ـ الجهل بأحكام الشريعة وعدم الفقه في الدين

إن من أهم أسباب الغلو ضعف البصيرة بحقيقة الدين، وعدم التعمق في فقهه، وعدم الإحاطة بأسراره ومقاصده، والتمسك بالمظاهر وجعلها المقياس الوحيد لتدين الفرد من عدمه، وغالبًا ما يكون هذا الجهل شائعًا بين أنصاف المتعلمين، أو من تلقوا العلم بالدين عن مصادر تصدر الغلو والتطرف، أو ممن تغذوا على الثقافات المعادية للدين.

وهذا النوع أشد خطرًا من الجاهل أصلاً؛ إذ إن الجاهل يدرك جهله، ويسعى لعلاجه بالسؤال، أما هؤلاء الأنصاف فلا يعترفون بقلة البضاعة ولا بالجهل بالفتوى والإفتاء، فيظنون أنفسهم من العلماء المعتبرين، فيتحدثون ويتصدرون ويفتون، فيقعون ويتعثرون، فيَضِلون ويُضلون.

وقد نبه الإمام الشاطبي على هذه الطائفة وخطرها، فقال في إطار ذكره لأسباب الابتداع المفضي إلى التفرق: "أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين، وهو لم يبلغ تلك الدرجة، فيعمل على ذلك، ويعد رأيه رأياً وخلافه خلافاً"

وهذا الصنف عد النبي (صلى الله عليه وسلم) ظهوره علامة على اقتراب الساعة، فقال (قبل الساعة سنون خداعاً يصدق فيهن الكاذب، ويكذب فيهن الصادق، ويخون الأمين، ويؤتمن الخائن، وينطق فيهن الرويبضة) 

والرويبضة هو الرجل التافه الجاهل، يفتي في أمور العامة، ويتكلم بما لا يعلم، وقد امتلأ عصرنا هذا بهذا الصنف ممن لا يحسنون قولاً ولا فعلاً.

ظهور هذا الصنف بجانب كونه سببًا للغلو هو كذلك سبب لنزع الخير وعموم الشر، يقول ابن مسعود "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا الْعِلْمَ عَنْ أَكَابِرِهِمْ، فَإِذَا أَخَذُوهُ عَنْ أَصَاغِرِهِمْ، وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا"

فالحق: أن نصف العلم مع الغرور يضر أكثر من الجهل الكلي الذي يعترف صاحبه به، فهذا جهل بسيط، وذاك جهل مركب، وهو جهل من لا يدري ويظن أنه يدري. 

2 ــ الاعتماد على مصادر غير شرعية للتحاكم إليها وحدها دون الاستعانة بالشريعة

فالاعتماد على العقول المجردة، والفلسفات الفاسدة، أو الانحراف في فهم النصوص من أسباب الغلو، ومن أشهر من غلا في بعض المسائل لاعتماده العقل المجرد والفلسفات الوافدة الفارابي وابن سينا من فلاسفة الإسلام الذين خرجوا علينا بنظريات غريبة: كنظرية الفيض التي حاولوا من خلالها تفسير وجود الخلق، ونظرية الإشراق التي حاولوا من خلالها تفسير وحي الله إلى أنبيائه ورسله.

3 ــ التعصب الأعمى للموروثات وللأشخاص

فالمغالي يتعصب لمورثاته ولمرجعياته الخاصة، ويعتبر كل ما يخالفهما، خروجًا ومروقًا، وقد يكون التعصب للرأي، أو لشخص معين يراه المتعصب مصدرًا للتشريع، ويضفي على قوله لونًا من القداسة، وقد ابتلي مجتمعنا بهذا الداء العضال، فابتلينا بأتباع فلان، وأنصار علان، الذين لا يرضون بقوله بديلاً ولو كان من كلام الله وكلام رسوله، فالتعصب مضاد للعلم، جالب للظلمة عدو للنور؛ ولذا كان التعصب من أقوى أسباب الغلو.

4 ــ قوة ظهور موجات التسيب والتفريط والاستهانة بالشرع

يأتي رد فعل التساهل والتفريط قوياً لينتج غلواً، لأن كل فعل له رد فعل مساو في القوة مضاد له في الاتجاه، وفى التاريخ نماذج تؤكد هذا السبب، ومنها:

أ ــ غلو الخوارج كان رد فعل لتفريط المرجئة.

ب ـ غلو المشبهة كان رد فعل على تفريط المعطلة.

ج ــ غلو الشيعة كان رد فعل على تفريط واستهانة الخوارج بحق آل البيت.

 

5ــ الحرفية في فهم النصوص

كذلك من الأسباب التي لها نصيب في إشعال نار الغلو التقوقع على الظاهر والاقتصار عليه في فهم النصوص الشرعية من غير تغلغل في أسرارها ونفوذ إلى بواطنها، وفهم لفحواها ومقاصدها.

وتعد هذه الظاهرة (الحرفية النصية) بعث لمنهج غلاة الخوارج ومتأخري الحنابلة، وهذا المنهج  يلغي العقل تمامًا، وبالتالي يصادر على القياس كمصدر من مصادر التشريع، كما أن أصحاب هذا المنهج واقفون على الظاهر، ولا ينظرون إلى علل الأحكام، ولا يلتفتون إلى فقه الواقع أو فقه المصالح، وبناء على هذا يخرجون علينا بأحكام غريبة لا سند لها إلا فهمهم السقيم.

كذلك يترتب عليه نتيجة أخرى لا تقل خطورة، وهى النظرة إلى المجتمع بمنظار أسود، فترى الغلاة يوزعون الاتهامات جزافاً، ويسرفون في إطلاق الأحكام والفتاوى بالتحريم بأهوائهم مخالفين قوله تعالى (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) [سورة النحل آية: 116]، والأمثلة على هذا من الواقع المعايش كثيرة جداً، فبعضهم يقول بحرمة الشرب قائماً والتبول قائماً، وبعضهم يحرم إطالة الثياب، وآخر يحرم حلق اللحية، وآخر يعتبر ترك الصلاة مطلقاً كفر، وغيره يعتبر التوسل شركًا... إلى غير ذلك من أمثلة يندى لها الجبين.

6-التركيز على المتشابهات وترك المحكمات، والاهتمام بالمسائل الخلافية

المتشابه هو الذي لا يتبين المراد من لفظه، والمحكم هو البين الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره.

فاتباع المتشابهات والتمسك بها من أسباب الغلو، وهذا شأن الذين في قلوبهم زيغ قال تعالى (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)

[سورة آل عمران آية: 7]، لذلك كان الركون إلى المتشابهات سبباً لظهور بعض صور الغلو لدى الفرق والمذاهب.

 

7-الفقر والحرمان

ومن الأسباب التي لا يمكن تجاهلها أيضاً سبب له بعد اجتماعي اقتصادي وهو الفقر والحرمان، فالفقر المدقع الذى يحيط  بالبعض في وسط هذا الثراء الفاحش والتي تساعد وسائل الاتصال على عرضه، وإظهار بعد المسافة بين الطبقتين قد يدفع هذا القطاع المحروم إلى سلوك السبل المتطرفة، فالقابع في حضيض الأحياء القذرة الذي لا يستطيع تلبية مطالبه المشروعة الآدمية من زواج أو سكن أو علاج أو حياة كريمة أو وظيفة آمنة حينما يشاهد قصور الأثرياء المشيدة وسياراتهم الفارهة، ويصعق سمعه بالأرقام الفلكية التي تعبر عن حجم ما يملكون، كل هذا قد يدفعهم إلى ركوب مطية الغلو كنوع من الانتقام، وكتعبير عن اعتراضه وثورته على وضعه الاجتماعي والاقتصادي المرزي، وقد يتحول هذا المحروم الفقير إلى عضو في إحدى كيانات الغلو والتطرف، لاسيما أن هذه الكيانات ترفع في الظاهر شعار العدل وإقامة الدولة الإسلامية التي تنصف الفقير وتعدل وتقسم الخيرات بين العباد.

هذه أهم الأسباب التي تجتمع معاً لتقف وراء ظاهرة الغلو، تلك الظاهرة المعقدة التي لها أبعاد نفسية ودينية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وإذا ما عملت الأسباب عملها، أنتجت عضوًا فاسدًا في المجتمع لا ينفع نفسه ولا غيره بشيء وإنما عضو فاسد مفسد، تجب مقاومته وردعه وأهم سبل المقاومة الفهم والعلم إذ بهما تضيء العقول والقلوب فتطيب الحياة.

طباعة
كلمات دالة:

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.