يكاد يتفق جميع من يرى المواطنة بديلا لعقد الذمة أن أول وثيقة كتبها النبي صلى الله عليه وسلم (وثيقة المدينة) تمثل الدليل الإسلامي الأقوى لشرعية مفهوم المواطنة الحديث، وهي في تاريخيتها أقدم مما جاء في كتبه صلى الله عليه وسلم إلى نجران وغيرها من قبائل العرب، والتي كانت منهلا للفقهاء لتأصيل وتشريع مسائل أهل الذمة. فقبل أن يتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دخول القبائل في ذمة الله وذمة رسوله، وأنهم أمنون بأمان المؤمنين، أثبت في وثيقة المدينة بعد الهجرة مباشرة أن "المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس [...] وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم". هكذا رسخ النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين واليهود في نموذج دولته الأولى، وهنا دعوة صريحة للعودة إلى ما قررته السنة النبوية العملية عندما أقام النبي صلى الله عليه وسلم دولة المدينة، واعتبر مواطنيها متساوين في صورة أمة واحدة. فتطبيق مفهوم المواطنة يعني أنه لا أحد في ذمة أحد أو في حماية أحد (حتى ولو كانت صورة الذمة التي رسمها الفقه الإسلامي هي من أجل المفاهيم التي عرفها العالم في احتواء وقبول الأخر) لطالما شارك الآخر في بناء الدولة ويشارك في الدفاع عنها بل وقيادة أركانها، والمساواة باقية ودائمة حتى يقوم البرهان على خيانة الوطن وهنا مساوة أيضا بين مسلمه وغيره ممن دان بدين أخر.
ستظل وثيقة المدينة التي أطلق عليها بعض العلماء دستور المدينة الأولى الأساس الراسخ والدليل العملي الذي يبنى عليه مبدأ المواطنة، وبجانبه جميع الأيات القرآنية التي أوردت أمثلة لها والتي تدعو- عندما يتعلق الأمر بمعاملة المخالفين في العقيدة في الدنيا كشركاء في الآدمية مسالمين وأخوة في الإنسانية غير معتدين- إلى تنحية جميع السياقات التي تنتقد وتكفر وتتوعد أصحاب العقائد الفاسدة جانبا...(بتصرف)
د. محمد عبد الفضيل عبد الرحيم