ليس من الغريب أن تهتز قارة بأكملها أمام مشهد طفل يلتقط التراب من الأرض ليخدع الجوع، مشهد لا ينبغي أن يمرَّ خبرًا عابرًا، بل يخترق جدار اللامبالاة، ويوقظ في قلب أوروبا ما حاولت بعض السياسات طمسه طويلًا.
هناك، على بعد آلاف الكيلومترات من غزة، وفي قلب العاصمة الإسبانية مدريد، تتعالى الأصوات التي كسرت حاجز الصمت، وتجاوزت سقف "القلق العميق"، لتكتب فصلًا جديدًا عنوانه: "العدالة لا تموت وإن مرضت".
ففي شوارع مدريد، ولوجرونيو، وتينيريفي ومعظم المدن الإسبانية، لم تكن التظاهرات مجرد لحظة غضب، بل تعبيرًا حقيقيًّا عن ضميرٍ جمعي بدأ يستعيد بوصلة إنسانيته. شعارات مثل: "أطفال غزة ليسوا تهديدًا"، و"20 شهرًا من المجازر ولا تحرك دولي!" لم تكن هتافات عاطفية، بل تقارير مختصرة بلغة الألم والفقد، تقرأ الواقع بصوت الضحايا لا بيانات المؤسسات.
حين خرج وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس، يطالب الاتحاد الأوروبي بتعليق اتفاقية الشراكة مع الاحتلال ووقف تصدير السلاح إليه، كان كمن يكتب بلسان الشارع. صوته لم يكن صوتًا بيروقراطيًّا يؤدي واجبه، بل نداء رجلٍ فقد صبره على ازدواجية المعايير.
قالها بوضوح: "زمن البيانات قد ولَّى"، مشيرًا بأصابعه إلى التقارير الحقوقية الموثقة، لا إلى تحليلات مراكز القرار الصامتة. وقد جاءت دعوته بدعم من دول مثل: أيرلندا، وسلوفينيا، وبلجيكا، ما يكشف أن شرارة الموقف الإسباني ليست منعزلة، بل تحرك نارًا تحت رمادٍ أوروبي متردد.
هذا التحول السياسي في إسبانيا لا يمكن عزله عن وعي شعبي ظلَّ يتراكم في صمت. ومرصد الأزهر، الذي راقب طوال الأشهر الماضية هذا التفاعل الأوروبي، يرى أن مثل هذه المواقف تمثل استجابة لنداء الإنسانية الغائب، وتأكيدًا على أن القضية الفلسطينية لم تعد شأنًا شرقَ أوسطيٍّ فقط، بل مرآةً أخلاقية لمواقف الأمم. ولطالما نبَّه المرصد إلى أن العدوان على غزة ليس صراعًا تقليديًّا، بل إبادة ممنهجة تُمارس على مرأى ومسمعٍ من العالم، والتواطؤ بالصمت لا يقل جرمًا عن الشراكة بالفعل.
وفي مدريد، كانت فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالقضية الفلسطينية، أكثر وضوحًا من لغة الأمم المتحدة ذاتها، حين وصفت ما يجري في غزة بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، ودعت بشكل مباشر لقطع العلاقات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية مع الاحتلال. هذه ليست لغة منابر أممية فحسب، بل لغة ضمير لم يَعد يحتمل التجاهل، صوتٌ يجد صداه في كل تقرير ووثيقة أُعدت لتسليط الضوء على انتهاكات تجري يوميًّا بحق الشعب الفلسطيني.
واللافت أن هذه الأصوات بدأت تُربك صانعي القرار. فعلى الرغم من المواقف الواضحة التي أطلقتها إسبانيا، فإن بعض الدول الكبرى داخل الاتحاد الأوروبي لا تزال تضع عراقيل أمام صدور قرارات حاسمة، بحجج "التوازن" و"المصالح". لكن حتى هذه الحجج لم تَعُد قادرة على إخفاء الحقائق التي تنقلها الكاميرات من شوارع دير البلح ورفح وخان يونس، حيث الأطفال يُنتشلون من تحت الأنقاض، وحيث المستشفيات تحولت إلى مقابر صامتة.
ومرصد الأزهر، إذ يتابع عن كثب هذا التحول، يؤكد أن المواقف الإسبانية الأخيرة ليست فقط دعمًا للشعب الفلسطيني، بل مقاومة حضارية لحالة الإنكار السياسي التي تحكم المؤسسات الدولية؛ فما يحدث في غزة لا يحتاج إلى وسطاء يجمّلون الحقيقة، بل إلى صراحة تُحاكي حجم المأساة، وشجاعة توقف آلة القتل بتجميد الدعم وقطع العلاقات، وتفعيل المساءلة الدولية، لا بمجرد "الإعراب عن الأسف".
وفي ساحة عريضة بمدينة بلباو، وعلى لسان ناشطين بسطاء، قيلت أكثر الجُمل صدقًا: "هذه ليست حربًا، بل تدمير لشعب كامل". وفي كلماتهم ارتفع صوتُ يناشد قائلًا: "لا تتركوا الجريمة تمر، ولا تهادنوا الدم". وفي تلك المسيرات التي ارتفعت فيها صور نتنياهو تحت لافتة "مجرم إبادة"، كانت ذاكرة الضحايا تستعيد حقها في الظهور، ويُعاد رسم خريطة المواقف، لا من موقع الجغرافيا، بل من ضمير الإنسانية. وهنا تحديدًا تتجلى الرؤية التي تؤكد أن العدالة لا تحتاج إلى وثائق إضافية، بل إلى إرادة سياسية تجرؤ على الاعتراف، وتتجاوز المصالح الوقتية نحو الوفاء لقيمٍ تدّعيها مواثيق الأمم.
إن ما فعلته إسبانيا – حكومة وشعبًا – ليس دعمًا طارئًا، بل إعادة تمركز أخلاقي. وقد تكون تلك الخطوة بداية لما طال انتظاره: أوروبا تستعيد حسّها الإنساني، وتكف عن تسليح القاتل أو تسويغ الجريمة. لقد أوصلت مدريد الرسالة: العدالة لا تُستجدى، بل تُنتزع، والكرامة لا تُقايض، والدم لا يُنسى. وفي ضوء هذا الحراك المتنامي، يُذكِّر مرصد الأزهر بأن القيم لا تُختبر في كتب الفلسفة أو نصوص المواثيق، بل تُختبر في لحظة الحقيقة حين يكون الصمت خيانة، والحياد تواطؤًا. إن ما يجري في غزة ليس صراعًا بين جبهتين متعادلتين، بل معركة ضمير بين احتلالٍ مدجج بالسلاح، وشعبٍ أعزل يحتمي بالإيمان.
والقضية الفلسطينية لم تكن يومًا شأنًا جغرافيًّا محدودًا، بل مرآة تعكس ملامح العدل الإنساني أو سقوطه، ومقياسًا لصِدق الحضارات حين تُختبر أمام معاناة المظلوم. ومن غزة التي تنزف إلى العالم الذي يشاهد، يبقى السؤال معلقًا: أيُّ عالم نريد أن نكون حين نروي هذه الحكاية بعد سنوات؟ عالمًا شهد فصمت؟ أم عالمًا اختار أن ينحاز للحق حين كان الانحياز مكلفًا؟ وبالطبع يثمن المرصد كل خطوة جريئة تنحاز للحق وترفض الظلم والعدوان.
إن الوقوف في وجه الاحتلال الصهيوني المجرم لا يُعد انحيازًا أيديولوجيًّا، بل شهادةً أخلاقية في زمنٍ تتراخى فيه المعايير وتُقايَض فيه القيم بالمصالح. ففي كل صرخة تطلقها الضمائر الحيَّة، يعلو صوت الحقيقة فوق ضجيج التزييف، وتنكشف الأقنعة أمام نور المبدأ. وفي عالمٍ تتنازع فيه المصالحُ أصواتَ الضمير، تظل المواقف النزيهة أوتادًا في صحراء المواربة، تُذكِّر بأن العدالة ليست خيارًا انتقائيًّا، بل التزامًا أخلاقيًّا لا يسقط بالتقادم. ومن هنا، يُشيد مرصد الأزهر بكل خطوةٍ شجاعةٍ تنحاز إلى العدالة، وترفض تزيين الجريمة، وتواجه الاحتلال الصهيوني الغاشم لا باعتباره نزاعًا سياسيًّا، بل اعتداءً صارخًا على الكرامة الإنسانية. إن الاصطفاف إلى جانب الضحايا واجب إنساني وموقف حضاري، والانحياز إلى الحق ليس خروجًا عن الحياد، بل عودة صادقة إلى جوهر الإنسانية.
وحدة رصد اللغة الإسبانية