الرد على قولهم: السنة حقيقة قرآنية في عهد النبوة وما بعد النبوة هي اجتهادات أئمة!

  • | الأحد, 17 أبريل, 2016
الرد على قولهم: السنة حقيقة قرآنية في عهد النبوة وما بعد النبوة هي اجتهادات أئمة!

عنوان الشبهة: السنة حقيقة قرآنية في عصر النبوة وبعدها اجتهادات أئمة

 

بناء على ما ورد في جريدة "المقال" بتاريخ :22/ مايو2015م ، بعنوان :«السنة حقيقة قرآنية في عصر النبوة وبعدها اجتهادات أئمة» للكاتب/ محمد السعيد مشتهري .

و فحوى شبهته: أن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع وأن السنة النبوية ليست المصدر الثاني للتشريع وإنما هي تفعيل الرسول – صلى الله عليه وسلم – للنص القرآني فقط، وهي سلوك وتصرفات عملية تحدث في واقع الحياة وليست نصا يتلى على الناس ويدون في الكتب،  وأننا لو بحثنا في القرآن كله عن آية واحدة تأمر الناس باتباع كتاب تشريعي مستقل غير القرآن لم نجد، وسنجد آيات كثيرة تثبت أن المسلمين لا يرثون إلا كتابا واحدا وهو القرآن، وأن السنة لم يحفظها الله كما حفظ القرآن.

 

و يمكن الرد على شبهته بما يلي:

1- أما عن زعمه بأن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع وأن السنة النبوية ليست المصدر الثاني للتشريع وإنما هي تفعيل الرسول – صلى الله عليه وسلم – للنص القرآني ...الخ .

فهذا زعم باطل؛ فالله - سبحانه وتعالى - أنزل القرآن الكريم هداية بينة، ومعجزة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - باهرة باقية، ثم أعطاه السنة مفصلة للكتاب وشارحة له كما قال عز وجل: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (النحل: ٤٤), فكانت السنة أصلا من أصول الدين تاليا لكتاب الله تعالى، تؤخذ منها العقائد والأحكام والأخلاق، وغير ذلك..

فالقرآن الكريم هو الأصل الأول للدين والسنة هي الأصل الثاني، ولقد اختص الله تعالى هذه الأمة الإسلامية بحفظ دينها وصيانتها له، وتعهد به سبحانه، فحفظت هذه الأمة كتاب الله المنزل إليها، فتلقته بأمانة وثقة وتواتر، وذبت الكذب والخلل عن الحديث النبوي بما وضعته من قوانين للرواية هي أصح وأدق طريق علمي في نقل الروايات واختبارها.

ولقد كانت عناية الأمة الإسلامية برواية الحديث النبوي وحفظه تهدف إلى صيانة هذا التراث العظيم من التحريف والتبديل فيه؛ فحاز حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوقاية والمحافظة ما لم يكن - قط - لحديث نبي من الأنبياء، فقد نقل لنا الرواة أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأمور كلها؛ العظيمة واليسيرة، بل في الجزئيات التي قد يتوهم أنها ليست موضع اهتمام، فنقلوا تفاصيل أحواله - صلى الله عليه وسلم - في طعامه وشرابه، ويقظته ونومه، وقيامه وقعوده، حتى ليشعر من يتتبع كتب السنة أنها ما تركت شيئا صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - إلا روته ونقلته.

إذا كانت عناية المسلمين بالسنة والعمل بها معلومة من الدين والتاريخ والحضارة والتراث الإسلامي بالضرورة، ولا يجهل ذلك جاهل - فإن الإنسان بعد ذلك لتأخذه الدهشة والعجب ويحار لبه في أفهام وعقول منكري السنة، كيف يطعنون في حجيتها؟! وبأي عقل وعلى أي منطق اعتمدوا في قبولهم القرآن دون السنة؟! أليس الذي أخبرنا بالقرآن هو صاحب السنة، الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى؟! أليس رواة القرآن هم رواة السنة من خير القرون وخيرة الأجيال؟! القائمين بالحق والمقيمين بالعدل من الصحابة - المشهود لهم بالثناء الحسن في التوراة والإنجيل والقرآن - والتابعين بإحسان إلى يوم الدين؟!

فلماذا يقبل منكرو السنة رواية الصحابة والتابعين للقرآن ولم يقبلوها في السنة، أليسوا هم الذين استرعاهم الله على الكتاب فكانوا أمناء وشهداء بالقسط في حفظه وصيانته وروايته، فلم وثقوا في جانب وطعنوا في آخر؟! أليست الطريق التي وصلنا القرآن والسنة منها طريقا واحدا؟!

ألم يكن منهجهم في الحفظ والتثبت والرواية واحدا، وإن اختلف في جعل الصدارة والأولوية للمصدر الأول للدين وهو القرآن، إلا أنه لم يهمل المصدر الثاني وهو السنة.

 إن الذين يطعنون في السنة إنما يطعنون في أخص خصوصيات هذه الأمة وهو الإسناد الذي ميز الله به أمة الإسلام وألهمها إياه - ولم يكن في أمة من قبل - لحفظ كتابه وسنة نبيه، إنهم يريدون للأمة الإسلامية أن تكون كالذين من قبلهم، حيث طال عليهم الأمد؛ فقست قلوبهم ونبذوا دينهم وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون، وما كان ضلال الأمم السابقة وتحريفهم لكتبهم إلا لفقدهم ما حبانا الله به من حفظ الإسناد، فهل المقصود أن نكون مثل الذين من قبلنا فنترك ونهدم شطر الدين؛ فنضل ونحرف ونغير ونبدل كل ما ليس له تفصيل في القرآن.

 

2- وأما قوله: «إننا لو بحثنا في القرآن كله عن آية واحدة تأمر الناس باتباع كتاب تشريعي مستقل غير القرآن لم نجد ..» فهذا طعن في القرآن وافتراء عليه ،لأن القرآن أمر باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعته ونهى عن مخالفته وعصيان أمره، وحث على التمسك بالسنة والاعتصام بها، فكيف يدعي بأنه يؤمن به وهو يخالفه؟!

 فهناك آيات أمرت باتباعه صلى الله عليه وسلم: منها قوله عز وجل: )قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31) قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32) (آل عمران).

وهناك آيات أمرت بطاعته - صلى الله عليه وسلم - منها قوله عز وجل (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم (13) (النساء). فجعل ربنا - عز وجل - طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - طاعة له سبحانه؛ وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - مبلغ عن الله، وما جاء به إنما هو من رضوان الله، وفي ذلك إعلاء لكل ما جاءنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإعلاء لقدر طاعته وأنها طاعة لله، وأن سنته من دين الله، على المسلم أن يلتزم بها، وأن يطيع أوامر القرآن الكريم والسنة النبوية، وأن ينتهي بنواهيهما، والله تعالى يقول: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51))(النور). حيث يؤدب الله - عز وجل - الأمة كلها، ويعلمها أن تسمع وتطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفرد الضمير في قوله (ليحكم)؛ لأنه يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو المباشر للحكم، وإن كان الحكم في الحقيقة لله عز وجل.

هذا، وإن كان سياق الآية على طريقة الخبر، فليس المراد به ذلك، بل المراد به تعليم هذا الأدب، وأنه يجب على المؤمنين أن يقبلوا حكمه - صلى الله عليه وسلم - ويمتثلوا أمره، وهم بذلك المفلحون الفائزون بخيري الدنيا والآخرة، دون من عداهم ممن لم يمتثلوا أمره.

أما الآيات التي تحذر من مخالفته - صلى الله عليه وسلم - فإنها جاءت لتبين أن من خالفه - صلى الله عليه وسلم - فقد ضل ضلالا مبينا، ومصيره جهنم خالدا فيها، وله عذاب مهين, منها: قوله عز وجل: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (36) (الأحزاب).

والمعنى: أنه لا يصح أن يكون للمؤمن اختيار فيما قضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فعلى كل المؤمنين أن يطيعوا أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالامتثال، لا سيما وقد عطف قضاء رسول الله على قضاء الله؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - مبلغ عن الله عز وجل، فطاعته طاعة لله عز وجل.

ولا شك أن هذه الآيات وأمثالها - وهي كثيرة في كتاب الله - تأخذ بأيدي المؤمنين إلى الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - والحرص على كل ما هو من سنته وطريقته، فهو الذي اصطفاه الله لدينه، وأنزل عليه وحيه، وأسرى به وأراه من آياته، ووفقه وشرفه، وأعلاه وكرمه.

وقد اتبعه السلف اتباعا صادقا، فاقتدوا به، في كل أمر، واهتدوا به في كل حال، وهكذا يجب على كل مسلم أن يتبع سنته في كل مكان وزمان، وفي كل حلال وحرام.

ومما تجدر الإشارة إليه أن القارئ المتدبر للقرآن الكريم، يجد أن القرآن في دعوته إلى التمسك بالسنة، وأمر المؤمنين بذلك قد اتخذ ثلاث صور:

الصورة الأولى: فتتمثل في طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في آن واحد، وهذا مستمد من مثل قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون (20) (الأنفال).

الصورة الثانية: فتتمثل في طاعة الله - عز وجل - وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في مثل قوله عز وجل: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين (12) (التغابن).

الصورة الثالثة: فتظهر في الطاعة مستقلة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في مسائل ترك فيها الحق - سبحانه وتعالى - لرسوله مهمتي البلاغ والبيان؛ إذ لم يرد لها بلاغ في القرآن الكريم، وأوضح دليل على الأمر باتباع السنة، والسمع والطاعة لكل ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد في سورة الحشر في قوله عز وجل: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7) (الحشر).

فالآية تؤكد على عقوبة الاكتفاء بالقرآن، وتحذر من شدة العقاب يوم القيامة، ثم إن هناك آيات في القرآن خارج هذه الصور الثلاث تنص على أن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من طاعة الله في مثل قوله عز وجل: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80) (النساء).

كما تنص أخرى على نفي الإيمان، عمن لم يحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يقوله ويقضي به، ومثالها قوله عز وجل: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65) (النساء).

ومعلوم أن هذا الذي قضى به - صلى الله عليه وسلم - لم يكن تنفيذا لآية موجودة في القرآن، وإنما كان بحكم من عنده هو صلى الله عليه وسلم بوحي سماوي، ومع ذلك فقد أعلن القرآن أن الإنسان لا يعد - أيا كان - مؤمنا بالله إلا إن قبل حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخضع له، ثم لم يجد أي حرج تجاهه .

والله أمرنا عند التنازع أن نرجع إلى القرآن والسنة في قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59) (النساء).

فالآيات السابقة تدل دلالة واضحة على أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع في الإسلام بعد القرآن الكريم الذي يمثل المصدر الأول له، ولا يمكن لدين الله أن يكتمل، ولا لشريعته أن تتم إلا بالأخذ بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - جنبا إلى جنب مع القرآن الكريم.

وبعد.. فماذا يصنع هذا وأمثاله  بهذه الحجج القرآنية التي إن قبلها رجع إلى السنة فبطل قوله، وإن لم يرجع، خالف القرآن بزعمه أن الدين اكتمل به دون السنة.

 

3- وأما ادعاؤه بأن: السنة لم يحفظها الله كما حفظ القرآن؛ فهذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان والحجة، فما دليله على ذلك؟ ربما هو يستند إلى قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9) (الحجر), حيث اقتصر فهمه على أن المراد بكلمة الذكر في الآية هو "القرآن الكريم" فقط، والحقيقة أن ما وعد الله به من حفظ الذكر لا يقتصر على القرآن وحده، بل المراد به شرع الله ودينه الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أعم من أن يكون قرآنا أو سنة، وإذا رجعنا إلى الكتب المتخصصة نجدها تعدد معاني الذكر التي وردت في القرآن، فقد وردت كلمة "الذكر" في القرآن اثنين وخمسين مرة، ولها معان كثيرة؛ فهي تأتي بمعنى القرآن، وبمعنى الرسالة والشريعة، وبمعنى الحفظ، وبمعنى السنة، وبمعنى التذكرة، وبمعنى الشرف، وبمعنى العبادة... إلخ". وفي ذلك نقل صاحب كتاب "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز" عن أحد العلماء قوله: "ذكر الله الذكر في القرآن على عشرين وجها، وفيها الذكر بمعنى رسالة الرسول".

ومما يدل أيضا على أن الله - عز وجل - قد تكفل بحفظ الشريعة كلها: كتابها وسنتها قوله عز وجل: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبـى الله إلا أن يتـم نـوره ولـو كـره الكافرون (32) (التوبة), ونور الله: شرعه ودينه الذي ارتضاه للعباد وكلفهم به وضمنه مصالحهم, والذي أوحاه إلى رسوله - من قرآن أو غيره - ليهتدوا به إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

إذا فالمعنى المناسب "للذكر" في قوله عز وجل: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9) هو رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصفة عامة بما في ذلك الكتاب والسنة, وذلك أن القرآن والسنة وحي من الله عز وجل، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقول شيئا من عنده: (إن هو إلا وحي يوحى (4) (النجم). فلماذا يتكفل الله تعالى بحفظ القرآن، ولا يتكفل بحفظ السنة مع أن كليهما وحي من عنده سبحانه وتعالى؟!

وفي ذلك يقول ابن حزم: "ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله - عز وجل - فهو ذكر منزل, فالوحي كله محفوظ بحفظ الله - عز وجل - له بيقين, وكل ما تكفل الله بحفظه؛ فمضمون ألا يضيع منه, وألا يحرف منه شيء أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه... فوجب أن الدين الذي أتانا به محمد - صلى الله عليه وسلم - محفوظ بتولي الله - عز وجل - حفظه, مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتي أبدا إلى انقضاء الدنيا, قال عز وجل: (لأنذركم به ومن بلغ) (الأنعام: 19). فإذا كان ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدين, ولا سبيل البتة إلى أن يختلط بباطل موضوع اختلاطا لا يتميز عند أحد من الناس بيقين؛ إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ, ولكان قوله عز وجل: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9) (الحجر) كذبا ووعدا مخلفا, وهذا لا يقوله مسلم.

 ثم يرد على من زعم أن حفظ الذكر مقتصر على القرآن وحده قائلا: "هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان وتخصيص للذكر بلا دليل... فالذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - من قرآن أو من سنة وحي يبين بها القرآن, وأيضا فإن الله - عز وجل - يقول: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (النحل: 44) فصح أنه - صلى الله عليه وسلم - مأمور ببيان القرآن للناس, فإذا كان بيانه - صلى الله عليه وسلم - غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه, فقد بطل الانتفاع بنص القرآن فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه, فلم ندر صحيح مراد الله - عز وجل - منها, وما أخطأ فيه المخطئ أو تعمد فيه الكذب الكاذب, ومعاذ الله من هذا"([1]).

فالله – عز وجل-  قد تكفل بحفظ ما صح من حديث رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويدل على ذلك الكتاب الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، والعقل.

1.  أما الأدلة من كتاب الله - عز وجل - على تكفل الله بحفظ السنة النبوية فهي كثيرة، منها: قوله عز وجل: (إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18) ثم إن علينا بيانه(19) (القيامة), فهذا نص صريح يدل على أن الله - عز وجل - قد تكفل بحفظ السنة على وجه الأصالة والاستقلال على طريق اللزوم والتتبع؛ لأنه تكفل فيه ببيان القرآن في قوله عز وجل: (ثم إن علينا بيانه) أي: بيان القرآن, والبيان كما يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - يكون لأمته من بعده, وهو يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالإيحاء به إليه ليبلغه الناس, وهو المراد من قوله عز وجل: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) (النحل: 64). فالسنة النبوية على هذا منزلة من عند الله (بوحي غير متلو)، وفي هذه الآيات السابقة - آيات سورة القيامة - دليل على أن الله تكفل بحفظ السنة، كما تكفل بحفظ القرآن، وتحقيقا لهذا الوعد الكريم من الله - عز وجل - هيأ الأسباب لحفظها، والذود عن حياضها، فأثار في نفوس المسلمين عوامل المحافظة عليها، والدفاع عنها، فكانت موضع اهتمامهم، ومحل تقديرهم ورعايتهم منذ أن أشرقت شمسها إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

2.  أما الدليل من السنة النبوية على تكفل الله - سبحانه وتعالى - بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم: فقوله صلى الله عليه وسلم: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة».

•   وقوله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض».

ففي هذه الأحاديث وغيرها يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن له سنة مطهرة تركها لأمته, وحثهم على التمسك بها, والعض عليها بالنواجذ, ففي اتباعها الهداية, وفي تركها الغواية, فلو كانت سنته المطهرة غير محفوظة, أو يمكن أن يلحقها التحريف أو التبديل, فلا يتميز صحيحها من سقيمها - ما طالب أمته بالتمسك بها من بعده, فيكون قوله مخالفا للواقع, وهذا محال في حقه - صلى الله عليه وسلم - فأمره بالعمل بها يدل على أنها ستكون محفوظة.

 

3.  وأما الدليل العقلي على تكفل الله - عز وجل - بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم:

فيقول الدكتور رءوف شلبي: "ليس بلازم في الاحتمالات العقلية أن يكون المراد بالذكر القرآن الكريم وحده، لأمرين:

  • أنه لو كان المراد بالذكر القرآن الكريم وحده، لصرح المولى - عز وجل - به باللفظ، كما صرح به في كثير من المواضع في القرآن الكريم، كما في قوله عز وجل:(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) (الإسراء: ٩)، وقوله عز وجل: (بل هو قرآن مجيد (21) في لوح محفوظ (22) (البروج)، وقوله عز وجل: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (17) (القمر).
  • لو كان المراد بالذكر القرآن لعبر عنه بالضمير "إنا نحن نزلناه"؛ إذ افتتاح السورة فيه نص وذكر للقرآن (تلك آيات القرآن وكتاب مبين (1) (النمل: ١)، والتعبير بالضمير في نظر اللغة أجود؛ لأن العلم في المرتبة الثانية من الضمير؛ إذ هو أعرف المعارف، وهو عمل يتفق مع منزلة القرآن، وتعتمده الصناعة الإعرابية.

وعليه فليس بالحتم أمام فهم العقل أن يكون المراد من الذكر هو القرآن فقط دون غيره، بل إن تفسير الذكر بالقرآن فقط احتمال بعيد في نظر العقل، لعدم وجود مرشح لهذا التفسير يقوى على مواجهة الأمرين السالفين اللذين يقويان بالمنزلة والعرف النحوي.

وعلى هذا يكون الأقرب من هذا التفسير أحد الاحتمالين:

الأول: أن يكون المراد من الذكر الرسالة والشرف الذي استحقه الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتصف به بنزول النبوة والقرآن عليه، ويقوي عندنا هذا الاحتمال أمام نظر العقل افتتاحة سورة "الحجر"؛ حيث بينت أن مقالات الكافرين المعتدين على النبوة، إنما هي مفتراة ذكرها رب العزة في كتابه حكاية على لسانهم: )وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (6) لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين (7) ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين (8) إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9) (الحجر).

فالآيتان الأوليان تصوران اتهامات الكافرين الكاذبة، والآيتان التاليتان تردان على هذه الاتهامات، وتعدان بحفظ الرسالة والشرف الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما ذاك إلا القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

الثاني: أن يكون المراد من الذكر الشريعة مطلقا، ويرشح لهذا الاحتمال ما تناولته السورة بعد الآية التي معنا في ذكر موقف الأمم السابقة مع رسلهم، يقول الله عز وجل: (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين (10) وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون (11) كذلك نسلكه في قلوب المجرمين (12) لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين (13) (الحجر).([2])

 والخلاصة : أن الله - عز وجل - قد تكفل بحفظ القرآن والسنة معا فقيض للسنة رجالا يحفظونها ويرعونها جيلا بعد جيل، من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومرورا بعصر الصحابة والتابعين، إلى عهد علماء الحديث والمصنفين, وهذا تحقيق لوعد الله - عز وجل - بحفظ الرسالة الخاتمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

 

 

 

([1])  الإحكام في أصول الأحكام, ابن حزم, دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (1/ 117، 118) بتصرف.

([2])  السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين, د. رءوف شلبي, دار السعادة، القاهرة، 1398هـ/ 1978م، ص40: 43 بتصرف.

طباعة
الأبواب: صحف صفراء
كلمات دالة:

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.