الجماعات المتطرفة

 

11 ديسمبر, 2017

أسباب الإرهاب (5)

التعصب للرأي

     الإرهاب ظاهرة عالمية لا تنتمي لدين ولا لبلد بعينه، لكنه يظل دائمًا مرتبطًا بالإنسان أيًّا كانت عقيدته أو مذهبه الفكري. وهو نتاج لعوامل عديدة كلما اجتمع عدد منها في مجتمع كان أكثر عرضة لإفراز التطرف والإرهاب. ولمواجهة الإرهاب فلا بد من معالجة العوامل التي تُمهد له الطريق؛ لذا يحاول مرصد الأزهر في هذه السلسلة الوقوف على أهم العوامل التي تساهم في الميل نحو التطرف والإرهاب.
يميل الإنسان بطبعه إلى الاعتزاز برأيه ويراه عين الصواب ويجتهد إلى إقناع غيره بصحته؛ وهذا يتمثل فيما ما هو منسوب إلى الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" فالفائدة هنا في كلمة "يحتمل"، فهذا الاحتمال هو الذي يترك للإنسان مساحة أن يغير رأيه إن وجده خطأ ويتبنى رأي غيره إن وجده صوابًا، أو يسمح له بالنظر في رأي غيره واعتباره. أما من لا يدع مجالاً لهذا الاحتمال ويتعامل مع رأيه على أنه الصواب المُطلق وكل ما عداه هو عين الخطأ، فذلك هو المتعصب لرأيه؛ والتعصب يقود إلى التطرف، فليس هناك متطرف لا يتعصب لرأيه ولا يعاني من الجمود الفكري. فالمتطرف يرى أنه وحده على الحق ولا يسمح لنفسه بالحوار مع من يخالفه، فجمود فكره يجعله لا يعترف للآخرين بفكر ولا برأي، وبالتالي يرفض كل طريق للحوار. وهذا هو منشأ التطرف، حيث إن مصدر التطرف بالأساس هو الفكر إذا صاحَبه عدم المرونة وصعوبة التكيُّف.

والتعصب الفكري هو تغلب فكرة ما على عقل إنسان، يجعلها تسيطر على تفكيره فترفض كل ما يخالفها. وكما يقول أديب إسحاق - وهو أديب لبناني، دمشقي المولد، وأحد الشخصيات البارزة في حركة النهضة القومية الثقافية والتنوير العربي- في كتاب أضواء على التعصب: "حد التعصب عند أهل الحكمة: غلو المرء في اعتقاد الصحة بما يراه، وإغراقه في استنكار ما يكون ضد ذلك الرأي حتى يحمله الإغراق والغلو على اقتياد الناس لرأيه بقوة، ومنعهم من إظهار ما يعتقدون، ذهابًا مع الهوى في ادّعاء الكمال لنفسه، وإثبات النقص لمخالفيه من سائر الخلق".

إن التعصب يحمل المرء على ادعاء الكمال لنفسه مما يعرضه إلى الانعزال عن المجتمع الذي يراه أقل منه بكثير ويرى فيه غرابة في التفكير والأفعال، ما يحمله على عدم احترام المعايير الاجتماعية والقانونية. وكلما كان للإنسان ميول للتطرف زاده التعصب لرأيه وجموده الفكري ميلًا إلى سوء الظن بالآخرين، والنظر إليهم نظرة دونية لا ترى لهم أية محاسن، بل تُضخم من عيوبهم، وذلك بسبب ثقته الزائدة بنفسه وبأفكاره لينتهي هذا الجمود الفكري بالمتطرف إلى ازدراء الغير وإنكار وجوده.

ولا شك أن التنشئة الأُسَرية والمجتمعية تسهم في تزكية التعصب حتى يتدرج الشخص من مجرد إحساسه بالاعتداد بنفسه ويصل بنفسه إلى درجات تجعله يلامس التطرف ثم ينقلب الأمر إلى رفض الآخر وتدميره. وهناك عوامل نفسية تؤثر في هذا التحول، منها العدوانية والشعور بالنقص، وإذا اجتمعت هذه الحالة النفسية مع ظروف سياسية واقتصادية كالفقر والبطالة وعدم توفر الظروف الأمنية، بالتالي تتوفر البيئة الداعمة لظهور التطرف فيرفض هذا الشخص وجود الآخر، ويرفض أي محاولة للتقارب أو الحوار؛ بل يصنع من كل مخالف عدوًا يجب القضاء عليه. وبالتالي يبحث مثل هذا الشخص عن مجموعة ينتمي إليها فيجد الجماعات المتطرفة ترحب به، فينخدع بإقامة علاقات مع من يعتبرهم الصفوة. وبعد انضمامه لهذه الجماعات -التي تتسم بنفس صفاته- ينتظر الصورة النموذجية لحياة تختلف عن نمط الحياة التي يعيشها، فيجري وراء مصطلحات تستهويه وتُساق إليه عبر مفاهيم خاطئة وتلزمه انتهاج مسلك العنف والإرهاب من خلال استباحة الدماء التي حرمها الله . وهنا لا يجد في نفسه أي شعور بالذنب أو صوت لضمير حي يرُده عن تلك الأفكار؛ لأنه ببساطة فقَدَ كل مساحة تجعله يتصور أن يكون مخطئًا أو تجعله يفكر في أن امتلاك الحقيقة هو أمر نسبي. فالجمود الفكري والتعصب للرأي يجعل صاحبه يعيش في عالم منفصل لا يرى فيه الحياة حقًّا إلا لمن شاركه نفس أفكاره؛ والتي يبنيها غالبًا على معرفة سطحية وتعصب لأشخاص بعينهم لا يُتصور منهم الخطأ، فاعتقاد المتعصب يرجع إلى ارتباطه بأفكار معينة أو بتقليده لأشخاص بعينهم، وليس بالبحث عن الحقيقة ذاتها أو محاولة الوصول لأقرب طريق إلى الصواب.

وليس ما يفعله الإرهابييون اليوم ببعيد عما فعله الخوارج من قبل، فكلهم يقودهم الجمود الفكري واعتقاد الصواب المطلق في أفكارهم إلى تسويغ أعمالهم الإجرامية. فعلى سبيل المثال يذكر التاريخ أنه بعد أن قتَل الخوارجُ الصحابي عبد الله بن خبَّاب بن الأرت، وبقروا بطن زوجته وهي حامل، تورَّعوا في تمرة مُلقاة في قارعة الطريق!. هذا يوضح أنه عندما يغيب العقل والمنطق، ويتسم الشخص بالجهل وعدم المعرفة، ويجتمع مع ذلك تعصبه لرأيه وجمود فكره وإنكاره كل رأي مخالف - ينتهي الأمر بهذا الشخص إلى التطرف والإرهاب.
ولأن الفكرة لا تُوَاجَه إلا بالفكرة، فعلينا أن ننتبه لخطورة تنشئة الأجيال على الرأي الأوحد. وكما هو منهج الأزهر الشريف في الوسطية وتقبل كل الآراء العلمية المعتبرة فإن ترك مساحة للحوار وتقبل الآخر والمرونة الفكرية هو أهم ما يواجه به مجتمع ظاهرة التطرف.

وحدة رصد اللغة الإسبانية