اعتمد تنظيم داعش فيما مضى اعتمادًا كبيرًا على إستراتيجية إعلامية متكاملة (مسموعة ومقروءة ومرئية) في الانتشار وتجنيد الشباب من شتّى بقاعِ العالم، وأملًا في القضاء عليه، سعى محاربو التطرف إلى محاولة إيقاف آليته الدعائية، التي تعد من أبرز ما يميز هذا التنظيم؛ حيث تبثُّ محتويات إرهابية تعمل على استقطاب الشباب الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي.
والمتابع للأنشطة الدعائية الداعشية يجد أن هناك "تراجعًا" أو ربما "تباطؤًا" متعمدًا، في الدعاية الداعشية خلال الفترة الأخيرة، وهو الأمر الذي ربما يعكس الخسائر التي تكبدها التنظيم في معاقله الرئيسية في العراق وسوريا، وكذلك الحرب الإلكترونية القائمة بين برامج حماية الدعاية الداعشية وبين الجهود العالمية على المستوي الإلكتروني في التصدي لها، بغية دحر هذا التنظيم الإرهابي. ولكن هذا الأمر لا يعد "نهاية التنظيم" لأنه ينتهج دائمًا إستراتيجية المراوغة، ما يجعلنا نهتم بكل صغيرة وكبيرة في شأن هذا التنظيم، وهذا الأمر يؤكده الإصدار الأخير لداعش بعنوان "لهيب الحرب إلى قيام الساعة"، وهو الجزء الثاني من فيديو "لهيب الحرب" الذي بثَّهُ قبل ثلاث سنوات، والذي يوثق فيه سلسلة من عملياته القتالية ضد خصومه في سوريا ومصر والعراق. ويهدف داعش من هذا الإصدار إلى إقناع مقاتليه وأنصاره بأن المعركة لم تنته بعد، وأن الهزيمة لا تعني الاستسلام، وأنه مستمر في التواجد على الرغم من الخسائر التي يتكبدها.
ولكن الناشط على المواقع الإرهابية الخاصة بالتنظيم، يلحظ أنه في الفترة من 22 إلى 23 نوفمبر2017، لم يبث تنظيم داعش، لمدة 24 ساعة، أي صورة أو فيديو أو بيان عبر قنواته الرسمية على الشبكة العنكبوتية. وهي فجوة لم يسبق لها مثيل، وتُعد مؤشرًا حقيقيًّا لشيء ما.
فمنذ أن ظهر تنظيم داعش على الساحة الدولية في عام 2014، لم يتوان التنظيم لحظة واحدة في احتلال واستغلال الفضاء الإلكتروني، من خلال بث إصدارته المرئية والمسموعة، والمقروءة، والمصورة بجودة فنية وتقنية عالية. هذه الإستراتيجية سمحت للتنظيم باجتذاب المئات (أو حتى الآلاف) من الشباب للانضمامِ لصفوفه. ولكن الخسائر الإقليمية التي تعرض لها التنظيم في الأشهر الأخيرة، بما في ذلك سقوط معقل التنظيم في العراق (الموصل)، وفي سوريا (الرقة)، يبدو أن لها تأثيرًا مباشرًا على الإنتاج الإعلامي للتنظيم...
جدير بالذكر أنَّ فريق "بي بي سي مونيتورنج"، أحد فرق الرَّصد والتحليل لوسائل الإعلام العامة البريطانية، قد نشر يوم الخميس الموافق 23 من نوفمبر2017، التحليل الكمي للإنتاج الإعلامي الخاص بتنظيم داعش، وأفاد أن: "الإنتاج الإعلامي لتنظيم داعش الآن ليس سوى طيفٍ لما سبق إنتاجه"، فالتنظيم كان ينتج يوميًّا، قبل خسارة مدينة الرقة، 29 محتوى، أما الآن فلا يتعدى 10 منتجات.
وبإحصاء الإنتاج الإعلامي لتنظيم داعش خلال عام، في الفترة من 22 نوفمبر 2016 إلى 22 نوفمبر 2017، من قِبَلِ فريق "بي بي سي مونيتورنج" والذي قام بقياس مجمل الإنتاج الإعلامي الذي بثَّهُ تنظيم داعش خلال هذه الفترة، وقام بفهرسته، لا سيما ذلك الذي بثَّه التنظيم عبر القنوات المختلفة على تطبيق "تيليجرام"، والذي يبث عبر وكالة "ناشر" التابعة للتنظيم، توصل الفريق إلى أنه منذ سقوط مدينة الرقة، معقل التنظيم في سوريا في 17 من أكتوبر2017، يسجل المنتج الإعلامي للتنظيم انخفاضًا كبيرًا، كما هو موضح في الرسم البياني التالي:
وفيما يتعلق بعدد البيانات الصادرة عن وكالة "أعماق" التابعة للتنظيم، انخفض الإنتاج من 421 من المنتَجَات خلال شهر سبتمبر إلى 193 في شهر أكتوبر الذي شهد سقوط معقل التنظيم في سوريا. وانخفض كذلك عدد الفيديوهات التي بثتها وكالة "أعماق" من 52 فيديو في شهر سبتمبر إلى 11 فيديو في شهر أكتوبر، كما انخفضت أيضًا أعداد البيانات الصادرة عن التنظيم خلال هذه الفترة من 138 إلى 52، وكذلك الأمر بالنسبة لعدد الصور التي انخفضت من 175 إلى 81 صورة، ومقاطع الفيديو تراجعت من 15 إلى 4 مقاطع.
كما أن المجلة الشهرية "رومية" التي تصدر بالإنجليزية وبعشرة لغات أخرى، لم تظهر خلال شهر أكتوبر، وهذه هي المرة الأولي التى لم تصدر فيها المجلة منذ إطلاقها في سبتمبر 2016...
ومما لا شك فيه أن القدرة الإعلامية لتنظيم داعش قد تعرضت لضربة خطيرة بسبب فقدانه مدينة الرقة التي كان يستغلها التنظيم كمدينة إنتاج إعلامي. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن قوات التحالف الدولي المناهض لتنظيم داعش استهدفت على وجه التحديد خلايا الدعاية التابعة للتنظيم، على مدى الأشهر الماضية.
ومن جانبه يفسر وسيم نصر، الصحفي في فرنسا 24، والمتخصص في الحركات المتطرفة، تراجع الإنتاج الإعلامي الداعشي، قائلًا : "لقد انخفضت موارد التنظيم عن ذي قبل، فالفرق الإعلامية لديه تعاني من التنقل بشكل مستمر، وعدم القدرة على الاستقرار في مكان معين، فهم كفرق متجولة يتوقفون للبحث عن اتصال بالإنترنت. كما يصعب التواصل بين مختلف المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، وكل ذلك يفسر الانخفاض في نوعية وكمية الإنتاج الإعلامي للتنظيم". وأضاف أن "الجهاد الإعلامي يمثل نصف الجهاد"، على حد تعبير زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، ومن ثم اتخذه تنظيم داعش منهاجًا له.
ومما لا شك فيه أن التنظيم لن يتوقف عن بث أنشطته عبر الشبكة العنكبوتية في الوقت القريب. فإذا توقفت آليتُهُ الإعلامية في معاقله الرئيسية في سوريا والعراق، فستحمل معاقله في المناطق الأخري رايته الإعلامية، فها هي ولاية خراسان في أفغانستان وباكستان تبث في تاريخ 23 من نوفمبر 2017، مجموعة من الصور لتكسر الصمت الإعلامي للتنظيم الذي دام لمدة 24 ساعة.
ومن خلال هذه النتائج نتسأل: هل سيستمر معدل الانخفاض الإعلامي لدى تنظيم داعش إلى أن يندثر؟ أم أنَّ التنظيمَ سيتبنى إستراتيجية جديدة تعمل على رسم صورة مزيفة تواري خسائره على أرض الواقع، وتحافظ على صورته أمام أنصاره، وتضمن بقاءه على قيد الحياة؟ أم سيُشَيّدُ آليةً إعلامية جديدة في المناطق الأخرى التي يسعى التنظيم لفرض سيطرته عليها؟
وحدة الرصد باللغة الفرنسية