الآنَ وبعدَ انهيارِ تنظيمِ "داعش" وتشتُّتِ أعضائِه هُنا وهناك ومقتلِ الكثير منهم واعتقالِ الكثير واعدامِ الكثير، وبعدَ أنْ خَلَّفَ هذا التنظيمُ وراءَهُ الكثير من الأسر والأطفال الذين استخدمَهُم وقودًا لنيرانِه التي أضرمَها في عدةِ مناطق محدثًا بذلك صورًا بشعة من الدَّمار والخراب، فماذا عسى فرنسا أن تفعل إزاءَ أطفالهِا الذين وقعوا أسرى في مناطق الصِّراع السورية والعِراقية والذين يرغبون في أوبةٍ لبلادِهِم بعد أن مرّوا بتجربةٍ قاسيةٍ في حياتِهِم؟
فمثلها مثل العديد من الدول الأوروبية، تواجه فرنسا مُعْضِلَةً قانونيةً وأمنيةً حقيقية وهي كيفية التعامل مع الأسر الفرنسية المنضمة لصفوف تنظيم "داعش" من النساء والأطفال الرّاغبين في العودة إلى فرنسا، لاسيما بعد الخسائر التي تكبَّدَها التنظيم في معاقله الرئيسية في العراق وسوريا.
وفيما يتعلق بعودة الفرنسيين المنضمين لصفوف "داعش"، كانت فرنسا واضحة في هذا الشأن، وأعلنت مِرارًا وتِكرارًا على لسان حكومتها أنَّ هؤلاء الأشخاص قد حاربوا فرنسا، وذهبوا للقتالِ في صفوف "داعش" بمحض إرادتهم، وبالتالي عليهم تحمل مسئولية الاختيار. وأشارت الحكومة الفرنسية كذلك إلى أنه في حالة وجود أسرى أو محتجزين فرنسيين في العراق، فإن الأمور في منتهى البساطة واضحة وهي كالتالي : أنَّ السلطات القضائية العراقية هي المنوطة بأمر محاكمة ومعالجة قضايا المقاتلين والمقاتلات المقبوض عليهم في أراضيهم .أما بالنسبة لسوريا فالأمر مختلف تمامًا، حيث لا توجد سلطة واحدة واضحة، وعليه فإنه حسب الحالة من الممكن التواصل مع الصليب الأحمر الدولي للاهتمام بالأمر.
وبعيدًا عن اختلاف المواقف داخل الحكومة الفرنسية بهذا الشأن، يبقى السؤال : هل ستغير فرنسا سياستها تجاه أطفال مقاتلي "داعش" الفرنسيين وتسعى فعليًا لإعادتهم إلى فرنسا؟ لاسيما وأن هناك حوالي 2000 طفلًا تتراوح أعمارهم بين 9 إلى 15 عامًا، تَمَّ تجنيدُهُم وتدريبُهُم مِنْ قِبَلِ تنظيمِ "داعش"، في الفترة من 2014م إلى 2016م، من بين هؤلاء الأطفال كان هناك نحو ( 460 طفلًا) فرنسيًا؛ الأمر الذي يضع "فرنسا" على قمةِ ترتيب الدول المُصَدِّرَة للأطفالِ المجندين، ثم تأتي "روسيا" بعدها بعدد (350 طفلًا)، ثم "بلجيكا" (118 طفلًا)، ثم "هولندا" (90 طفلًا).
وأفاد مصدرٌ فَرَنْسي رفيع المستوي لوكالة الأنباء الفرنسية وصحيفة "لوموند" الفرنسية، أنَّ فرنسا عدَّلَت سياستها بشأنِ عودةِ أطفال مقاتلي "داعش" الفرنسيين، وستبدأ في إجراءات إعادة نحو 150 طفلًا من أطفال الأسر الفرنسية التي تَمَّ أسرُها على يَدِ الأكراد السوريين، خاصة في مخيم "روجفي" شمال شرق البلاد، ولكن بدون أمهاتهم (المشتبه في كونهم جهاديات أوعلى الأقل زوجات جهاديين). هؤلاء الأطفال هم الذين يمكنهم الاستفادة من العودة التدريجية. وأضاف المصدر قائلًا : "لقد دخلنا مرحلة نستعد فيها لعودة الأطفال الذين حصلوا على موافقة أمهاتهم". وأشار المصدر إلى إنه "منذ ثلاثة شهور، لدينا الآن رؤية أكثر وضوحًا للوضع، بينما في السابق كانت البلاغات المتعلقة بالوضع مبهمة للغاية".
وأفادَ المصدرُ أنَّ الأطفال ومعظمهم دونَ السادسة من العمر لن يتمكنوا من مغادرة "سوريا" والعودة إلى "فرنسا" إلا بموافقة أمهاتهم اللاتي سيبقين هناك في "سوريا". كما تستبعد "فرنسا" عودة البالغين أو المقاتلين أو زوجاتهم اللاتي يُعتبرن ناشطات في صفوف "داعش"، رغم مطالبات محامي هؤلاء الأسر الفرنسية أمام المحاكم الفرنسية بعودة هؤلاء الفرنسيات ومحاكمتهن على التراب الفرنسي.
جديرٌ بالذِّكْرِ أنَّ مصدرًا في وزارة الخارجية الفرنسية قد صرَّحَ أنَّ : "من ارتكب جرائم في العراق وسوريا، يجب محاكمة هناك"، وأضاف المصدرُ أنَّ : "الاستثناء هو للقاصرين فقط الذين ستَتِمُّ دراسةُ كُلِّ حالةٍ منهم على حِدَة. فلدينا واجب خاص للحفاظ على المصلحة العليا للطفل".
ومع ذلك، تبدو عودة هؤلاء الأطفال إلى الوطن مُعَقَّدَة للغاية، لأن المناطق التي يسيطر عليها الأكرادُ في "سوريا" ليست دولة معترف بها من قِبَلِ المجتمع الدولي، بالإضافة إلى تجميد "باريس" علاقاتها الدبلوماسية مع "دمشق" منذ بدء الصِّراع في "سوريا" عام 2011م. ولكنَّ "فرنسا" قد بدأت بالفعل النظر في كيفية التعامل مع هذه القضية المُعَقَّدَة للغاية، فالصليب الأحمر هو الذي سيتدخل كقناة دبلوماسية بموافقة نظام الأسد.
ولكنَّ هذه المشكلات القانونية والدبلوماسية أقل مع عائلات المقاتلين الفرنسيين الموجودين في "العراق"، حتى وإن كان عدد أطفال مقاتلي "داعش" الفرنسيين في "العراق" أقل بكثير، حيثُ تَمَّ إحصاءُ ثلاث عائلات فقط. كما وافقت "ميلينا بوغدير"، إحدى الأمهات الفرنسيات التي حُكِمَ عليها بالسجن مدى الحياة في "العراق"، على عودة ثلاثة من أطفالها إلى "فرنسا" (في سن 4 و6 و8 سنوات)، ولايزال معها رضيعيها في سجن عراقي.
وبحسب باريس، فمن بين 680 إرهابيًا فرنسيًا في منطقةِ الصِّراع العراقية – السورية، مات أكثر من 300 إرهابيًا، وفَرَّ عددٌ قليل منهم إلى دول أخرى (أفغانستان، بلاد المغرب، ليبيا...)، بينما لا يزال البعض منهم يقاتل في المنطقة الصغيرة التي لا يزال يسيطر عليها تنظيم "داعش" على الحدود السورية العراقية. وهناك آخرين في معقل المتمردين في "إدلب" أو في المخيمات التي تسيطر عليها القوات الكردية، حيثُ يتِمُّ احتجازُ أكثر من 900 من مقاتلي "داعش" الأجانب من 44 دولة، وهو ما يمثل مُعْضِلَةً قضائية وأمنية حقيقية...
ونُشيرُ هُنا إلى أنَّ "نديم حوري"، مدير برنامج "مكافحة الإرهاب" في "هيومن رايتس ووتش"، قد زارَ عدة مرات المخيمات التي تسيطر عليها القواتُ الكردية، حيث تُحتجز النساء الفرنسيات وأطفالهن. ووصفَ تلك المخيمات بكونِها خالية من أبسط الخدمات الطبية والمراقبة الصحية، وليس بها أي فرص لتعليم الأطفال، وأشارَ إلى أن هذه المخيمات تُستَخْدَمُ أيضًا كمراكز اعتقال". وذكر "نديم حوري" أنَّ المخيمات الرئيسية الثلاثة تضم حوالي 1900 امرأةً وطفلًا، من 44 جنسية، من بينهم نحو عشرين امرأة فرنسية مرتبطة بتنظيم "داعش".
ويقول "حوري" أنَّ "المشكلة الكبرى هي أنهم لا يستطيعون الوصول إلى أي خدمة، فهم يعيشون في خيام بينما نقترب من فصل الشتاء الثاني". وأضاف "حوري" : "بالفعل، في يناير الماضي، عندما كنت هناك، كان الجو باردًا جدًا ليلًا، وكان هناك العديد من الأمراض، لاسيما أمراض الجهاز التنفسي، لأن المخيمات ليست بعيدة عن حقول النفط، وبالتالي فإنَّ الهواءَ ملوثٌ جدًا، وهناك أيضًا كل غبار السهوب السورية".
وأشار إلى أنه من الصعب معرفة ما إذا كان هؤلاء النسوة "تائبات"، أو
أنهن لا يزالن مرتبطين بالأفكار المتطرفة، موضحًا أنه "ليس محاميهم أو طبيبهم النفسي". ولكنَّ "الغالبية العظمي من هؤلاء النسوة يُرِدْنَ العودة إلى "فرنسا" لأنهن يعرِفْنَ جيدًا أنهن سيواجهن العدالة الفرنسية، وهن يقبلن حكمها، ومستعدات لدفع ثمن أعمالهن. إنهن يردن فقط الخروج من هذا الفراغ القانوني الذي يجدون أنفسهم فيه".
كما أنه من الصعب أيضًا معرفة ما إذا كُنَّ سيقبلنَ - كما تطلب فرنسا - الانفصالَ عن أبنائهِنَّ ليعودوا إلى فرنسا : "إنهن يريدن مستقبلًا لأطفالهن : غالبية هؤلاء الأطفال أقل من خمسة سنوات، وُلد غالبيتهم في منطقة الصراع أو تَمَّ اصطحابُهُم إلى منطقة الصراع في سِنّ صغيرة...".
وفي هذا الإطارِ، نُثَمِّنُ ما تسعي إليه "فرنسا" والتدابير التي تتخذُها من أجل دقة التعاطي مع هذا الملف لإعادة أطفالها الذين كانوا يقاتلون بصفوف "داعش"، والعمل على إعادة تأهليهم لوقايتِهِم من الفكرِ المتطرف، وإعادة دمجِهِم بالمجتمع الفرنسي، وذلك أملًا في ألا يتحول هؤلاء الأطفال إلى عناصر إرهابية في المستقبل، لاسيما وأن تنظيم "داعش" يتخذ من "الأطفال"نواة لمشروعه، مثلما يظهر الأطفال من مختلف الألوان والجنسيات جنبًا إلى جنب في دعايتِهِ، ويكأنَّهُ قد استطاع ترويضَ عقولهم رُغْمَ صِغَر أعمارهم، فهم قنابل موقوتة، في يَدِ تنظيم لا يرعى إلًّا ولا ذِمَّةً، يُكنُ تفجيرُها في أي وقتٍ وبأي طريقة كانت. ونؤكِّدُ هُنا أنه وباستعادةِ هؤلاء الأطفال والعمل على إعادة تأهيلهم تكون "فرنسا" بذلك قد قطعت الطريقَ أمامَ التنظيم ومخططاتِه في استغلال هؤلاء الأطفال الأبرياء.