إن السير في الحياة على هامش المجتمع والشعور بالحرمان يدفعان الشباب إلى السير في غياهب الإرهاب والتطرف، كمخرج يلجئ إليه هروبًا من الظلم والحرمان واليأس، فيهديه ضيقه إلى أرضية جديدة يجد فيها سبيله الغائب، وهو ما يسعى إليه أصحاب الفكر المتطرف؛ عبر شعارات يفتقدها المُهمش والمحروم.
فتقوم اللجان المتطرفة بمحاصرتهم على مواقع التواصل الاجتماعي فيصدرون لهم مقاطع فيديو ترويجية تلقي الضوء على جانب مزيف من حياة التنظيمات المتطرفة، فيهرع البعض للانضمام إليهم باحثين عن بريق أمل في صفوفهم، ولكن سرعان ما تظهر الحقيقة لهم بعد انضمامهم إلى صفوف تلك التنظيمات، وقتها يكون الباب قد أغلق خلفه، وقد حدث هذا الأمر مع أحد المواطنين الألمان الذي اعترف أمام المحكمة أنه توقع - قبل الانضمام لتنظيم داعش الإرهابي - أن يكون هناك مباريات كرة قدم، وحفلات شواء، ونساء، وسيارات، وبعد الدخول إلى معسكرات التنظيم تبين له أن هذه الأمور مجرد أوهام في عقله، وطريقه بين الحرب والدمار.
ويُعَرف الشعور بالتهميش والحرمان النسبي المؤدي للتطرف بأنه حالة ذهنية ونفسية تتأثر بالفرق الملحوظ أو الفجوة بين رغبات الأفراد، أو توقعاتهم في الحصول على بعض الحقوق مثل: الثروة، والمكانة الاجتماعية وغيرهما من الحقوق الأساسية، وبين ما يمتلكه هؤلاء الأفراد بالفعل، أو قدرتهم على تحقيق تلك الرغبات وعليه فإن مقدار الفجوة بين هذين المتغيرين هو ما يطلق عليه الحرمان النسبي، ومن المعروف أنه كلما زاد شعور الشخص بالحرمان زاد ميله للمشاركة في العنف والتمرد، وذلك وفقًا لما يراه علماء النفس، فإنهم يعتقدون أن تجاهل الحقوق الاجتماعية والأساسية للأفراد يؤدي حتمًا للعنف، إذ يحاول البعض تغيير الوضع بارتكاب أعمال إرهابية بدعوى أنهم يعانون من الحرمان ولا يمكنهم تغيير أوضاعهم إلا بهذه الطريقة (امير ساجدي: ريشه يابي مؤلفههای تاثیرگذار بر گسترش تروریسم در خاورمیانه، فصلنامه مطالعات سیاسی، سال نهم، شماره ۳۳،سال۱۳۹۵،ص۱۵۱).
ويتمثل الشعور بالتهميش والحرمان النسبي المؤدي للتطرف في شقين أساسيين:
الأول: الشعور بالتهميش والحرمان الأسري: ونقصد به فقدان أحد الأبوين أو كليهما، أو فقدان الاحتواء الأسري بوجه عام؛ فالأسرة جوهر المجتمع، فإذا حدث أي خلل أو انحراف في الأسرة عن المسار الطبيعي فهذا يعني دمار الأسرة ومن ثم المجتمع، فيسعى الأفراد حينئذ إلى العنف والعمليات الإرهابية، لتلبية احتياجاتهم ورغباتهم التي لم يستطيعوا تلبيتها في أسرهم.
وقد أكدت دراسة أعدها "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" لقراءة الأسباب الاجتماعية والسيكولوجية والتعليمية التي تدفع الشخص للانضمام إلى تنظيم متطرف أن ثمة ارتباط قوي بين الأفراد الذين انضموا للجماعات المتطرفة ومعاناتهم بسبب حرمانهم من أحد الوالدين أو كليهما معًا، أو غياب التأثير الفاعل للوالدين في مرحلة الطفولة لمَن تم تجنيده. وكانت الأسباب التي توصلت إليها الدراسة بالترتيب التنازلي كالتالي: الأفكار الدينية في المقدمة بنسبة (40%)، ثم رغبة الشخص في أن يكون شيئًا ضمن منظومة أكبر من ذاته بنسبة (16%)، فالبحث عن عمل بنسبة (13%)، وتصديق كلام زعيمه الديني بـ (13%)، ثم عوامل الصداقة والقرابة (10%)، وأسباب عرقية (5%)، والأفكار السياسية للمجموعة (4%)، والمغامرة (3%)، والخدمات المقدمة من التنظيم (3%)، وتصديق المعلم (2%)، والعزلة الاجتماعية (1%)، والتهميش السياسي (1%)، وبلغت نسبة "أسباب أخرى" 3%.
ومن أهم النتائج التي توصل إليها الباحثون في هذا الصدد أن الطفولة التعيسة تؤدي دورًا حاسمًا في تجهيز الطفل للانخراط في تنظيمات إرهابية في المستقبل: فالحرمان من أحد الوالدين، سواء بسبب اليتم أو غياب رعاية الوالدين، وكذلك تعرض الطفل للعقاب البدني العنيف، وأنه حيثما يكون هناك ظلم وحرمان ويأس، فإن الأيديولوجيات المتطرفة العنيفة تطرح نفسها كشكل من أشكال الهروب التي يلجأ إليها الشخص هروبًا من الظلم والحرمان واليأس ( نشرت هذه الدراسة على موقع Scientific American بتاريخ: 9 نوفمبر 2017م تحت عنوان: التهميش والحرمان أقوى دوافع التطرف).
كما ذكر السيد "ألكسندر زويف" مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لشئون سيادة القانون والمؤسسات الأمنية، خلال المؤتمر الرابع للحوار بين الثقافات، والذي عقد في العاصمة الأذربيجانية "باكو" أن بعض الدراسات التي قمنا بها أشارت إلى أن الوضع الأسري والثقافي والاجتماعي في المجتمعات المختلفة قد لعب دورًا مهما للغاية في التجنيد لصالح الجماعات المتطرفة.
مبينًا أن التفكك الأسري الذي ينشأ نتيجة الطلاق، والإهمال، وانشغال الأب، وغياب الأم عن رعاية الأبناء وتدبير أمورهم والإشراف عليهم وتركهم لأمواج العصر، من أهم الأسباب الاجتماعية للتطرف والإرهاب.
ومن الأسباب التي تؤدي إلى التطرف بطريقة مباشرة، فقدان الدعم والاحتواء من الأسرة حال الأزمات التي يتعرض لها بعض الشباب، مما يجعلهم داخل بيئة خصبة يتلقفها المتطرفون لغرس أفكارهم الضالة، وتصوير الحياة داخل تنظيماتهم كأنها جنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين "ولعل هذا اتضح جليًا في القصة التي ذكرها موقع "دويتشه فيله" باللغة الفارسية أن أحد المنضمين لتنظيم داعش في سوريا ويدعى "إبراهيم اتش بي" - ألماني من أصل تونسي- ذكر أنه تعرض لصدمة نفسية إثر إلغاء حفل زفافه؛ بسبب تدخل بعض أفراد أسرته ورفضهم للزوجة بذاتها مع أنه كان يتمناها، ومع عدم وجود الدعم المناسب من أقاربه، قام بالبحث عن الدعم من أصدقاء جدد تعرف عليهم -لدرجة أنه وصفهم بأنهم كانوا كإخوته- ومع علمهم أن مشكلته تتمثل في الزواج وعدوه بزوجات عدة في بلاد الخلافة المزعومة فذهب معهم وترك موطنه، إلا أنه وجد الأمر سراب على حسب وصفه.
الثاني: الشعور بالتهميش والحرمان الاجتماعي: بمعنى الشعور بالحرمان النسبي من الحياة في ظروف معيشية جيدة، أو المشاركة في الحياة العامة بسبب الشعور بعدم عدالة الدولة، واهتمامها بمصالح فئة قليلة من المواطنين، بما يعني أن فئات معينة من المجتمع تتمتع بامتيازات أقل من فئات أخرى أو أنها محرومة بوجه عام من الامتيازات، وبالتالي ينمو لدى هؤلاء الشباب شعور بعدم شرعية الدولة، فيبحثون عن مكان آخر يوهمهم بالعدالة، ويعدهم بحل جميع مشكلاتهم. (فريد علومي: تاثير إحساس محروميت نسبي برگرایش برخی از ساکنان کشور به داعش، فصلنامه مطالعات راهبردی، سال بیست وسوم، شماره اول، سال ۱۳۹۹، صـ ۳۸) ووفقًا لنتائج الدراسة التي أعدها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والتي سبق الإشارة إليها فإن (83%) من العينة التي أجري البحث عليها يؤمنون بأن الحكومة لا تهتم إلا بمصالح فئة قليلة، وأكثر من (75%) لا يثقون بالسياسيين ولا بالجهاز الأمني للدولة، مشددةً على أن تدنِّي المستوى التعليمي، وضعف الدخل الشهري، وتردِّي الأوضاع الاجتماعية كانت كلها أسبابًا رئيسية في انضمامهم إلى تنظيمات إرهابية، خاصةً أن أكثر من نصف سكان العينة من دول تعيش تحت خط الفقر.
وتستغل الجماعات المتطرفة شعور الحرمان لدى الشباب فتسعى للتأثير على عقولهم من خلال عمليات غسيل المخ، حيث تساعدهم على خلق هوية جديدة، وتعطيهم إجابات سهلة وشعارات فارغة يكون لها وقعًا وأثرًا قويًّا وجاذبًا بالنسبة إليهم لا سيما بعض أفراد الفئات المهمشة من غير المتعلمين، والذين لا يمكنهم الزواج لعدم إمكانية تحمل تكاليفه، أو الذين تنعدم لديهم الثقة بالذات، أولم يتمكنوا من الحصول على وظائف، فتفتح لهم هذه الجماعات المتطرفة ذراعيها وتقدم لهم كيانًا يمكنهم الانتماء إليه والارتباط به، وتشعرهم بالقبول وبروح الجماعة، وتزرع بداخلهم شعورًا زائفًا بالثقة بالذات والأهمية والتميز. فتكون النتيجة أن يتحول انتماء تلك الفئات التي تشعر بالتهميش إلى المتطرفين فينتهجون نهجهم في مواجهة المجتمع، سعيًا وراء الهوية والمكانة الاجتماعية المنشودة (فريد علومي: الدراسة المذكورة سابقًا).
وبعد هذا العرض السريع يؤكد مرصد الأزهر لمكافحة التطرف على أهمية نشر القيم التي تحث على التسامح وتُرسخ الشعور بالانتماء للوطن، وقبول الآخر وتعزيز السلم في المجتمعات، وتضمينها في المناهج التعليمية المختلفة لتحصين الشباب من الفكر المتشدد، ومواجهة كافة الأيديولوجيات المتطرفة التي تبث خطابات الكراهية وتعمل على إقصاء وتهميش الآخر، وتوعية الوالدين بضرورة الحوار مع أبنائهم؛ لحمايتهم من الوقوع في براثن التنظيمات المتطرفة؛ لأن ترابط الأسرة من أهم أسباب تماسك المجتمع، إذ هي حائط الصد المنيع أمام التطرف والإرهاب.
كذلك يدعو المرصد الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية إلى تعزيز مكافحة صور التهميش والحرمان النسبي المختلفة، بما يحقق المساواة والعدالة في الحصول على الحقوق الاجتماعية وذلك للحفاظ على المجتمعات وحمايتها من استغلال التنظيمات المتطرفة التي تسعى لتدميرها والقضاء على مدخراتها.
كما يدعو المرصد إلى تشجيع المبادرات الشبابية التي تهدف إلى التعريف بالتراث والحضارة والاعتزاز بالهوية والتماسك الاجتماعي واحترام التنوع، ونشر روح الأخوة والاحترام المتبادل بين كافة فئات المجتمع.
وحدة الرصد باللغة الفارسية