الجماعات المتطرفة

 

05 أبريل, 2023

زَلّةٌ في معصية... جَرَّتْ سَفْكًا للدماء!

           يَحار العقل كلما عَلِم بوقوع فظيعة من فظائع الأعمال الإرهابية، ووجه الحيرة أن السؤال الذي لا يكف عن الإلحاح على العقل: كيف لإنسان – أي إنسان – أن يأتي مثل هذه الفظائع؟! والحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي بحثًا شاملًا متعدد الاختصاصات يتناول رحلة الإرهابي بِأَسْرِها من لحظة اقتراب التنظيم الإرهابي منه لاستقطابه حتى لحظة ارتكاب العمل الإرهابي. لذا تجتهد هذه المقالة في استجلاء أهم مراحل تلك الرحلة من حيث أساليب (١) الاقتراب و(٢) السيطرة و(٣) الاستغلال التي تباشرها الجماعات المتطرفة مع مُجنَديها.

البداية بالإشارة إلى قدرة الشيطان بوسوسته على إيقاع الزلل في نفوس المذنبين بأن يستزلهم ببعض ما كسبت أيديهم؛ وكذلك التنظيمات الإرهابية التي توسوس إلى المُجنَدين المرتقبين بأساليب اقتراب تعيها  وتتقنها بعد أن تَعْلَمَ في نفوس هؤلاء المجنَدين حاجةً إلى غفران ما اقترفوا من ذنوب وآثام. فالحديث إذًا عن فئة بعينها من المجنَدين الذين ارتبط تجنيدهم -أحيانًا- بمزاعم الاختفاء القسري لا لشيء إلا للاستحالة العقلية لتفسير تغيّبهم بالانضمام إلى جماعات إرهابية. قد يسأل سائل: وما دواعي تلك الاستحالة العقلية؟ لأن المجنَدين الذين تتناولهم هذه المقالة يحيون حياةً رغيدة كريمة، ويقصدون جامعات مرموقة، وينتمون لعائلات لها حظها الوافر من الثقافة والاحتواء؛ ولعل من أشهر تلك الحالات الشاب "إسلام يكن" الذي انضم إلى داعش بعد أن توفرت له أسباب الحياة السالف وصفها، فهو من أبناء الحي الراقي "مصر الجديدة"، ودأب على ارتياد صالات التدريب الرياضي وتحقيق مستويات علمية ورياضية متقدمة، فضلاً عن وجوده في محيط اجتماعي حافل بالتنوع الإنساني من حيث تعدد الجنسيات والأديان والأنشطة الاجتماعية؛ ومع ذلك كان من ضحايا التنظيم الإرهابي الذي اخترق عقله وجنَّده من مدْخَل الإسراف على نفسه ولزوم تكفير ذنوبه، فأوهمه أن تكفير الذنوب يكون بتكفير المجتمع، وأن ترغيب النفس في التوبة يكون بترهيب الخلق من حوله. لذلك، نعرض فيما يلي بعض مساعي الجماعات والتنظيمات المتطرفة والإرهابية في استزلال هذه الفئة من الشباب:

  1. الاقتراب: هذه الكلمة معروفة في الدراسات الأمنية بمعنى كيفية إحداث علاقة أولية مع المراد تجنيده، ويقاربها في هذا السياق لفظة "استزلهم" في الآية الكريمة؛ إذ المراد من كل منهما إحداث تغيير أوّلي في توجّه المراد تجنيده صوبَ أفكار وغايات ينشدها التنظيم القائم بالتجنيد. ومن المعلوم أن تلك التنظيمات تستقطب أشخاصًا على طرفي نقيض: (أ) أصحاب التوجهات المتطرفة (وهي فئة يسهل استقطابها واستغلالها لأسباب مفهومة من حيث وجود المشترك الفكري الباحث عن التفعيل الميداني فحسب)؛ و(ب) اللاهون العابثون، وهي الفئة ذات الاستحالة العقلية المشار إليها في عيون الناس. فما المدخل إليها؟ تعكف التنظيمات الإرهابية على تحقيق الانتشار الإعلامي بكل وسيلة ممكنة، حتى رأينا "داعش" يصدر بلغات متعددة في الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ فإذا وقعوا على عابث لا همَّ له في الدنيا سوى الخوض في الملهيات والملذات والشهوات أحسنوا استغلال المدخل بليّ أعناق الآيات والأحاديث؛ فـــ "كل ابن آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون" (رواه أحمد، ١٣٠٤٩)، ليزينوا بعد ذلك له معاني دينية أخرى من قبيل الحديث النبوي: "يا رسولَ اللهِ، أَوْصِني، قال: إذا عمِلْتَ سيِّئةً فأتْبِعْها حَسَنةً تَمْحُها" (رواه أحمد، ٢١٤٨٧)، ثم يحين دور معاني متمِّمة من قبيل الحديث النبوي: "سُئلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيُّ الأعمالِ أفضلُ وأيُّ الأعمال خيرٌ قال إيمانٌ باللهِ ورسولِهِ، قيلَ: ثُمَّ أيُّ شيءٍ؟ قال: الجهادُ سنامُ العملِ، قيلَ: ثُمَّ أيُّ شيءٍ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: ثُمَّ حجٌّ مبرورٌ" (رواه الترمذي، ١٦٥٨).

بذلك تعتمل العاطفة المُهاجة في نفس المستهدَف حتى ينبري "مجاهدًا"؛ والعاطفة تلغي عمل العقل كما هو مثبت علميًّا ونفسيًّا؛ فينبري هؤلاء للجهاد المزعوم المفضي إلى إهلاك الدين والنفس، ولا ينفك الإرهابيون عن تلبيس المفاهيم وطمس الحقائق وغسل أدمغة المُستَقطَبين بوسائل منتقاة مدروسة – منها:

أولاً - التطويع: يتخلل هذه العملية تحويل المُستَقطَبين إلى أدوات طيعة في أيدي مُجنِّديهم، مستغلين في ذلك عطشهم النفسي إلى سرعة مغفرة ما مضى والتعجيل "بالحسنات" في ما هو آت. فيستحيلون بذلك إلى مرضى باضطراب الشخصية الاعتمادية المرتبكة كما يقال في علم النفس؛ ويصبحون مُسَيَّرين بعد أن كانوا أحرارًا مخيَرين – كيف لا وقد جعل الله العقلَ مناطَ التكليف؟!

ثانيًا - الأسلمة: يلي ذلك عملية الأسلمة، بمعنى إسباغ التأصيل الشرعي الإسلامي على كل ما يقال للمُستَقطَبين وعلى كل ما يُؤمَرون به؛ وهنا يصبح ليّ أعناق الآيات والأحاديث واجتزاؤها وعزلها من سياقها أظهرَ ما يكون.

ثالثًا - التقديس: المراد بهذه العملية الإجلال الوافر لمصادر المعارف المُأَسْلمة من رجال وكتب، فتضمن الجماعات والتنظيمات المتطرفة والإرهابية بذلك رسوخ متطلبات "التطويع" السالف بيانها، وإبراز الحجية المرجعية لتأويلاتهم ومراجعهم دون سواهم؛ وبذلك يُنزَع منهم مَلَكات فطرية للمقاربة والمقارنة، ويُلغى فيهم عمل العقل والنظر. ولهذه العملية غاية بالغة الخطورة؛ فتقديس تلك المراجع كفيل برفع الحرج عن نفس الإرهابي عند ارتكاب أعمال إرهابية تودي بحياة الناس أيًّا كانت صفاتهم، ولو وُجِد ذلك الحَرَج لانفعلت عقول الإرهابين المسيَّرين ونفوسهم؛ وقد يستدعي ذلك ردّة فكرية في أوساطهم فينقلبون على تنظيماتهم – لذا يظل التوجيه المعنوي حاضرًا على الدوام عند تلك التنظيمات للإرهابيين بوصفهم يد الله الطولى وجنده وخلفاؤه في الأرض، وأن الأبرياء المقتولين "يُبعَثون على نيّاتهم". من هنا تتكون لدى هؤلاء حالة نفسية تسمى "عقدة الاستعلاء"، ويرسخها ما بثّه كبار منظّري تلك الجماعات -من أمثال سيد قطب- عن فكرة "الاستعلاء بالإيمان. وأشد ما تكون هذه العقدة أثرًا فيمن يجمع بين الإيهام بالإنقاذ من طريق الضلال إلى طريق الحق، وحالة "الاستعاضة المفرطة" التي يتعجّل بها المذنبُ مغفرةَ الله [بمعنى أنه يسعى سعيًا شديدًا لتعويض ما فاته من خير مزعوم، فيُغلِظ في المعاوضة بالجهاد المزعوم]، فضلاً عن اجتماع ذلك مع اتقاد حماسة المراهقة والشباب، والسعي الشديد نحو إيجاد دور في الحياة والاشتهار به – فما ظننا إذا تلاقت تلك العوامل في نفوس المُسْتَقطَبين ليظنوا في أنفسهم أنهم أسباب العقاب الرباني وأدوات الإصلاح الإلهي وخلفاء الله في أرضه؟

رابعًاالتزيين: يتخلل هذه العملية تمجيد الأفعال التي أتتها تلك الجماعات والتنظيمات، فيزينونها في عيون المُستَقطَبين الطامحين إلى محاكاتها، ويواكب ذلك التطلع إلى التفوق على تلك الأفعال لاستمرار التزيين ونيل الإشادة.

خامسًا الأَثَرَة: تستكمل هذه الخطوة خطوتي "الأسلمة" و"التقديس"، إذ يراد بها استئثار تلك الجماعات والتنظيمات بالحق والحقيقة، وفَصْم أتباعها عن أية مصادر أخرى للمعرفة الدينية المتعارضة مع العقائد التي يُلَقَّنونها.

سادسًا الشيطنة: تنطوي هذه الخطوة على شيطنة كل فكرة وعقيدة ونهج ومرجع آخر من شأنه أن يقدم بديلًا لطرح تلك الجماعات والتنظيمات؛ وما يميز الشيطنة عن الطعن (انظر الخطوة التالية) هو ارتباط الشيطنة بكل ما هو غير إسلامي، أما الطعن فمختص بالظواهر والأفكار والتنظيمات الأخرى التي تدعي العمل الإسلامي.

سابعًا – الطعن: ثمة تنافس بين تلك الجماعات والتنظيمات على الموارد، لا سيما العنصر البشري. لذا لا تجدها على وفاق حتى وإن اتحدت في الغاية أو في أساليب التدمير والقتل؛ لذا تجدها (١) تطعن في عقائد المنافسين، و(٢) تبالغ في اقتراف الأفاعيل والمآسي إثباتًا لعلوّ كعبها وجسارة رجالها، واستقطاب الانتباه وحفظ الأتباع، واستقطاب أتباع جدد باستنزافهم من المنافسين.

 

  1. السيطرة. بعد المرحلة الأولى المتمثلة في الاقتراب والاستقطاب وما يتفرع منها من خطوات التهيئة النفسية والفكرية، يصبح المستَقطَبون مستعدين لإثبات حضورهم ميدانيًّا، ولذلك خطوات من بينها:

أولاً – التفرّد: يتخلل هذه الخطوة توجيه المستقطَبين إلى ترسيخ مفهوم "الأثَرَة" بالتفرد في التنفيذ على مستوى الفرد والتنظيم، يعضده في ذلك مفهوم أحادية الفرقة الناجية من واقع أحاديث نبوية جاءت للتنفير من الشقاق والخلاف، فإذا بها تُستَغَل لترسيخهما.

ثانيًا – الاستبداد: للجماعات والتنظيمات المتطرفة والإرهابية مَسْلَكُها المستبد العنيف في ردع أية محاولات للانشقاق والتولي عن الزحف، لذا تُنزِل أنكى العقوبة بالمخالفين والمنشقين.

ثالثًا – إعجام العود: أي الانتقال من التنظير إلى التطبيق الميداني بتنفيذ عمليات، ويتخلل هذه الخطوة دفع المستَقطَب بعد تدريبه (العابر في الغالب) إلى ميدان التنفيذ إما لتنفيذ عملية يراد بعدها رجوعه وإما لتنفيذ عمل انتحاري؛ وبذلك يرميه التنظيم في عوالم البأس والشهرة كي يحقق بذلك بَصْمَتَه وأثَرَه في النصرة المزعومة للدين.

رابعًا البَغْي: تنطوي هذه الخطوة على مباهاة التنظيم أمام العالم ومنافسيه وأتباعه بأنه لا يعرف حدودًا مُلجِمة ولا قيودًا مُقعِدة – فلا نهاية لقدراتهم (لا حواجز مالية)، ولا لطائلتهم (يضربون في أي مكان وزمان)، ولا حسبان لأي اعتبار (الاستهداف بغير تمييز ولا اعتبار لوجود أبرياء)، ولا حدود جغرافية في ظل "دولة الإسلام"، ولا حدود للمتع الجنسية (بالاسترقاق والسبي، فلا قيود تتعلق بمهور ولا بتجهيزات ولا غير ذلك)، ولا حدود ولا قيود لأساليب العمل (فكل شيء مباح وممكن: من تفخيخ الأحذية والمؤخرات، والدهس بالمركبات، واستخدام السلاح الأبيض، والمتفجرات؛ فضلاً عن التجنيد عبر وسائل غريبة من قبيل "بلايستيشن" ومنصات المواعدة وغيرها، فلا حدود للشر سوى الخيال).

خامسًا – العجرفة: هذه السمة مرتبطة بالمفردات المستخدمة في إعلام تلك الجماعات والتنظيمات، إذ تتسم بالغطرسة والاستعلاء من حيث "التفرد" و"الأَثَرة" كما سلف؛ وبذلك يخاطبون حماسةً متقدةً في نفوسِ الأتباع المضلَلين؛ ومن ذلك خطاب "الفرقة الناجية" وأسلوب "الوعيد" المقترن بالتكفير، واستخدام مفردات "الزلزلة" و"تحطيم الجماجم" وغيرها من العبارات، ومن ذلك أيضًا تصدير جوازات سفر "داعش" بعبارة: "حامل هذا الجواز تسير له الجيوش لو مسّه ضرر".

سادسًا الذيوع: حرصت الجماعات والتنظيمات المتطرفة والإرهابية على استغلال المعارف اللغوية لعمل إصدارات بلغات متعددة تحقيقًا لغايتين: (١) استقطاب مزيد من الأتباع، و(٢) إثبات الوجود لدى الغير وبث الرعب في المجتمعات الناطقة بتلك اللغات. وساعدها في ذلك وجود عناصر لديها من دول من كل أنحاء العالم؛ ولعل عنصر داعش المسمى "جون الذبّاح" من أشهر تلك العناصر بلكنته الإنجليزية البريطانية.

  1. الاستغلال الحاكمية بأمر الله: انطلاقًا من خطوتي الأسلمة والأثرة وما يليهما، يُحوَّل المستقطَبون إلى أسلحة مدمِرة تعيث في الأرض فسادًا وفي الدول هدْمًا وفي الخلائق قتلًا، يعضدهم في ذلك فهمٌ منتكسٌ أنهم يحكمون بأمر الله، وأنهم يمثلون إرادة الله في أرضه، وأنهم قضاة الله المستخلَفون في الأرض – وما أعتاه من سلاح نفسي وبدني بأيدي لاهين بالتكفير، معتصمين بالتفجير، متشحين بالتثوير.

خلاصة القول: إن خطوات الاقتراب من المستَقطَبين وما يتبعها من أساليب الاستقطاب وغرس التطرف والتطويع وصولًا إلى تحويلهم إلى أسلحة مُشهَرة في وجوه أهداف الجماعات والتنظيمات إنما هي أساليب تقوم -في حالات بعينها عُنيت بها هذه المقالة- على إشعال الإحساس بالذنب والتفريط في جنب الله، ثم بروز عناصر تلك الجماعات والتنظيمات في ثوب العارفين بالمغفرة الدالّين على طريقها، فيترتب على ذلك توجيه فكري ونمط سلوكي يقومان على الأثرة والتفرد، والتسويغ والتألّي، وشيطنة الآخر وتكفير المسلم؛ ومن المؤكد أن تلك الجماعات والتنظيمات هي "الشيطان" الذي "يستزل" أصحاب الزلات، في حين أن الله يعد التائبين بالرحمة والمغرفة: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر، ٥٣). والمؤكد أن تلك الجماعات والتنظيمات تجد مبتغاها ومسْرَحها الأمثل في الدول المفككة وحالات الثورات والاضطرابات – فهي جنّتهم الحالّة التي يزعمون النفاذ منها إلى جنتهم الآجلة. حفظ الله العباد والبلاد من عبث العابثين... آمين.

وحدة رصد اللغة الإنجليزية


رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.