في هذا العصر الرقمي الذي يتسارع فيه التطور تسارعًا كبيرًا، أصبح الإنترنت اليوم ساحة مفتوحة، لا لحوارٍ بناء أو ترفيهٍ عابر، بل لصراعات فكرية تغزو العقول وتثير الفوضى في نسيج المجتمعات. لقد تحول الفضاء الإلكتروني إلى أرض خصبة تتناسل فيها الأفكار المتطرفة، تلتهم الأمل وتزرع بذور الفتنة، حتى أصبحنا أمام مشهد رقمي يهدد أمننا الفكري والاجتماعي.
ومن بين هذه الأمواج المتلاطمة، يبرز تطبيق "تيك توك" أداة مرنة وسريعة في يد من يختارون زعزعة السلام واستهداف شباب العالم بنظرياتهم المسمومة، محولين منصةً للتسلية إلى ساحة معركة يقتحمها التطرف بألوانه العنيفة والمخادعة
. ومع صعود "تيك توك" إلى مكانته البارزة بين منصات التواصل الاجتماعي، أصبح بمثابة جسر بين أفكارٍ شديدة التباين، جسر يمكن أن يحوّل لحظات من الترفيه إلى لحظات مشحونة بالكراهية والعنف، وكأن الكلمات والرموز الصغيرة التي تمر أمام أعيننا تتوارى خلفها أجندات تخريبية.
وبات تنظيم "داعش - خراسان" وحركة "طالبان" ينسجان خيوط خطاباتهما المتطرفة، ليجعلوا من هذه المنصة ساحة لبث أفكار مشوهة تهدف إلى تجنيد العقول الشابة. لا تقتصر رسائلهما على إشعال نيران العنف فحسب، بل تسعى إلى تغذية ثقافة الكراهية، وتفتح أمام العقول المتسائلة أبواب الجهل والتطرف. بهذا، يتحول "تيك توك" من مجرد أداة للتسلية إلى وسيلة خطيرة لتمرير أيديولوجيات مدمرة، تشكل تهديدًا حقيقيًّا للسلام الاجتماعي والإنساني.
وفي هذا الفضاء الرقمي الذي لا حدود له، تنشط على "تيك توك" مجموعتان رئيسيتان في نشر المحتوى الجهادي، تحمل كل واحدة منهما راية فكرية متطرفة تحاول اجتذاب العقول الشابة، فتنشطان بلا هوادة في نشر رسائلهما المسمومة. من جهة، نجد مؤيدي "داعش - خراسان" الذين يبثون دعوات للقتال والنضال الجهادي، ومن جهة أخرى، أتباع حركة "طالبان" الذين يواصلون استغلال المنصة نفسها لنشر خطابهم المتشدد. في هذا السياق، لا تقتصر رسائل هذه الجماعات على مقاطع فيديو تحث على العنف، بل تمتد إلى محاضرات وأفكار دموية تروج لمفاهيمهم التي تزدري الحياة المدنية وتنكر قيم الإنسانية.
وفي هذا المشهد المظلم، يظهر أتباع حركة طالبان كأحد الفاعلين الرئيسيين الذين حاولوا استغلال منصات مثل تيك توك لنشر أفكارهم الجهادية، من خلال بعض الحسابات ومنها تلك تنشر بشكل مستمر مقاطع فيديو تحث النساء على تبني أيديولوجية قتالية، داعية إياهن إلى تربية الأبناء على فكر العنف والقتل بدلًا من الانشغال بما هو يومي أو طبيعي.
إن هذه الدعوات ليست مجرد كلمات، بل هي بمثابة قنابل فكرية تهدف إلى تفجير الأدمغة وتحويلها إلى قوى محرضة على العنف، وتساهم في إعادة صياغة الواقع وفقًا لمفاهيم تتجاوز كل حدود الإنسانية.
أما "داعش - خراسان"، فلا يختلف في إستراتيجيته عن طالبان في استغلال "تيك توك" أداة فعّالة لنشر الدعاية الجهادية والتحريض على العنف. حيث تستخدم الحسابات الداعمة لهذا التنظيم المتطرف المنصة لبث خطاباته السامة، التي لا تقتصر على دعوات القتال العشوائي، بل تصل إلى تحريض مباشر ضد العديد من الطوائف التي يعتبرونها "أعداءً"، ففي هذا الفضاء المفتوح، تُنشر خطب تحث على الانضمام إلى التنظيم، وكأن الحرب على الأبرياء هي الطريق الوحيد للوصول إلى "النصر". وفي هذا الخضم، تُفتح الأبواب أمام دعوات تبتعد عن قيم الإنسانية، لتستبدلها بأيديولوجيات مدمرة تقود العقول إلى حافة الهاوية. كما لو أن كل كلمة تُنطق، وكل صورة تُعرض، تمثل شعلة صغيرة تضاف إلى بحر من نار، لعلها تلتهم ما تبقى من عقلٍ سليم.
هذه الخطابات، التي تظهر على "تيك توك" وتصل إلى ملايين المستخدمين، لا تُشعل نيران الكراهية فحسب، بل تحاول زراعة بذور العنف في عقول الشباب، ساعيةً إلى تجنيدهم في مشروع إرهابي لا يرحم. كل فيديو يتم نشره هو بمثابة قنبلة موقوتة تهدد بتفجير الأمل والسلام، محولةً الفكر الإنساني إلى ساحة حرب لا مكان فيها للتسامح أو التعايش.
وعلى الرغم من السياسات الصارمة التي تعتمدها تيك توك لمكافحة المحتوى المتطرف، إلا أن تعقيدات الشبكات الاجتماعية والخوارزميات المستخدمة تظهر حدودًا في قدرتها على منع نشر بعض المحتويات المتطرفة، خاصة في سياقات مثل أفغانستان.
وفي النهاية، يظل "تيك توك" أحد أبرز الأمثلة على استغلال التقنيات الحديثة في نشر التطرف والإرهاب، في وقت يصبح فيه الإنترنت ساحة مفتوحة لصراعات فكرية تتجاوز الحدود الجغرافية.
وقد تتعدد الحلول والآراء حول كيفية مواجهة هذه الظاهرة، ويرى مرصد الأزهر أن ما بات مؤكدًا اليوم هو أن الفضاء الرقمي أصبح ساحة جديدة للمعركة الفكرية بين الأيديولوجيات المتطرفة والمجتمعات التي تسعى للحفاظ على قيم التسامح والسلام. وعلى الرغم من الجهود المبذولة لمكافحة هذه الظاهرة، فإننا نعيش في عالم رقمي سريع التطور، ما يجعل من الضروري تعزيز التعاون بين الحكومات ومنصات التواصل الاجتماعي لضمان أمان المستخدمين وحمايتهم من تأثيرات الفكر المتطرف.
إن محاربة هذه الظاهرة لا تتطلب إجراءات رقابية صارمة فحسب، بل إنها تحتاج كذلك إلى إستراتيجيات فاعلة للتعليم والتوعية، تحصّن الشباب من الوقوع في فخ الأيديولوجيات المدمرة وتدعمهم بقيم التسامح والتعايش السلمي، في عالم يزداد فيه التعقيد الرقمي والتحديات الأمنية.
وحدة رصد اللغة الإسبانية