الجماعات المتطرفة

 

03 ديسمبر, 2024

الأسلحة البيضاء: وسيلة الإرهاب الصامتة في يد التنظيمات المتطرفة

     في ظلال الإرهاب الذي مُنيت به بعض الأقطار في عالمنا المعاصر، ذهبت التنظيمات المتطرفة في الظلم والتجبُّر مذاهب شتى، وتنافست في استخدام أشد وسائل العنف وحشية وفتكًا. ومن بين كل هذه الوسائل، تتربع الأسلحة البيضاء على عرش أدوات القتل الصامت؛ إذ لا دوي لها فيُسمع، ولا صدى يعقُب أثرها، بل هي تتسلل في الخفاء، تزهق الأرواح بلا إنذار، وتغرس أنيابَ الغدر في عتمة يخفت فيها صوت الضمير، وينحرف الفكر عن جادة القيم الدينية والإنسانية.

وتعمل التنظيمات المتطرفة على توظيف هذه الأدوات؛ لغرس الرعب والهلع في أوصال المجتمعات بطرق وحشية متقنة وبوسائل خفية، قد تبدو في ظاهرها بسيطة، لكنها عميقة الأثر، عصيَّة على النسيان.

ويرجع تفضيل التنظيمات المتطرفة للأسلحة البيضاء—حسبما أفادت صحيفة "آه بي ثه إنترناثيونال" الإسبانية، في 4 سبتمبر 2024م— إلى كونها أدوات تُلقي بظلال الرعب في قلوب الناس، وتُضفي على أفعالهم طابعًا قاسيًا وعنيفًا، فضلًا عن بساطتها وسهولة الحصول عليها؛ فهي حاضرة في كل بيت وسوق؛ مما يجعلها في متناول الجميع، دون أن تثير أدنى شبهة.

كما أنها لا تتطلب مهارة فائقة، بل يكفي إلمام يسير بطرق استخدامها؛ لتصبح أداة قادرة على إلحاق أذى بليغ بتكاليف بسيطة. وبذلك تغدو خيارًا مثاليًّا لتدريب الذئاب المنفردة على شنِّ هجمات فردية، تستهدف الأبرياء بيسرٍ، ودون الحاجة إلى تخطيط معقد.

ولا تنحصر مكامن خطورة هذه الأسلحة في سهولة الوصول إليها فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى سهولة إخفائها وصعوبة تعقبها؛ فبينما تتطلب الأسلحة النارية تراخيصَ وعمليات تهريب معقدة، تتسلل السكاكين وما شابهها بين الناس بلا خوف.

وبذلك؛ يُتاح للإرهابيين التحرك بحرية؛ مما يمنحهم عنصر المباغتة، ويُعزِّز فرص تنفيذ هجماتهم الآثمة بين الجموع، دون أن تلتفت إليهم الأنظار، أو ترصدهم أعين السلطات الأمنية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الأسلحة تترك أثرًا نفسيًّا بعيدَ المدى، يفوق وقع الرصاص، ويترك جُرحًا غائرًا في النسيج المجتمعي. فالطعن والذبح يخلقان مواجهةً قاسيةً ومباشرةً مع الموت، ويتركان بصمات أليمة في الذاكرة الجمعية؛ إذ تخلق هذه الهجمات حالة من الهلع والذعر في قلوب الناس، وتشعرهم بأنهم تحت تهديد يحيط بهم من كل حدب وصوب.

كما تستغل التنظيمات الإرهابية، مثل: "داعش" و"بوكو حرام" السلاح الأبيض؛ ليصبح رمزًا فكريًّا ودعائيًّا، تُمرِّر من خلاله رسائلها الهدامة؛ إذ يَعدُّون العنف الدموي دليلًا على الصرامة والجدِّية؛ وهو ما يعزز مكانتهم في أعين أنصارهم، ويستقطب مزيدًا من الأتباع الجدد الذين تنطلي عليهم هذه الأفكار المغلوطة؛ فينجذبون إلى مشاهد العنف المباشر، التي تُغريهم بالانخراط في مسار يبدو لهم ملاذًا؛ لتحقيق القوة والتمكين.

ومن بين الهجمات التي طُبعت في ذاكرة العالم بالدماء مؤخرًا، يبرز هجوم جسر لندن في يونيو 2017م، كنموذج صارخ للظلم والوحشية. ففي تلك الليلة، تحولت شوارع الجسر إلى ساحة رعب؛ حيث بدأ الإرهابيون هجومهم بشاحنة صغيرة دهسوا بها المارة؛ ليعقبوا ذلك بهجوم مباشر باستخدام الأسلحة البيضاء. لم يكن هذا الهجوم مجرد مذبحة جماعية، بل كان رسالة صريحة من التنظيمات المتطرفة؛ لإظهار قدرتها على نشر الفوضى، وسفك الدماء البريئة بأسلحة حادة، تضاعف من معاناة الضحايا.

كما شهدت مدينة نيس الفرنسية في 29 أكتوبر 2020م حادثًا أليمًا هزَّ المجتمع؛ حين اقتحم إرهابي كاتدرائية "نوتردام" مُستخدمًا سكينًا؛ ليحول الكنيسة إلى مسرح لجريمة مروعة. وقد أسفر الهجوم الوحشي عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة آخرين. وتُعدُّ هذه الجريمة مثالًا صارخًا على توظيف الأسلحة البيضاء؛ لتحقيق أهداف إرهابية، وبث الرعب في نفوس الشعوب والمجتمعات.

وفي ساحات الموصل والرقة المظلمة -حيث فرض تنظيم "داعش" الإرهابي سيطرته- كانت السكاكين والخناجر أدوات قتل تُستخدم على مرأى ومسمع الجميع. ولم تكن عمليات الذبح والطعن العلنية التي نفذها التنظيم مجرد جرائم، بل رسائل مرعبة سعى التنظيم من خلالها إلى إحكام قبضته على المواطنين، وسَلْب الحقوق والحريات العامة، وإشاعة الرعب في نفوس خصومه، متخذًا من الوحشية وسيلة دعائية تستعرض حجم سطوته.

أما في قلب إفريقيا، فقد زرعت جماعة "بوكو حرام" رعبًا لا يقل قسوة؛ حيث عمدت إلى استخدام الشفرات البيضاء في هجماتها التي استهدفت القرى المسيحية. ولم تكن هذه الاعتداءات التي أسفرت عن ذبح مئات المدنيين مجرد أعمال عنف عشوائية، بل جزءًا من تكتيك مدروس؛ لإخضاع شعوب هذه المناطق عبر زرع الرعب في أعماقها.

وجدير بالذكر، أن الأعمال الإرهابية التي يرتكبها هؤلاء لا تنبع فقط من نوازع العنف أو الرغبة في الفوضى، بل كثيرًا ما تكون مدفوعة بدوافع نفسية عميقة، تتأرجح بين التعصب العرقي الأعمى، وسوء الفهم الجسيم للتراث الديني.

وبناء على ذلك؛ يرى مرصد الأزهر لمكافحة التطرف أن المواجهة يجب أن تكون مسئولية عالمية على كل الدول؛ فعلى العالم التكاتف والوقوف جنبًا إلى جنب، ووضع خطة محكمة وشاملة، تمتد إلى جميع المستويات الفكرية، والثقافية، والاجتماعية، والأمنية.

ويشدد المرصد على ضرورة الوقوف على سبل التطرف، ومجابهة هذا الفكر الهدام بوسائل ناجعة؛ نظرًا لما يشكله من تهديد جسيم على المجتمعات، وما ينجم عنه من عواقب وخيمة، مثل: الإرهاب الدموي الذي نكابد تأثيراته الآن.

ومن هنا؛ يؤكد المرصد أيضًا على أهمية توعية وحماية النشء والشباب، والاقتراب منهم قدر الإمكان؛ لتفادي وقوعهم فريسة لأفكار التطرف الوحشية التي تتنافى مع الأديان والقيم الإنسانية.

وحدة الرصد باللغة الإسبانية