في إطار متابعة مرصد الأزهر لمكافحة التطرف لأفكار التنظيمات المتطرفة، وما تصدره من مقالات وأخبار، رصدت وحدة اللغة الإسبانية المقال الذي نشرته صحيفة النبأ الداعشية، في عددها (474)، والذي وجد فيها اعوجاجًا فكريًّا لن يؤدي إلا إلى مزيد من الدماء، والتصعيد في المنطقة. فالنص يضع ثنائية "الجاهلية" و"الدجل"؛ لتفسير المعتقدات والسلوكيات، محورًا رئيسًا له، لكنه لا يعرف هذه المفاهيم بدقة، ولا يقدم أدلة على أنها تفسر واقع معقد كهذا؛ فتحليل السلوكيات السياسية والاجتماعية يتطلب مقاربة أعمق تراعي تعقيدات السياقات السياسية والاقتصادية والثقافية.
وأما وصف الحقبة المعاصرة بأنها "جاهلية"، فهذا يمثل عمى سافرًا للتطور الكبير في الفكر الإنساني، والجهود المبذولة عالميًّا؛ لتحقيق العدالة، وحقوق الإنسان. وهذا التوصيف يبسط الواقع، ويغفل عن النجاحات التي أحرزتها المجتمعات المختلفة.
وبالنسبة لسلبيات الإعلام في جميع أنحاء العالم، فعلى الرغم من وجود انتقادات مشروعة لوسائل الإعلام، فإن من الخطأ إنكار دورها في فضح انتهاكات حقوق الإنسان عالميًّا، فالإعلام ليس كتلة واحدة متجانسة، فهناك قنوات وصحفيون يخاطرون بحياتهم لنقل الحقيقة.
فمن الصحيح أن هناك انتقائية في التغطية الإعلامية، لكنها ليست دائمًا نتيجة "دجل" متعمد، بل تعود أحيانًا إلى عوامل مثل الأولويات التحريرية، ولا يجب أن نغفل أبدًا باب الأولويات، وقاعدة أخف الضررين، مما يعني أن الحل ليس اتهام الإعلام بالجملة، بل تحسين أدوات المساءلة والشفافية في المؤسسات الإعلامية. أما فكرة التعميم المتعمدة والمؤكَّد عليها، فهذا خطأ منهجي فادح؛ إذ إن النص يوسع دائرة الاتهام دون تقديم أدلة ملموسة على صحة هذا التعميم، ولهذا فإن التعميم المبني على أسس غير علمية يؤدي إلى فقدان المصداقية، ويمنع أي حوار بنّاء حول المشكلات الحقيقية.
كما تجدر الإشارة إلى أن النص يربط الثورة بقيم مطلقة، ويصورها وكأنها خالية من الأخطاء. في الواقع، أي ثورة تواجه تحديات داخلية وخارجية، بما في ذلك أخطاء القيادة والانقسامات الداخلية؛ فالحكم على الثورات يحتاج إلى قراءة شاملة تأخذ في الاعتبار تعقيدات الواقع.
كما أن وصف الإعلاميين الذين غيروا موقفهم بـ"المنافقين" ينطوي على تبسيط مفرط؛ فالتغيير في المواقف يمكن أن يكون نتيجة لإعادة تقييم الأوضاع، أو تغيير الفكر بناء على نضج التجربة، واختلاف المعطيات التي ينبني عليها الحكم، كما هو الحال في الفتاوى؛ إذ إنها تتغير من شخص لآخر، حسب المعطيات، أما الحكم فهو ثابت. إذًا فالحكم على الإعلاميين يجب أن يستند إلى أدلة، وليس إلى افتراضات.
ومن المهم جدًّا الإشارة إلى الانتقائية في الاستشهاد بالنصوص الشرعية؛ فالنص يعتمد على آيات قرآنية لتسويغ أحكام صارمة، لكنه يغفل السياق الأوسع للنصوص الشرعية التي تدعو إلى العدل والرحمة، ومثل هذه الاستشهادات المجتزأة قد تؤدي إلى فهم مشوه للشريعة الإسلامية.
فالمقال يستشهد بقول الله تعالى: "إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" (الممتحنة: 9).
أولًا هذه الآية نزلت بخصوص مشركي قريش الذين فتنوا المسلمين في دينهم، ثم ما وجه الاستشهاد بالآية؟! الحقيقة أن الاستشهاد بالآية يبين عقيدة هذه التنظيمات الإرهابية وهي تكفير المسلمين، فهم لا يؤمنون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم" (صحيح البخاري)، مما يعني أنه لا يجوز تكفيره -إلا إذا ظهر منه كفر بواح، أو اعترف بذلك- فضلًا عن قتله. وأما ذلك الفكر المعوج فهو يصدر دونما شفقة حكمًا يسيل على شفراته كثير من الدماء بقتل كل من خالفوه، إذ حكم بكفرهم جميعًا، حتى لو كانوا يؤمنون بالله ورسوله، دون محاكمات عادلة، ودون تحرٍّ للحقيقة، فهم جميعًا في قفص اتهام واحد، يُحاكمون بتهمة واحدة وهي الكفر والقتل، وهذا من باب التعميم الجائر الذي تحدثنا عنه فيما سبق، فهل يقول بهذا عاقل؟ وهل فعل هذا معاوية رضي الله عنه بعدما آلت إليه الخلافة مع مناصري الإمام علي رضي الله عنه وكرم وجهه؟! فهذا الرفض للآخر يتناقض مع مبادئ العدالة في الإسلام التي تدعو إلى التمييز بين الأفراد بناءً على أفعالهم، وليس بناءً على انتماءاتهم فقط؛ فالإسلام يحث على المحاكمة العادلة، وليس على إصدار الأحكام المسبقة.
ومما لا شك فيه كذلك أن النص يستغل مآسي السجون والضحايا؛ لتعزيز موقفه الأيديولوجي، متجاهلًا أن هذه المآسي تتطلب حلولًا عملية وشاملة، وليس استغلالها لزيادة الاستقطاب. فبدلًا من التركيز على الهجوم على الإعلام والنظام العالمي، يجب تقديم حلول عملية لتحسين أوضاع السجون، وضمان محاكمات عادلة للمتهمين.
وختامًا، لا يخفى على أحد أن الأفكار المتطرفة التي لا تمت بصلة إلى الإسلام الحنيف، تسعى جاهدة لتشويه صورته النقية بين الأمم والشعوب. فبدلاً من أن يروا في الإسلام دينًا يدعو إلى السلام والرحمة والبناء، تصور هذه التنظيمات الإسلامَ وأتباعه على أنهم لا يهدفون إلا إلى العنف والدمار، وهو اتهام باطل لا يمت إلى حقيقة الإسلام بصلة.
إن هذه الأفكار الدموية التي تروج لها تنظيمات ضالة كـ"داعش" ليست سوى محاولة يائسة لتشويه سمعة الدين الإسلامي وإثارة الفتن بين الناس؛ فالإسلام - كما نعلم جميعًا- يدعو إلى بناء الحضارات، وإعلاء شأن العلم والأخلاق، ولا يدعوا إلى التخريب، والدمار، والقتل.
إن واجبنا جميعًا، مسلمين وغير مسلمين، هو التصدي لهذه الأفكار المتطرفة بالعلم والمعرفة، ونشر الوعي بأصول الدين الإسلامي السمحة؛ فبذلك نسهم في تصحيح المفاهيم الخاطئة.
كما أن هذه الاتهامات الرعناء تقدح في وعي الجمهور؛ إذ إنه ليس سلبيًّا كما يُصوَّر، بل له دور فعال في تشكيل الرأي العام، كما أنه يعلم حقيقة أن مثل هذه الاتهامات غالبًا ما تكون مدفوعة بأجندات سياسية. فعلينا أن نتحلى بالوعي النقدي، وأن نبحث عن الحقيقة من مصادر موثوقة، وأن نرفض التعميمات التي تسعى لتقسيمنا وتشتيتنا.
الرد على مثل هذه الادعاءات المغلوطة يتطلب توضيحًا شاملًا لتناقضات الفكر المتطرف ومآلاته الكارثية على المجتمعات.
إن الأفكار التي تروج لها التنظيمات المتطرفة كـ”داعش” لا تمت بصلة إلى جوهر الإسلام وتعاليمه السمحة، وإنما تهدف إلى استغلال النصوص الدينية خارج سياقها لتمرير أجنداتها الدموية والإقصائية.
الإسلام دين يدعو إلى العدل والرحمة والسلام، ويرفض التطرف والغلو بجميع أشكاله. إن تصوير الحقبة المعاصرة بأنها “جاهلية” ينم عن جهل بالتقدم الذي أحرزته البشرية في مختلف المجالات، ويدل على رفض متعمد للاعتراف بجهود الإنسانية في تحقيق العدالة وحقوق الإنسان. هذا التصوير الأحادي يتجاهل تعقيد الواقع ويهدف إلى نشر الفوضى والانقسام.
علاوة على ذلك، فإن تكفير المسلمين وتعميم الأحكام دون أدلة شرعية يعد خروجًا واضحًا عن المنهج الإسلامي الصحيح. الإسلام يرفض التكفير إلا في حالات محددة وثابتة شرعًا، ويدعو إلى التحري والعدل في الأحكام، بعيدًا عن التعصب أو الانتقام.
كما أن انتقاد الإعلام بالجملة واتهامه بـ”الدجل” دون دليل يعكس فكرًا انغلاقيًّا يسعى إلى التشكيك في كل ما يخالف روايته. صحيح أن الإعلام ليس معصومًا من الأخطاء، لكن دوره في كشف انتهاكات حقوق الإنسان ونقل الحقائق لا يمكن إنكاره، وهو بحاجة إلى تحسين وتطوير، لا إلى هجوم متعمد.
ختامًا، الواجب على جميع المجتمعات التصدي لهذه الأفكار المتطرفة من خلال نشر العلم والمعرفة، وتوعية الأفراد بحقيقة الإسلام وقيمه السمحة التي تدعو إلى البناء لا الهدم، وإلى السلام لا الحرب. يجب أن نتكاتف جميعًا لدحض هذه الأفكار الهدامة وفضح حقيقتها أمام العالم، ليظل الإسلام دين الرحمة والعدل كما أنزله الله.
وحدة رصد باللغة الإسبانية