الجماعات المتطرفة

 

21 يناير, 2025

ما يعول عليه تنظيم داعش مستقبلًا

(4) الذئاب المنفردة

     استطاع تنظيم داعش الإرهابي نقل معركته من الشرق إلى الغرب عن طريق "الذئاب المنفردة" التي كفلت له القدرة على تنفيذ عمليات لا تتطلب قدرات تنظيمية وفي الوقت ذاته تسبب خوفًا ورعبًا، وهو ما اختلف عن تنظيم "القاعدة" الذي نقل معركته إلى الغرب عن طريق إرسال مقاتلين لتنفيذ عمليات هناك كما حدث في 11 سبتمبر، أو عن طريق استدعاء الغرب إلى المنطقة عن طريق استهداف مصالحه فيها، وفقًا للإستراتيجية التي وضعها "أسامة بن لادن".
في هذا المقال نسلط الضوء على ظاهرة "الذئاب المنفردة" وكيف يعوّل عليها داعش مستقبلًا،وذلك على النحو الآتي:

ما الذئاب المنفردة؟
الذئاب المنفردة هم أفراد تأثروا بأفكار التنظيمات الإرهابية التي عرفوها عبر الوسائط الحديثة، واتخذوا قرارًا بارتكاب هجمات إرهابية بشكل مستقل، دون تلقى أوامر مباشرة من تنظيم معين.

وتتمثل خطورة هؤلاء في صعوبة اكتشافهم وتتبعهم، كما أنهم قد يكونون أكثر تطرفًا من العناصر المرتبطة مباشرة بالتنظيمات الإرهابية.
وفي دراسة بعنوان "الذئاب المنفردة الملاذ الأخير لداعش" يعرف الباحث "محمود البازي"الذئاب المنفردة بأنها أشخاص تنفذ هجمات بصفة منفردة دون أن تربطها علاقة تنظيمية واضحة بأي تنظيمٍ مُشيرًا إلى أن هذه التسمية تصدق على أي شخصٍ يمكن أن يشنّ هجومًا مسلحًا بدوافع عقائدية.

ويضيف "البازي" أن "الذئاب المنفردة" إستراتيجية تعتمد عليها التنظيمات الإرهابية، وخصوصًا داعش، إذ يقوم الشخص بالتخطيط والتنفيذ بإمكانيات فردية دون أي ارتباطٍ تنظيمي.

وأغلب الأشخاص المنفذين لعمليات كهذه هم شخصيات عادية لا تثير أي شك في سلوكها وحركتها اليومية.
ويعكس اختيار كلمة "ذئاب" لوصف هذه الفئة السماتَ التي يُعتقد أنهم يتصفون بها، فكلمة "ذئب" تحمل في طياتها مجموعة من الدلالات التي تتوافق مع الصورة النمطية التي رُسمت عن هؤلاء الأفراد، من أبرزها:
القدرة على العمل بشكل منفرد

إذ تشتهر الذئاب بكونها حيوانات انطوائية تفضل العيش والعمل بمفردها، وهو ما يتماشى مع الصورة النمطية التي رسمت عن "الذئاب المنفردة" في سياق الإرهاب، إذ يُعتقد أن هؤلاء الأفراد يعملون بشكل مستقل دون تنسيق مع أي تنظيم إرهابي.
القدرة على التكيف والمرونة: إذ تتميز الذئاب بالقدرة على التكيف مع بيئات مختلفة ومواجهة التحديات، وهو ما يُصعّب تتبعها والتنبؤ بأفعالها.

وبالمثل، يعتقد أن "الذئاب المنفردة" تتميز بقدرة على التكيف والتغيير، مما يجعل من الصعب التنبؤ بأفعالها أو إحباط مخططاتها.
العنف المفاجئ والغدر: ترتبط الذئاب بصورة عامة بالعنف والغدر، وتشن هجمات مفاجئة على فريستها. وبالمثل، يرتبط مفهوم "الذئب المنفرد" بأعمال عنف غير متوقعة، إذ يقوم الفرد بهجوم إرهابي دون سابق إنذار أو تخطيط مسبق، مستخدمًا سيارة في عملية دهس أو سكين مطبخ في عملية طعن.  
الجذور التنظيرية للذئاب المنفردة عند تنظيم داعش
وردت في كتاب: "دعوة المقاومة الإسلامية العالمية" لـ"أبو مصعب السوري" فكرة "اللا مركزية في التنظيم" التي تحول أي تنظيم إلى فكرة عابرة للحدود يعتنقها ويمارس مقتضياتها من يقتنع بها ويعلن ولاءه للتنظيم.

ومن ثمّ فإن عضوية الشخص في التنظيم لا تحتاج إلى انضمامٍ تنظيمي بل يكفي الاقتناع بالفكرة والتعامل بموجبها. ولخص"السوري" فكرة "اللا مركزية" بقوله: "إن كل مسلم يجب أن يمثل جيشًا من رجل واحد".
وفي عام 2014 حرّض "أبو محمد العدناني"الناطق باسم تنظيم داعش آنذاك، في تسجيل صوتي له، المتعاطفين مع التنظيم على قتل رعايا الدول الغربية في أي مكان وبأية وسيلة. وكان "العدناني" معروفًا بأنه الأب الروحي للذئاب المنفردة، وقد تحدث في خطاب آخر عن فكرة "اللا مركزية" وأكد أن أي شخص في العالم سينفذ عملية سيعلن التنظيم مسئوليته عنها مهما بلغ صغرها شريطة أن يُعلن هذا المنفذ انتماءه لداعش. كما تحدث "العدناني" في يوليو 2016 عن شن حرب تُسمى "الذئاب المنفردة"، وحثّ المتعاطفين مع تنظيمه على تنفيذ مزيد من الهجمات على المصالح الغربية في كل مكان قائلًا: "لا عصمة للدماء ولا وجود للأبرياء ......... وإن لم تجدوا سلاحًا فادهسوهم بسياراتكم".
وفي إصدار بعنوان: " الأمن والسلامة" دعا داعش الذئاب المنفردة إلى الحذر واتخاذ الاحتياطات كافة كي لا يُكتشف أمرهم. ومما جاء في هذا الإصدار: "احلقوا لحاكم وارتدوا الملابس الغربية، واستخدموا العطور العامة والعادية التي تحتوي على الكحول وشفروا هواتفكم... إن أي ذئب منفرد يجب أن يحاول الانصهار والاندماج في المجتمع المحلي، بحيث لا يبدو مثل المسلمين، وهذا يعني أن يحلقوا لحاهم ويرتدوا ملابس غربية وعدم الصلاة في المساجد بشكل منتظم".

دور داعش في صناعة الذئاب المنفردة
استغل تنظيم داعش التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل فعال في تجنيد الأفراد وتدريبهم على تنفيذ هجمات إرهابية منفردة. وتمكن التنظيم من تحويل بعض المتطرفين إلى أدوات لتنفيذ أجندته الإرهابية، وذلك من خلال:
التدريب عن بعد: قدم التنظيم تدريبات افتراضية للأفراد عبر الإنترنت باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي وبعض التطبيقات المشفرة.
التحفيز والإلهام: استخدم داعش لغة متطرفة لتحفيز الأفراد على تنفيذ هجمات انتحارية، ووعدهم بالجنة.
تبني الهجمات: بعد تنفيذ الهجوم، يتبناه التنظيم ويشيد بمنفذه، مما يزيد من شعبيته ويجذب مزيدًا من المتطرفين. ويعد هذا التبني بمثابة مكافأة للمنفذ، ويشجع الآخرين على اتباع النهج نفسه.

تعويل داعش على الذئاب المنفردة
في ظلّ تراجع نفوذ داعش وتشتت خلاياه اعتمد التنظيم بشكل متزايد على ذئابه المنفردة لتنفيذ هجماته الإرهابية. ففي هذه المرحلة، بات من الصعب على قادة التنظيم التواصل مع أنصارهم وتوجيههم بشكل مباشر، مما دفع بالمتطرفين إلى اتخاذ القرارات بشكل مستقل، ابتداءً من اختيار الهدف وتحديد التوقيت المناسب وانتهاء بالتنفيذ. ومن ثمّ يتفاجأ التنظيم أحيانًا بهجمات إرهابية نفذها شخص أعلن انتسابه إليه عن طريق مواقع التواصل، أو تسجيل مقاطع بيعة لخليفة التنظيم المزعوم. وقد يختلف قادة التنظيم أنفسهم حول دوافع هذه الهجمات وأهدافها. هذا التباين في الرؤى ظهر جليًّا في أحداث "سريلانكا" في عام 2019، إذ أعلنت بعض الأذرع الإعلامية للتنظيم أن الهجمات كانت ردًّا على هجمات "نيوزيلندا"، بينما ذكر "البغدادي"أنها كانت ردًّا على أحداث "الباغوز". ويعكس هذا التناقض إستراتيجية اللا مركزية سالفة الذكر.
ومع تزايد الإجراءات الأمنية في بعض الدول التي منعت مواطنيها من الذهاب إلى مناطق الصراع دعا داعش من يريدون الانضمام إليه إلى تنفيذ عمليات فردية في بلدانهم. وقد شهدنا العديد من الأمثلة على ذلك، مثل هجمات "سان برناردينو"و"أورلاندو" و"فيينا"، حيث أعلن منفذو الهجمات ولاءهم لداعش قبل أو بعد تنفيذها، وتبنى التنظيم هذه الهجمات على الفور، رغم عدم وجود رابط تنظيمي مباشر بينه وبين المنفذين.
كما استغل التنظيم أحداث غزة في تحريض الشباب على العنف، وقدم لهم توجيهات عملية وشجعهم على تنفيذ هجمات فردية في الغرب مؤكدًا أن هذه الهجمات هي بمثابة الثأر للفلسطينيين.

تحديات قوانين مكافحة الإرهاب في مواجهة "الذئاب المنفردة":
تواجه الدول الغربية تحديات قانونية وتشريعية في مواجهة ظاهرة "الذئاب المنفردة"، إذ توجد ثغرات جوهرية في قوانين هذه الدول يستغلها المتطرفون في مواصلة أنشطتهم الإرهابية. من أبرز هذه التحديات:

سهولة تأسيس الشركات الوهمية: تسمح القوانين في الاتحاد الأوروبي وأمريكا بتأسيس شركات "الأوفشور" بسهولة، مما يتيح للمتطرفين توفير التمويل لأنشطتهم والإفلات من الرقابة المالية. فالشركات الوهمية توفر ستارًا لتحويل الأموال بطرق غير مشروعة، ودعم الجماعات المتطرفة.

صعوبة تتبع التحويلات المالية: تزداد صعوبة تتبع التحويلات المالية عبر الحدود، خاصة مع تطور التكنولوجيا وظهور العملات المشفرة، مما يتيح للمتطرفين نقل الأموال بحرية.

الثغرات في قوانين مكافحة غسل الأموال: رغم وجود قوانين لمكافحة غسل الأموال، إلا أن بها ثغرات تسمح للمتطرفين باستغلالها. وقد لا تخضع بعض التحويلات المالية الصغيرة للرقابة الكافية، مما يتيح للمتطرفين تجميع الأموال تدريجيًّا دون لفت الانتباه.

 

وختامًا، تُمثل ظاهرة "الذئاب المنفردة إستراتيجية فعالة للتنظيمات الإرهابية لا سيما في الأماكن التي لا تستطيع الوصول إليها نظرًا لتماسكها الأمني والمجتمعي.
ولتقليص خطر الهجمات الإرهابية التي تنفذها "الذئاب المنفردة" تتخذ بعض الدول اجراءات أمنية مشددة لا سيما في المناسبات والاحتفالات مثلما يحدث في أوروبا في أثناء الاحتفالات بأعياد الميلاد. ولكن ينبغي عدم النظر إلى هذه المشكلة من حيث بعدها الأمني فحسب، بل ينبغي تجفيف مشكلة الإرهاب والتطرف من جذورها، وحل المشكلات التي يستغلها المتطرفون وعلى رأسها ظاهرة "الإسلاموفوبيا" والتخويف من الإسلام، والتعامل معها باعتبارها تطرفًا وإرهابًا.

فهذه الظاهرة يستغلها المتطرفون في الشرق ويحرضون على عمليات إرهابية في الغرب. كما يستغلها المتطرفون في الغرب ويحرضون على المسلمين، في مشهدٍ يجسد التعاون غير المباشر بين المتطرفين شرقًا وغربًا، وصدق فضيلة الإمام الأكبر حين قال عن المتطرفين من جميع العرقيات والديانات: "فروع لشجرة واحدة رويت بماء العنف والإرهاب".

(وحدة الرصد باللغة التركية)