الجماعات المتطرفة

 

16 فبراير, 2025

ردا على مقال.. "كن مقاتلًا متسلسلًا" الصادر عن جريدة النبأ الداعشية

     يتناول هذا المقال بالنقد والتحليل الافتتاحية الصادرة بجريدة النبأ الداعشية في عددها الأخير، والتي تروج لفكرة: "الذئاب المنفردة"، وتوظف النصوص الشرعية خارج سياقها. وانطلاقًا من الدور الذي يضطلع به مرصد الأزهر لمكافحة التطرف في تفنيد الفكر المتطرف، نعرض في هذا المقال المغالطات الفكرية التي يعتمد عليها الخطاب الداعشي، ومنها: الخلط بين اليهودية والصهيونية، والتحريف المتعمد لمعاني آيات القتال، والهجوم على المقاومة الفلسطينية، فضلًا عن الترويج للعنف الفردي الذي يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وغير ذلك من الانحرافات الفكرية والشرعية الخطيرة التي تسيء إلى تعاليم الدين الإسلامي وقيمه.

لقد شهد العالم الإسلامي في العقود الأخيرة ظهور تيارات متطرفة تنسب نفسها إلى الإسلام، من بينها تنظيم داعش، الذي يسعى لتسويغ أعماله العنيفة من خلال توظيف نصوص دينية خارج سياقها. ومن بين الأدبيات الداعشية، نجد مقالًا يروج لفكرة: "الذئاب المنفردة" بوصفها إستراتيجية "جهادية"، في حين أنه في الحقيقة يدعو إلى القتل العشوائي، ويضرب بالمفاهيم الإسلامية الصحيحة عرض الحائط؛ لذلك يستعرض هذا المقال الجوانب الأساسية لهذا الخطاب المتطرف، ويفند ادعاءاته من خلال مقاربة علمية تستند إلى المصادر الشرعية.

أولًا: الخلط بين اليهودية والصهيونية

يبدأ المقال بتحريض واضح ضد اليهود دون تمييز بين اليهودية بوصفها دينًا والصهيونية بوصفها حركة سياسية. وهذه مغالطة خطيرة؛ إذ إن الإسلام لا يعادي أصحاب الديانات السماوية، بل يعترف بوجودهم وحقوقهم. فقد أبرم النبي محمد ﷺ وثيقة المدينة مع اليهود، وأقام علاقات سلمية مع من لم يعادِ المسلمين. فقد أبرم النبي محمد ﷺ عقب هجرته إلى المدينة: "وثيقة المدينة"، التي تُعد أول دستور مكتوب في الإسلام، وقد نظمت العلاقة بين المسلمين واليهود وغيرهم من أهل المدينة. وتضمنت الوثيقة بنودًا تضمن حقوق الجميع في العيش بسلام، وأقرت مبدأ المواطنة المشتركة، وأكدت على التعاون في الدفاع عن المدينة ضد أي عدوان خارجي. كما نصّت على أن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مع احترام متبادل بين الطرفين. وهذه الوثيقة تعد دليلًا دامغًا يدحض ادعاءات الفكر الداعشي الذي يسعى إلى تسويغ العنف ضد كل من يخالفهم، وتؤكد أن الإسلام أسَّس للتعايش السلمي واحترام العقود والمواثيق.

أما العداء المشروع في الإسلام، فهو موجه إلى الاحتلال الصهيوني، وليس إلى كل يهودي لمجرد انتمائه الديني. فالصهيونية حركة سياسية استعمارية نشأت في القرن التاسع عشر، وهدفها إقامة دولة يهودية في فلسطين، بغض النظر عن سكانها الأصليين. إذًا ليس كل يهودي صهيونيًّا، فهناك يهود يعارضون الصهيونية، وينطلقون كذلك من منطلقات دينية وسياسية. فاليهود الذين لا يقاتلون المسلمين ولم يخرجوا الفلسطينيين من ديارهم يجب علينا أن نحترمهم ونعاملهم بالقسط، كما قال الله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: 8).

ثانيًا: تحريف الآيات القرآنية عن سياقها

يعتمد المقال كذلك على استشهادات قرآنية خارج سياقها مثل قوله تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ (البقرة: 191)، لتسويغ القتل وتعميم الفكرة، لكن هذه الآية جاءت في سياق القتال الدفاعي ضد الذين اعتدوا على المسلمين، وليست دعوة مفتوحة للقتل العشوائي. ومعلوم في علم التفسير أن النصوص الشرعية يجب أن تُفهم في سياقاتها، وإلا أدى ذلك إلى الفهم الخاطئ للنصوص، كما يفعل المتطرفون.

ودليل ذلك، أن الله عز وجل يقول في الآية السابقة على هذه: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾  (البقرة: 190). والله عز وجل في سياق الحديث عن القتال يأمر بأخذ الحق فقط وعدم الاعتداء. ثم إن هذا القتال يكون ضد الجيوش المقاتلة وليس الأبرياء من المواطنين العزَّل. والجهاد في الإسلام له ضوابط واضحة، منها أنه يكون تحت راية شرعية (ولي أمر مسلم أو إمام)، ولا يجوز أن يتحول إلى عمل فردي قائم على رؤية شخصية أو خلفية انتقامية؛ فالنبي ﷺ لم يُجِز لأحد أن يقتل دون إذن منه، بل حذر من قتل غير المقاتلين، حتى في الحرب؛ فاستهداف المدنيين محرم بالإجماع، وهو يخالف وصايا النبي ﷺ في الجهاد، حيث نهى عن قتل النساء والأطفال والرهبان والذين لا يشاركون في القتال: "لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلًا صغيرًا، ولا امرأة" (رواه أبو داود).

وعلى هذا الفهم سار الصحابة رضوان الله عليهم، فها هو أبو بكر الصديق يوصي الجنود: "يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنى: لا تخونوا، ولا تغلّوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلةٍ، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له".

ثالثًا: إدانة المقاومة الفلسطينية وتشويه مفهوم الجهاد

يهاجم المقال المقاومة الفلسطينية ويدعي أن مَن يقاتل من أجل وطنه لا يعد مجاهدًا، بينما هذا يتناقض مع المفهوم الشرعي للجهاد، الذي يشمل الدفاع عن النفس والأرض والعرض. وقد قال النبي (ﷺ): "من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" (رواه أبو داود والترمذي). ومن نافلة القول: إن الوطن يحتوي كل هذه الضروريات: المال، والأهل، والدين، والعرض. إذًا، فمن أوجب الواجبات الذود عنه والدفاع عن حياضه، وبذل كل غال ونفيس فيه. وإذا لم يكن الشهيد هو من يقاتل دون وطنه، فمن الشهيد؟ وإذا لم يكن هذا هو البطل، فمن البطل؟ وإذا لم تُجعل الجنة لمثل هؤلاء فلمن جُعلت إذًا؟! إن المقاومة الفلسطينية ليست إرهابًا، بل هي دفاع مشروع عن الأرض والعرض في مواجهة احتلال استيطاني غاشم.

وقد أجمعت الشرائع السماوية والقوانين الدولية على حق الشعوب في مقاومة الاحتلال. فكيف يساوي المقال بين مقاومة الاحتلال وجرائم العنف العشوائي؟ إن هذه الدعاية المغرضة تهدف إلى تجريد الفلسطينيين من حقهم المشروع في الدفاع عن وطنهم، وتقديمهم في صورة إرهابيين، بينما الواقع يؤكد أنهم أصحاب قضية عادلة، يقاتلون من أجل الحرية والاستقلال. وهو أسمى ما تقتضيه الشريعة وتأمر به.

رابعًا: التحريض على القتل العشوائي وتبني إستراتيجية الذئاب المنفردة

أخطر ما في المقال هو تحريضه الصريح على عمليات القتل الفردي، من خلال الترويج لفكرة "الذئاب المنفردة"، كما يقدم إرشادات عملية حول كيفية تفادي إلقاء القبض على المنفذين. هذا الفكر الإرهابي لا يمت للجهاد بصلة، بل هو ضرب من الإفساد في الأرض، وقد قال الله تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة: 32). كما أن قتل المدنيين الأبرياء، ولو كانوا من غير المسلمين، مخالف للشريعة الإسلامية، كما ذكرنا آنفًا. بل إن من يقتل نفسًا بغير حق من خلال إقامة رَصَدٍ له أو فخٍّ، أو يروِّع آمنًا، إنما يقام عليه حد الحرابة في الإسلام، والله عز وجل عندما تحدث عن هذا الأمر لم يفرق بين مسلم وغير مسلم، بل عدَّ هذا من الفساد في الأرض على وجه العموم: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (المائدة: 33).

خامسًا: النتائج الكارثية لهذا الفكر على الأمة الإسلامية

لم تؤد العمليات الإرهابية التي يروج لها داعش إلا إلى تشويه صورة الإسلام، وزيادة معاناة المسلمين في الغرب والشرق، ومنح الذرائع للأعداء لممارسة القمع ضد المجتمعات الإسلامية. كما أن هذه الأفعال تعزز الانقسامات الداخلية بين المسلمين أنفسهم، وتوجه البوصلة بعيدًا عن القضية الفلسطينية التي تعد من القضايا المركزية للمسلمين. فبدلًا من مقاومة الاحتلال بأساليب مشروعة، ينشغل أصحاب هذا الفكر بإثارة الفوضى والفتن.

ويؤكد مرصد الأزهر لمكافحة التطرف أن الخطاب الداعشي لا يعبر عن روح الإسلام، بل هو تشويه متعمد للمفاهيم الشرعية بهدف تسويغ أعمال العنف العشوائي. ومن خلال تحليل الفكر الداعشي، يتبين أن حججه قائمة على تحريف النصوص، والهجوم على المقاومة الشرعية، والتحريض على القتل باسم الدين، وهو ما يتنافى مع تعاليم الإسلام الصحيحة. فلا بد من التصدي لهذا الفكر المتطرف عبر نشر الفهم الصحيح للنصوص الشرعية، ودعم المقاومة المشروعة ضد الاحتلال، والعمل على تحصين الشباب من الوقوع في براثن التطرف. وفي النهاية، يبقى الإسلام دين الرحمة والعدل، لا دين العنف والإرهاب.

 

وحدة رصد اللغة الإسبانية