الجماعات المتطرفة

 

16 يونيو, 2025

السبل الناجعة لمواجهة التنظيمات المتطرفة.. تنظيم داعش أنموذجًا

     في الأيام الأخيرة من يونيو عام 2014م، فوجئ العالم بمشاهد صادمة تنقلها وسائل الإعلام من مدينة الموصل، إحدى كبريات مدن المنطقة. في تلك الصور، كانت مجموعة مسلحة ذات توجهات متطرفة تدخل المدينة باندفاع عارم، وسط تراجع سريع للقوات المحلية، في مشهد أحدث صدمة عالمية، لما انطوى عليه من عنف مفاجئ وتغيير ميداني بالغ السرعة.

ففي 29 من يونيو 2014، أعلن ذلك التنظيم قيام ما أسماه: "الخلافة"، على رقعة جغرافية تمتد بين أطراف من العراق وسوريا، بقيادة شخصية غامضة تُدعى: "أبو بكر البغدادي"، الذي قدم نفسه آنذاك على أنه "خليفة للمسلمين". ظهر على الساحة الدولية مع هذا الإعلان كيان جديد يحمل اسم: "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، أو "داعش" كما بات يُعرف عالميًّا، وبدأ فصلٌ جديد من فصول التحديات الأمنية والفكرية التي شهدها العالم في القرن الحادي والعشرين.

لم تقف طموحات هذا التنظيم عند حدود جغرافية بعينها منذ لحظة إعلانها، بل سعى إلى توسيع نفوذه وفق تصوّر ديني متشدد، ساعيًا إلى فرض رؤيته الخاصة للنظام والمجتمع. ومع مرور الوقت، لم تقتصر آثار التنظيم على منطقة الشرق الأوسط، بل امتدت تداعياته إلى مناطق عدة من العالم، من آسيا الوسطى إلى أوروبا، ومن شمال إفريقيا إلى جنوب شرق آسيا.

وقد أفرز هذا التمدد فروعًا وخلايا متعددة، بعضها نشأ في سياقات سياسية وأمنية هشّة، فظهر ما يُعرف بـ: "ولاية خراسان" و"ولاية القوقاز" و"ولاية غرب إفريقيا"، وغيرها من الكيانات التي أعلنت ولاءها للتنظيم الأم. وقد تمكنت هذه الكيانات، في عدد من الحالات، من تنفيذ هجمات دامية، مثل ما جرى في العاصمة الروسية موسكو في أوائل عام 2024م، حيث أسفرت عملية إرهابية استهدفت منشأة عامة عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا. وهي واحدة من الحوادث التي تؤكد أن الظاهرة، رغم ما تعرضت له من ضربات، لم تفقد قدرتها على التأثير.

ورغم الخسائر التي لحقت بقيادة التنظيم، والتي شملت مقتل أبرز رموزه تباعًا، ظل داعش يحتفظ بقدرته على إعادة إنتاج نفسه. فمنذ مقتل زعيمه الأول في عام 2019م، تعاقب على قيادة التنظيم عدة شخصيات، سقط معظمها في عمليات عسكرية كل مرة كان التنظيم يعلن عن خليفة جديد، في مشهد يُذكّر باستمرارية الفكرة لا الأشخاص. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لم يسقط تنظيم داعش بشكل نهائي بعد تصفية قادته؟ الإجابة هي أن التنظيم لا يعتمد على الزعامة الفردية بقدر ما يرتكز (وليس يؤمن) على منظومة فكرية عقائدية تتجاوز الأسماء والوجوه. وهو ما يفسّر بقاءه فاعلًا رغم تقلب الظروف وفقدان المساحات.

عقد من التحولات

بحلول عام 2024م، كان قد مضى على ظهور داعش 10 سنوات كاملة. وهي سنوات شهدت تحولات كبرى، سواء على صعيد الأرض التي خسرها التنظيم تباعًا، أو على صعيد المشهد الإقليمي، حيث تغيّرت خريطة السلطة والنفوذ، لا سيما في مناطق النزاع التي برز فيها التنظيم. فقد تقلّص وجوده الميداني، وتراجعت مظاهره العلنية، لكن خطره لم ينتهِ، بل اتخذ أشكالًا جديدة، مثل الخلايا النائمة والذئاب المنفردة التي يستقطبها من خلال أشكال كثيرة إلكترونية وغير إلكترونية. وللأسف ما زال هذا الفكر يجد طريقه إلى بعض البيئات الهشة. وهذا ما يجعل من مواجهة التنظيم مهمة طويلة الأمد، تتطلب مقاربات متعددة تشمل البعد الأمني والفكري والتنموي، لا سيما في المجتمعات التي عانت من النزاعات والاضطرابات.

لقد أظهر داعش خلال عقد من الزمن قدرة على التكيف والاستمرار، بالرغم من كل ما واجهه من ضربات عسكرية وتشتيت ميداني. إذ تغذّى على الفراغات السياسية والأزمات الاجتماعية، مستفيدًا من هشاشة بعض البيئات المحلية، ليجد فيها ملاذًا أو منبرًا.

وما زال هذا التنظيم يشكل، برمزيته وفكره، تهديدًا يتجاوز الجغرافيا، ويتطلب من المجتمع الدولي مواصلة التنسيق واليقظة. فالمعركة ضده لم تعد عسكرية فقط، بل هي مواجهة شاملة مع خطاب عنيف يسعى إلى استغلال الدين لغايات تدميرية.

سبل المواجهة الناجعة... خارطة طريق مبتكرة وشاملة

إن سبل المواجهة والاستئصال تتطلب خارطة طريق مبتكرة وشاملة تستند إلى فهم دقيق لبنية المجتمعات، وتتكئ على أدوات تكنولوجية وثقافية واجتماعية واقتصادية، تتيح بناء إستراتيجيات وقائية وتمكينية وتصحيحية تتجاوز الرد الفوري إلى بناء مناعة مجتمعية طويلة الأمد. وفيما يلي، نعرض أبرز معالم هذه الخارطة التي تقترح رؤًى عملية واستباقية لاستئصال الفكر المتطرف من بيئته الحاضنة.

بناء حصن إلكتروني متنوع

في عصر الثورة الرقمية، لم يعد الفضاء الإلكتروني مجرد أداة تواصل، بل هو ساحة معركة حاسمة تُبنى عليها معارك المستقبل. ولذا لا تتطلب مواجهة داعش وأمثاله، غلق صفحاتهم ومواقعهم فحسب، بل يجب علينا اختراق المنصة الرقمية بإبداع مضاد يُعيد صياغة السرد الديني والوطني والاجتماعي والإنساني بطريقة تفاعلية وجاذبة للشباب.

فيجب إذن ابتكار محتوى رقمي تفاعلي مثل: الألعاب الإلكترونية التي تحاكي قيم السلام والتعايش، ومنصات رسوم متحركة (أنيميشن)، وقصص مصورة تُعلي قيمة الإنسان وكرامته، إضافة إلى الدراما الرقمية التي تُسلط الضوء على تجارب ناجية من التطرف. ينبغي كذلك إطلاق مبادرات مجتمعية رقمية وحملات شبابية عبر تطبيقات التراسل والفيديو القصير (تيك توك، وإنستغرام، ويوتيوب) تشمل مسابقات فنية وأدبية تحفز المشاركة الإيجابية، وتبني حس المسؤولية الاجتماعية. واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي لرصد المحتوى المتطرف وتحليله بدقة وسرعة، إضافة إلى تطوير روبوتات دردشة تقدم الدعم النفسي والفكري للشباب المشتبه في انزلاقهم نحو التطرف.

استعادة الأمل الكامن في المجتمعات

لا ينبغي أن تقتصر النظرة التنموية على أرقام الاقتصاد أو مشاريع البنية التحتية فقط، بل على استنهاض الروح الثقافية والهوية المحلية، إذ تشكل قاعدة صلبة تمنع الانفصال عن الواقع واحتضان الخطابات المتطرفة. وهنا يأتي دور المؤسسات الثقافية والرياضية والتعليمية. أما المؤسسات الثقافية فإنها تُعنى بإحياء التراث الثقافي والفني من خلال تنظيم مهرجانات فنية، ومسابقات تعكس تاريخ المنطقة وقيمها، مع دعم الحكايات الشعبية التي ترسخ مفهوم الكرامة الإنسانية والتسامح.

يبرز كذلك دور المؤسسات الرياضية التي تجعل من مراكز الشباب ملتقى ثقافيًّا يقدم الوعي والفكر القويم. ينبغي كذلك إنشاء مراكز شباب في المناطق النائية والمهمشة لتكون منابر حوارية وآمنة، تقدم ورش عمل فنية ورياضية وثقافية تفتح آفاق الإبداع وتبني الثقة بالنفس.

وأما المؤسسات التعليمية فإنها ترسخ مفهوم الهوية متعددة الأبعاد، وتعد مناهج تعليمية تدمج التاريخ الإنساني والقيمي بشكل يعزز انتماء الشباب لأوطانهم بطريقة عقلانية وعاطفية، بعيدًا عن الخطابات الأحادية والقطبية.

تشكيل سفراء السلام من الداخل

من نافلة القول: إن الشباب هم المحور، لكن ليتحوّلوا إلى قوة إيجابية فعّالة، لا بد من إعدادهم وتأهيلهم عبر برامج تدريبية متكاملة يشرف عليها مختصون، تشمل مهارات الحوار، وإدارة الأزمات، والتواصل الفعّال، والعمل التطوعي. كما يجب إعداد هؤلاء الشباب ليكونوا وسطاء محليين قادرين على رصد المؤشرات المبكرة للتطرف والتدخل الوقائي بحكمة ومرونة. ويُستكمل هذا الدور ببناء شبكات دعم مجتمعية تربطهم بمنصات وطنية ودولية توفّر لهم الموارد الفكرية والنفسية، فضلًا عن الأدوات التقنية المتقدمة التي تعزز من فاعليتهم. ومن الضروري كذلك إنشاء منظومة تحفيز وتقدير رسمي تضمن لهم اعترافًا مجتمعيًّا، وتدفعهم إلى الاستمرار والتوسع في جهودهم النبيلة.

تمكين النساء في قلب المعركة

لا يعد تمكين النساء ترفًا ولا مسايرة للخطاب الحقوقي، بل هو بُعد إستراتيجي أمني وثقافي وفكري. لأن تمكين امرأةً في قرية هامشية يمنع مقاتلًا في المستقبل. وإعطاءها فرصةً للصوت والمشاركة، يحبط سردية المظلومية التي يتغذى منها الإرهاب. وزرع ثقة المرأة بنفسها وبقدرتها على التأثير، تُحصّن مجتمعًا بأسره من السقوط في حفرة العنف والكراهية. والنساء، لا سيما في المجتمعات المتضررة من الإرهاب، لسن مجرد ضحايا، بل هن من يربين الأجيال، ويمتلكن تأثيرًا حاسمًا في تشكيل وعي الأبناء في سنواتهم الأولى. فإذا سُمح لهذا التأثير أن ينمو في بيئة دعم وتمكين، فإننا نزرع من خلاله بذور سلام طويلة الأمد. لكن إذا تُركت المرأة في دائرة الفقر والتهميش، فإن التنظيمات المتطرفة تجد منفذًا لتسللها عبر الأسرة. وتنظيمات مثل داعش لم تُقصِ النساء من مخططاتها، بل استثمرت في تجنيدهن، واستخدمتهن في الدعاية والتجنيد والتفخيخ أحيانًا. هذا يُشير إلى وعي تلك التنظيمات بقدرة المرأة على التأثير. فإن كانت الأيديولوجيات الظلامية تُراهن على النساء، أفلا يجدر بنا أن نُراهن عليهن من موقع البناء لا الهدم؟ ولذلك فإن أية خطة لمواجهة التطرف لا تشمل النساء، تعني فعليًّا ترك نصف المجتمع خارج المعادلة، أي نصف غير محصّن ضد خطاب الكراهية والضياع. ولا يمكن بناء حصن حقيقي ضد الفكر المتطرف إن كان هذا الحصن ينهار من الداخل عبر نساء مهمشات، مقهورات، بلا صوت.

وتقوم عملية التوعية النسائية عن طريق برامج تمكين اقتصادي وتعليمي، مثل المنح الدراسية، والتدريبات المهنية، ودعم ريادة الأعمال النسائية، مما يخلق استقلالية مادية ونفسية ويمنح النساء صوتًا فاعلًا في القرار المحلي.

وكذلك إعداد مبادرات تمكين ثقافي واجتماعي، من خلال تنظيم ورش عمل حول حقوق الإنسان، والقيادة المجتمعية، وأدوار المرأة في مكافحة التطرف، مع بناء شبكات نسائية للتضامن والدعم.

يجدر كذلك أن يكون هناك تمثيل نسائي في لجان السلام والمصالحة، وتضمين النساء في لجان صنع القرار المحلية والوطنية الخاصة بالاستقرار والسلام، لضمان معالجة الاحتياجات الخاصة للمجتمع بكل أبعاده.

استثمار القصة الإنسانية أداةَ مواجهة

القصة الإنسانية هي سلاح ناعم وفعال يكسر بناء الأساطير التي يتغذى عليها التطرف. لذلك من المهم جدًّا سرد تجارب ناجين ومنشقين عبر إنتاج أفلام وثائقية، وحلقات بودكاست، ومواد مكتوبة تسرد بشكل إنساني تجارب من عاشوا وخرجوا من جحيم داعش، لتوعية المجتمع بخطورة الفكر المتطرف وتفكيك الدعاية المغرية. وكذلك إنتاج مشاريع إعلامية مشتركة، مثل إشراك الإعلام المحلي والدولي في حملات توعوية تحكي قصص الضحايا والناجين، مع التركيز على إعادة بناء الأمل وفتح نوافذ التعايش. ثم توظيف الفن والدراما من مسرحيات وأفلام قصيرة وفعاليات ثقافية تعكس معاناة المجتمعات وتُبرز قيم التسامح، من أجل ترسيخ قيم السلام في الوجدان الجمعي.

وفي النهاية، لم تعد المواجهة الفعالة للتطرف تقتصر على الأدوات الأمنية والتقليدية، بل تتطلب تغييرًا جذريًّا في الطريقة التي نتعامل بها مع التكنولوجيا والاقتصاد والمجتمع. علينا أن نتعامل مع التكنولوجيا بوصفها حليفًا إستراتيجيًّا، عبر إنشاء مختبرات فكرية تجمع التقنيين والفنانين وعلماء الاجتماع لتطوير أدوات رقمية ذكية وإبداعية تحصّن الوعي وتعيد رسم الخطاب في الفضاء الإلكتروني. وفي الوقت نفسه، يجب كسر دائرة التهميش الاقتصادي بتقديم حلول تمويل بديلة تمنح الشباب فرصًا حقيقية للاستقرار والإنتاج بعيدًا عن جاذبية العنف. ومن الناحية المجتمعية، تبرز أهمية تبنّي قنوات تواصل غير رسمية كالجلسات الفنية، وسرد الحكايات الشعبية، التي تعيد نسج الروابط الإنسانية وتفتح مساحات آمنة للحوار والتفاهم، مما يقلل من فرص الانجراف نحو التطرف. بهذه المقاربة المتكاملة، نزرع بيئة مقاومة، لا فقط فكرًا مناهضًا.

وحدة رصد اللغة الإسبانية