آخر الأخبار

 

06 يوليه, 2025

الحجاب والتعليم.. ساحة مواجهة جديدة بين اليمين المتطرف وقيم التعايش في إسبانيا

     في قلب الديمقراطيات الأوروبية؛ حيث يفترض أن تُصان الحريات وتُحترم التعددية، تتكرَّر محاولات بعض التيارات اليمينية المتطرفة لتحويل المظاهر والرموز الدينية، وعلى رأسها الحجاب، إلى ساحة صراع أيديولوجي. وفي إسبانيا، لم يَعُد الهجوم على الحجاب مقتصرًا على خطاب شعبوي من منابر حزبية، بل بدأ يأخذ شكل مقترحات تشريعية تتسلل إلى البرلمانات الإقليمية، كما لو أن غطاء الرأس للمرأة بات تهديدًا وطنيًّا يستوجب التجريم. وفي مشهد يعكس تصاعد نبرة الإقصاء داخل بعض أروقة السياسة الأوروبية، تحول حزب "فوكس" اليميني المتطرف في إسبانيا إلى رأس حربة في حملة تستهدف الحريات الدينية والثقافية للمسلمين، خاصة فيما يتعلق بالحجاب والتعليم الإسلامي. وبينما يدَّعي الحزب دفاعه عن "الهوية الوطنية" و"القيم الإسبانية"، تتكشَّف ملامح مشروع إقصائي يقوم على تصوير التعددية تهديدًا، وحرية المعتقد عدوًّا خفيًّا.

واليمين المتطرف في إسبانيا، ممثلًا في حزب "فوكس"، لا يخفي نواياه. خطاب الحزب لم يعد يُبطن الكراهية أو التمييز، بل يعرضهما على الطاولة علنًا، ويطالب بترجمتهما إلى سياسات تنفيذية. ففي مشهد متكرر، قدَّم "فوكس" خلال شهر يونية 2025 مقترحين متتاليين، أولهما في مدريد والآخر في إقليم أندلوثيَّا، يدعوان إلى منع الحجاب داخل جميع الأماكن والمباني العامة، من مدارس ومستشفيات وحدائق إلى مؤسسات رسمية. وما يلفت النظر أن المقترحيْن لم يأتيا في سياق وقائع ملموسة أو حوادث توجب هذا التحرك، بل في إطار خطاب أيديولوجي هدفه إعادة تعريف "الهوية الوطنية" وفق تصورات إقصائية ترفض التنوع الثقافي والديني. فممثلة الحزب في برلمان مدريد، إيزابيل بيريز مونيّو، لم تكتفِ بوصف الحجاب بـ"رمز قمع المرأة"، بل طالبت بإعلان رسمي يجرمه، بذريعة حماية "قيم المجتمع الإسباني".

ونجد أن هذا التصعيد، بطبيعته، لا ينفصل عن مسار أوسع ينتهجه "فوكس" منذ سنوات، يقوم على تأجيج الخوف من الإسلام، واختزاله في صورة تهديد متربص، يتسلل عبر اللباس، أو اللغة، أو حتى البرامج التعليمية. ففي أندلوثيَّا ، ذهب المتحدث باسم الحزب، مانويل جابيرا، إلى حد التحذير من "عملية أسلمة منظمة" تجري في الإقليم، متهمًا المنظمات غير الحكومية والأحزاب الكبرى بـ"التواطؤ" في هذا "الخطر الديموغرافي". وهذه اللغة تعيد للأذهان مقولات اليمين المتطرف في أوروبا عن "الاستبدال السكاني"، وهي نظريات تم فضحها علميًّا وأخلاقيًّا، لكنها تجد للأسف تربة خصبة في خضم أزمات الهوية والصراعات السياسية. ونرى في هذه الخطابات استدعاءً متعمدًا لذاكرة الخوف، وتغذيةً مقصودة لحالة من الهلع الرمزي؛ بهدف تحقيق مكاسب انتخابية على حساب التماسك الاجتماعي.

والملفت أيضًا أن محور الهجوم تركَّز بشكل خاص على المرأة المسلمة، كونها الحلقة الأضعف في هذه المعادلة السياسية. فلا يُنظر إلى الحجاب في هذه السردية باعتباره خيارًا شخصيًّا نابعًا من قناعة دينية، بل أداةَ قهر يجب نزعها باسم "التحرر". وهذا الادعاء، الذي يبدو في ظاهره "حقوقيًّا"، يخفي في جوهره إقصاءً ممنهجًا لخيارات النساء المسلمات، وإنكارًا لاستقلاليتها الفردية في اتخاذ القرارات. ومن المفارقات العجيبة أن من يرفعون شعار الدفاع عن حرية المرأة، هم أنفسهم من يسعون لسلبها حرية ارتداء ما تشاء، إذا لم يتوافق مع النموذج الثقافي الذي يؤمنون به.

ولم يتوقف الأمر عند اللباس، بل امتدَّ ليطال البرامج التعليمية. ففي جلسة برلمانية في 11 من يونية 2025م، طالب "فوكس" بمراقبة المحتوى الإسلامي في المدارس، مدعيًا وجود "دعوات جهادية" في الفصول الدراسية. وهو ادعاء لم يُدعم بأي دليل، لكنه يشير بوضوح إلى محاولات الحزب خلق "عدو داخلي" يتمثل في الطلاب المسلمين، لتحميلهم مسؤولية أزمة هوية وطنية مختلقة. لكن الحكومة الإسبانية، ممثلة في وزيرة التعليم بيلار أليجريا، رفضت هذه الترهات، معتبرة أن حزب "فوكس" يروج لأكاذيب تهدف إلى إثارة الكراهية والانقسام، وأكدت أن إسبانيا تظل دولة قائمة على التعددية واحترام الحريات. ونؤكد أن التعليم يجب أن يكون فضاءً للانفتاح والتسامح، لا ساحة لحروب الهوية. كما أن تحويل الفصول إلى ميادين للرقابة الأيديولوجية يُعد انتهاكًا خطيرًا لحرية الفكر وحقوق الإنسان.

إن ما يجري في إسبانيا اليوم ليس مجرد جدل ديني أو نقاش حول القيم المدنية، بل هو في حقيقته صراع حول طبيعة المجتمع الذي تريده بعض القوى السياسية. هل هو مجتمع منفتح يحتضن تعددياته، أم كيان أحادي يضيق بالاختلاف؟ ومتى كان الحجاب أو تدريس الثقافة الإسلامية والعربية خطرًا على الدولة، في حين أن المجتمعات الأوروبية نفسها تتباهى بتنوعها وانفتاحها؟

والخطير في خطابات "فوكس" أنها لا تكتفي بالتحريض، بل تحاول تقنين الإقصاء وتطبيعه، من خلال مقترحات رسمية تُقدَّم باسم حماية الوطن. وهنا تكمن المعضلة: حين تتحول الكراهية إلى قانون، والتعددية إلى استثناء، تفقد الديمقراطية أحد أهم أعمدتها.

وفي ضوء هذا المشهد، يرى مرصد الأزهر أن سياسات الإقصاء لن تبني وطنًا، بل تزرع الانقسام وتقضي على التعددية، مشددًا على أن احترام التعددية هو عماد المجتمعات الديمقراطية الحديثة، وأن المساس بحرية المعتقد والهوية الدينية – تحت أية ذريعة – يمثل انحدارًا خطيرًا نحو الإقصاء المجتمعي والعنف الرمزي. ويدين المرصد هذه الحملة الممنهجة التي تستهدف الحجاب والتعليم الإسلامي، ويدعو مؤسسات الدولة الإسبانية والمجتمع المدني إلى الوقوف بصرامة في وجه هذه التوجهات، وحماية نسيج المجتمع من التشظي والتطرف السياسي. فالتعايش لا يُبنى بالخوف، والهوية لا تُصان بالإقصاء، وإنما بالحوار، والاحترام، والانفتاح على الآخر.

 

وحدة رصد اللغة الإسبانية