شهدت ألمانيا في شهر فبراير 2025 تصاعدًا ملحوظًا في أنشطة اليمين المتطرف تزامنًا مع الانتخابات البرلمانية المبكرة ، مما أثار قلق السلطات والمجتمع المدني على حد سواء، وبينما تبدو هذه الظاهرة متكررة في السنوات الأخيرة، فإن حدتها المتزايدة لا سيما في ألمانيا والنمسا تشير إلى تحديات خطيرة تواجه القيم الديمقراطية والتعددية في القارة العجوز، فمن الهجمات ذات الطابع العنصري إلى تزايد الخطاب المعادي للمهاجرين، وصولًا إلى النفوذ السياسي المتنامي للأحزاب اليمينية المتطرفة، باتت هذه التيارات تمثل تهديدًا حقيقيًّا لا يمكن تجاهله.
حيث رصدت جريدة "تاجس شبيجل" الألمانية خلال شهر فبراير 2025م عددًا من الهجمات ذات دوافع يمينية متطرفة، استهدفت بعضها اللاجئين والمسلمين، من بينها اعتداء على لاجئين سوريين من قبل شخص يُشتبه في انتمائه لليمين المتطرف في مدينة "دريسدن"، وفي "برلين" وقع حادث مشابه داخل إحدى محطات القطار؛ حيث تعرض رجل لهجوم من قبل مراهقين على خلفية عنصرية، ويؤكد المرصد أن هذه الحوادث ليست استثناء، بل تأتي في سياق تزايد الاعتداءات ذات الطابع العنصري في مختلف أنحاء أوروبا، وهو ما دفع الشرطة الألمانية إلى تعزيز إجراءاتها الأمنية.
وعلى الصعيد المؤسسي، كشفت وزارة الداخلية في ولاية "سكسونيا" عن 20 حالة اشتباه جديدة في التطرف اليميني داخل الشرطة، شملت تصرفات عنصرية، ونشر محتويات مناهضة للدستور، ورغم تأكيد وزير الداخلية في الولاية السيد "أرمين شوستر" أن 99% من أفراد الشرطة يلتزمون بالقيم الديمقراطية، فإن تكرار مثل هذه الحوادث يثير تساؤلات حول مدى تغلغل الفكر اليميني داخل الأجهزة الأمنية.
وأمام هذا التصاعد الملحوظ في أنشطة اليمين المتطرف، شهدت ألمانيا موجة احتجاجات واسعة رفضًا لانتشار هذه الأفكار، ففي "برلين" وحدها حسب ما نشر الموقع الإلكتروني "تاجس شو" في فبراير 2025، خرج ما لا يقل عن 160,000 شخص في مظاهرة ضخمة رفضًا للتطرف اليميني، فيما نُظِّمت مظاهرات مماثلة في "كولونيا"، و"فرانكفورت"، و"ساربروكن" بمشاركة مئات الآلاف من المواطنين، وتميزت بعض هذه الاحتجاجات بطرق إبداعية؛ حيث استخدم المتظاهرون في "كولونيا" 350 قاربًا على نهر الراين للتعبير عن رفضهم للعنصرية، رافعين لافتات تؤكد على قيم الديمقراطية والتنوع.
لم يكن تصاعد أنشطة اليمين المتطرف محصورًا فقط في الشارع، بل امتد إلى الساحة السياسية؛ حيث أسفرت الانتخابات البرلمانية الألمانية الأخيرة عن تحقيق حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD) ثاني أفضل نتيجة له منذ تأسيسه، بحصوله على 20.8% من الأصوات، وقد أثار هذا الصعود الملحوظ لليمين المتطرف قلقًا دوليًّا، حيث أشار معلقون كثيرون إلى تشابه هذه الحالة مع حالة عدم الاستقرار السياسي التي شهدتها جمهورية فايمار سابقًا، وذلك حسب ما نشرته صحيفة "أوجوسبورجر" الألمانية، ومن المعروف أن الحزب له سياسات مناهضة للاجئين والأجانب بشكل عام، ويسعى بشكل دائم إلى فرض قوانين تحد من موجات الهجرة واللجوء، ومن ذلك ما نشره موقع البرلمان الألماني أن الحزب يقترح فرض ضريبة على الأموال المحولة إلى خارج المنطقة الاقتصادية الأوروبية، بهدف تقليل الدوافع الاقتصادية للهجرة.
ففي سبتمبر 2024م، قدمت الكتلة البرلمانية لحزب AfD طلبًا يهدف إلى "إزالة الحوافز الخاطئة" في إجراءات اللجوء، والفصل الواضح بين اللجوء والهجرة من أجل العمل، تضمن هذا الطلب تعديلات على قوانين الإقامة، وقانون مزايا طالبي اللجوء.
وفي أكتوبر 2024م، اعتمد حزب AfD ورقة موقف تدعو إلى رفض اللاجئين على الحدود، وبناء أسوار حدودية، وتقديم المساعدات خدمات عينية فقط، وفقًا لمبدأ "الخبز، السرير، الصابون". كما دعا الحزب إلى إنهاء مدفوعات إعانات البطالة للمهاجرين، بما في ذلك اللاجئون الأوكرانيون، وفرض عمل إلزامي في المجال العام لطالبي اللجوء، علاوة على هذا يتبنَّى الحزب في سياسته تجاه الهجرة مفهوم "إعادة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية (Remigration)"، ويشمل هذا المفهوم اللاجئين الذين تم رفض طلبات لجوئهم، وكذلك الأشخاص الحاصلين على حق البقاء، وحتى المواطنين ذوي الأصول المهاجرة الذين لم يندمجوا في المجتمع الألماني بشكل كافٍ من وجهة نظر الحزب.
وفي نوفمبر 2024م، نشرت مواقع إخبارية ألمانية منها مجلة "شبيجل" وموقع "تي أونلاين" أخبارًا عن مشاركة سياسيين من حزب البديل في اجتماع سري مع حركات يمينية متطرفة مثل حركة الهوية (Identitäre Bewegungen)، عُرض فيه «مخطط رئيسي» يهدف إلى ترحيل ملايين الأشخاص من ذوي الأصول المهاجرة، تضمَّن هذا المخطط اقتراحًا بنقل ما يصل إلى مليونَي شخص إلى شمال إفريقيا.
وفي يناير 2025م، كشف فريق التحقيقات الصحفية الألماني (Correctiv) تفاصيل هذا الاجتماع، مما أثار جدلًا واسعًا وموجة من الانتقادات والاحتجاجات، وأعلن الحزب رسميًّا تبرُّؤه من هذا اللقاء، لكنه واصل التأكيد على تمسكه بمطلبه الخاص بسياسة إعادة اللاجئين بشكل حازم إلى بلدانهم الأصلية.
ويرى المرصد أن هذه الانتخابات تعكس مرحلة فارقة في تاريخ ألمانيا الحديث؛ إذ تكشف عن صعود واضح لليمين الشعبوي، وهو ما يثير قلقًا مشروعًا لدى الأقليات، ومن الضروري في هذا السياق أن تتعامل الحكومة الألمانية المقبلة بقيادة الاتحاد الديمقراطي المسيحي بجدية وحزم مع قضية التطرف اليميني، خصوصًا أن وصول حزب البديل إلى هذه النسبة الكبيرة قد يشكل ضغطًا إضافيًّا على السياسات الداخلية، ويزيد من مخاطر الاستقطاب في المجتمع، كما وضعت هذه الانتخابات ألمانيا أمام مفترق طرق حقيقي، بين التمسك بقيم الديمقراطية والتعددية من جهة، وبين مواجهة موجة التطرف واليمين الشعبوي من جهة أخرى، ومن ثم فإن التحدي الأكبر يكمن في قدرة الحكومة الجديدة على إيجاد التوازن بين معالجة المخاوف التي تغذي صعود اليمين الشعبوي، وفي الوقت نفسه المحافظة على المبادئ الديمقراطية وحماية الأقليات؛ لذلك من المهم أن تتبنَّى ألمانيا سياسات واضحة لمكافحة التطرف من جهة، وأن تعزز الحوار المجتمعي من جهة أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية التعاون مع المنظمات المدنية والمؤسسات التعليمية، بهدف حماية المجتمع الألماني من الانقسام والتطرف في المستقبل.
ويؤكد مرصد الأزهر لمكافحة التطرف أن تصاعد أنشطة اليمين المتطرف في أوروبا بشكل عام لم يعد مجرد ظاهرة عرَضية، بل بات يشكل تحديًا حقيقيًّا يهدد قيم الديمقراطية والتعددية التي قامت عليها المجتمعات الأوروبية، ويمكن تفسير هذا الصعود بعدد من العوامل، منها الأزمات الاقتصادية، وتصاعد المخاوف الأمنية، إضافة إلى استغلال الأحزاب اليمينية لقضية الهجرة من أجل كسب التأييد الشعبي، لكن في المقابل، فإن ردود الفعل المجتمعية القوية ضد هذه الظاهرة تعكس وجود وعي شعبي متزايد بخطورة الفكر اليميني المتطرف، فعلى الرغم من خروج مئات الآلاف في مظاهرات مناهضة للتطرف اليميني مما يُظهر أن هناك مقاومة واسعة لمحاولات زرع الكراهية والانقسام داخل المجتمعات الأوروبية، فإن المقلق في الأمر هو أن هذه الاحتجاجات قد لا تكون كافية إذا لم تتخذ الحكومات إجراءات صارمة لمواجهة هذه التيارات. وعليه بات من الضروري تعزيز القوانين التي تُجرِّم خطاب الكراهية، إلى جانب تكثيف الجهود الأمنية لمراقبة الجماعات اليمينية المتطرفة، كما يجب على وسائل الإعلام أن تتحلى بالمسؤولية، وألا تسهم في نشر الذعر؛ عبر التركيز المفرط على هجمات التنظيمات الإرهابية، في حين تغض الطرف عن تصاعد العنف اليميني، كذلك لا بد من التركيز على الجانب التربوي من خلال تعزيز التوعية في المدارس والجامعات حول مخاطر الفكر المتطرف، سواء كان دينيًّا أو يمينيًّا.
وحدة الرصد باللغة الألمانية