في خطبته الأخيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيرًا"، وهي وصية تحمل في طياتها رسالة عظيمة عن مكانة المرأة في المجتمع؛ إذ تشكل جزءًا أساسيًّا من استقراره وتقدمه. فالمرأة ليست فقط نصف المجتمع، بل هي حجر الزاوية في تحقيق التنمية المستدامة. ومع ذلك، وفي بعض المجتمعات، نجد أن المرأة أصبحت أداة تُستغل لأغراض سياسية أو اجتماعية تضر بموقعها الحقيقي. هذه الاستغلالات تسهم في تشويه دورها الفعلي، مما يدفعها للبحث عن حقوقها المسلوبة. وفي الأوساط المحافِظة والدينية، هناك من يربط الحركة النسوية بمفاهيم أخرى مثل: زواج المثليين، وقضايا النوع الاجتماعي، متجاهلين القيم الأساسية التي تدافع عنها الحركة. هذا الربط يثير تساؤلات حول مدى صحة هذه الادعاءات.
وللإجابة على هذا السؤال، من الضروري العودة إلى جذور الحركات النسوية التي نشأت في أوروبا. حيث نشأت هذه الحركات في البداية ردًّا على محاولات لتقويض دور المرأة وتشكيل صورة نمطية لها. ومع ذلك، تبرز أمامنا ظاهرة مثيرة للاهتمام تتمثل في انجذاب بعض النساء إلى الأحزاب الشعبوية اليمينية، التي غالبًا ما تعارض الحركة النسوية وتتبنى خطابًا معاديًا للتغيير الاجتماعي. ويظهر ذلك جليًّا في تزايد تأييد النساء لحزب "البديل من أجل ألمانيا"، ونجاح "مارين لوبان"، رئيسة حزب "التجمع الوطني اليميني الفرنسي"، في جذب شريحة من النساء.
ويُثير هذا التوجه تساؤلات مهمة، خاصة في ضوء الخطاب الذي تتبناه بعض هذه الجماعات، والذي قد يُعتبر معاديًا للمرأة، وأهمها: كيف يمكن تفسير انجذاب النساء نحو أيديولوجيات يُفترض أنها تقلل من شأنهن؟
تشير بعض الأبحاث إلى عدة عوامل محتملة تفسر هذا التوجه، مثل استغلال بعض الحركات لقضايا حقيقية تؤثر على النساء مثل: العنف ضد المرأة، والتحرش الجنسي، ولكنها تُؤطر هذه القضايا بطريقة تُلقي باللوم على "الآخرين"، مثل: المهاجرين، أو الأقليات، بدلًا من معالجة الأسباب الجذرية للمشاكل.
ثانيًا، قد تشعر بعض النساء بالإقصاء من الخطاب النسوي السائد، الذي يركز على قضايا معينة قد لا تعبر عن تجاربهن أو اهتماماتهن؛ لذا يجدن في هذه الحركات اليمينية بديلًا يقدم وجهة نظر مختلفة، حتى وإن كانت هذه الرؤية مثيرة للجدل.
ثالثًا، تقدم هذه الحركات شعورًا قويًّا بالانتماء إلى مجموعة، وهو ما يمكن أن يكون جذابًا للنساء اللاتي يبحثن عن هوية جماعية في ظل مجتمع متغير.
من المهم أيضًا ملاحظة أن انجذاب النساء نحو هذه الحركات اليمينية ليس ظاهرة متجانسة، بل يتأثر بعوامل متعددة مثل: الوضع الاجتماعي، والاقتصادي، والخلفية الثقافية. ومن الضروري تحليل المخاطر المحتملة لهذا التوجه، والتي تشمل تأثير هذه الحركات على حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، واستخدام قضايا المرأة لتحقيق أهداف سياسية، فضلًا عن تأثير خطاب الكراهية والعنصرية على المجتمع بشكل عام. وسيتناول هذا التقرير هذه الجوانب بالتفصيل.
ويُلاحظ نمط مماثل في بولندا، حيث أطلق حزب "القانون والعدالة" (PiS) برنامج "Family 500"، الذي يقدم دعمًا ماليًّا شهريًّا للعائلات التي لديها طفلان أو أكثر؛ فمن خلال هذه البرامج، تسعى هذه الأحزاب إلى تقديم صورة عن نفسها كـ "مدافعة عن حقوق المرأة"، و"مهتمة برفاهية الأسر"، إدراكًا منها لأهمية أصوات النساء في المعادلة الانتخابية.
تُظهر نتائج الانتخابات واستطلاعات الرأي تباينًا ملحوظًا في مدى انجذاب النساء للأحزاب اليمينية المتطرفة؛ ففي دول مثل ألمانيا، أظهرت انتخابات البوندستاج لعام 2021م ارتفاعًا في نسبة تصويت النساء لحزب "البديل من أجل ألمانيا" [Der Spiegel، 27 سبتمبر 2021م]، وفي بولندا أشارت استطلاعات عام 2023م إلى دعم نسائي متزايد لحزب "القانون والعدالة " Politico]، 15 أكتوبر 2023م]. وفي المقابل، تظهر البيانات في دول أخرى مثل: فرنسا، وإسبانيا أن النساء أقل ميلًا للتصويت لأحزاب مثل: "التجمع الوطني"، أو "فوكس" مقارنة بالرجال Le Monde]، 20 أبريل 2022م]، و[ El País، 12 ديسمبر 2023م].
جدير بالذكر أن الأحزاب مثل: "البديل من أجل ألمانيا" (AfD)، و"القانون والعدالة" (PiS) في بولندا، و"التجمع الوطني" (RN) في فرنسا، و"فوكس" في إسبانيا، تُصنَّف ضمن التيار اليميني المتطرف، أو اليمين الشعبوي، نظرًا لما تتبناه من خطاب سياسي يتسم بالعداء للهجرة، والتركيز على الهوية القومية، ورفض العولمة، وانتقاد الاتحاد الأوروبي؛ فهذه الأحزاب تتبنى مواقف محافظة حيال قضايا النوع الاجتماعي وحقوق الأقليات، كما توظف خطابات تحفز المخاوف الأمنية والثقافية لدى المواطنين. وعلى الرغم من اختلاف السياقات الوطنية والأولويات السياسية، فإن القاسم المشترك بين هذه الأحزاب يكمن في سعيها لإعادة تشكيل النظام السياسي والاجتماعي، بما يتماشى مع رؤى "تقليدية" أو "محافظة". وهذا يجعلها جزءًا من الموجة العالمية لليمين المتطرف التي شهدت صعودًا ملحوظًا في العقد الأخير، خاصة في أوروبا.
تُعدُّ الأصوات النسائية مكونًا حاسمًا في المشهد الانتخابي المعاصر؛ حيث تسعى مختلف الأحزاب السياسية إلى استقطاب هذا الجمهور المؤثر. وفي هذا السياق، تشهد إستراتيجيات الأحزاب اليمينية تحولًا ملحوظًا في تعاملها مع قضايا المرأة، وذلك سعيًا لكسب تأييد الناخبات. ويتناول هذا التحليل الإستراتيجيات الرئيسية التي تعتمدها هذه الأحزاب، وكيفية توظيفها في خطابها السياسي لجذب شريحة أوسع من النساء؛ ففي خضم التنافس السياسي المحتدم، تبرز أهمية فهم هذه الإستراتيجيات لاستمالة الناخبات، وذلك على النحو التالي:
إستراتيجيات الأحزاب اليمينية في استقطاب الأصوات النسائية
أولًا: إستراتيجية مناهضة "النسوية"
شهدنا في الآونة الأخيرة تحولًا كبيرًا في خطاب اليمين المتطرف تجاه المرأة؛ حيث بدأ في تبني قضايا اجتماعية مدعيًا أنه المدافع الحقيقي عن القيم التقليدية والأسرة. ويهدف هذا التحول إلى جذب أكبر شريحة من الناخبات، ويتحقق ذلك من خلال إعادة تعريف مفهوم النسوية بما يتناسب مع أجندته الخاصة.
ويتجلى ذلك في تعزيز برامج الرعاية الاجتماعية التي تستهدف بشكل مباشر احتياجات الأسر، وخاصة الأمهات؛ فعلى سبيل المثال، يهدف البرنامج الانتخابي لحزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD) إلى زيادة معدل المواليد بين السكان "الأصليين" من خلال تقديم حوافز مالية كبيرة، مثل منحة للأمهات تصل إلى 25 ألف يورو. هذا التركيز على "الأمومة" و"حماية العائلة" يُعتبر محاولة لاستمالة النساء اللاتي يُفضلن الأدوار الجندرية التقليدية. ويُلاحظ نمط مماثل في بولندا؛ حيث أطلق حزب "القانون والعدالة" (PiS) برنامج "Family 500"، الذي يقدم دعمًا ماليًّا شهريًّا للعائلات التي لديها طفلان أو أكثر. من خلال هذه البرامج، تسعى هذه الأحزاب إلى تقديم صورة لأنفسها كـ "مدافعة عن حقوق المرأة" و"مهتمة برفاهية الأسر"، إدراكًا منها لأهمية أصوات النساء في المعادلة الانتخابية.
تُظهر نتائج الانتخابات واستطلاعات الرأي تباينًا ملحوظًا في مدى انجذاب النساء للأحزاب اليمينية المتطرفة؛ ففي حين شهدت الانتخابات في دول مثل: ألمانيا، وبولندا زيادة ملحوظة في نسبة تصويت النساء لصالح هذه الأحزاب، فقد يكون هذا التباين ناتجًا عن مجموعة من العوامل، من بينها ما يلي:
• السياسات التي تتبناها هذه الأحزاب: مثل برامج الرعاية الاجتماعية التي قد تجذب النساء بشكل أكبر من غيرهن.
• الخطاب السياسي: سواء كان معاديًا للمرأة، أو أكثر اعتدالًا، الأمر الذي يؤثر بشكل كبير على مدى جاذبية هذه الأحزاب للناخبات.
• العوامل الاجتماعية والثقافية: مثل: المستوى التعليمي، والدخل، والخلفيات الثقافية، والتي تلعب دورًا في تحديد توجهات التصويت لدى النساء.
ورغم محاولات الأحزاب اليمينية المتطرفة جذب الناخبات من خلال تقديم برامج اجتماعية، فإن نجاح هذه الإستراتيجية ليس مضمونًا؛ إذ توجد عوامل أخرى تؤثر بشكل كبير على مدى انجذاب النساء لهذه الأحزاب، ومن بينها تركيز الأحزاب على قضايا معينة مثل: الهجرة، والأمن القومي، وهي قضايا قد تجذب الرجال أكثر من النساء.
ويثير هذا التحول في خطاب الأحزاب اليمينية المتطرفة تساؤلات مهمة حول مدى صدق اهتمام هذه الأحزاب بقضايا المرأة: هل هي مجرد أدوات سياسية لجذب الأصوات، أم أن هناك تغييرًا حقيقيًّا في مواقفها؟ كما يُثار سؤال عن آثار هذه الإستراتيجيات على حقوق المرأة: هل ستؤدي هذه البرامج إلى تعزيز حقوق المرأة، أم أنها ستُستخدم أداةً لتقوية الأدوار الجندرية التقليدية؟
المشهد السياسي الفرنسي يقدم حالة فريدة من نوعها مقارنة مع الدول الأوروبية المجاورة، خاصة فيما يتعلق بتأييد النساء لليمين المتطرف؛ ففي الوقت الذي تُظهر دول أخرى مثل إيطاليا -ذات الحكومة اليمينية بقيادة جورجيا ميلوني- فجوةً واضحة بين الجنسين في تأييد هذه الأحزاب (إذ حصل حزب 'إخوة إيطاليا' على 30.5% من أصوات الرجال مقابل 27% فقط من أصوات النساء، وفقًا لمعهد ديموبوليس)، فإن المشهد الفرنسي يتجه اتجاهًا معاكسًا؛ حيث تُبدي النساء الفرنسيات، وخاصة في العاصمة باريس، دعمًا متزايدًا لليمين المتطرف، مُتحديات بذلك التوقعات والأنماط السائدة في أوروبا.
وتُشير نتائج الانتخابات الفرنسية الأخيرة، كما ذكرت صحيفة 'ليزيكو'، إلى زيادة ملحوظة في دعم النساء لحزب 'التجمع الوطني' بزعامة مارين لوبان. فقد حصل الحزب على دعم 33% من أصوات النساء، متجاوزًا بذلك نسبة الرجال التي بلغت 30%. ويُعد هذا التحول مذهلًا بالنظر إلى أن نسبة تأييد النساء للحزب التي لم تتعدَّ 21% في عام 2019، مقارنة بـ 25% من الرجال، وهو ما كان يتماشى مع النمط التقليدي لتصويت اليمين المتطرف في أوروبا. ويُشير هذا الارتفاع بمقدار 12 نقطة مئوية خلال خمس سنوات فقط إلى ديناميكية جديدة في المشهد السياسي الفرنسي.
يُثير هذا التباين بين فرنسا ودول أوروبية مجاورة تساؤلات مهمة حول خصوصية الحالة الفرنسية. لماذا تنجذب النساء الفرنسيات، اللواتي كن تاريخيًّا أكثر ميلًا للأحزاب اليسارية والوسطية، نحو خطاب اليمين المتطرف بهذه الكثافة؟ تشير بعض التحليلات إلى أن شخصية مارين لوبان القيادية، وتركيزها على قضايا مثل الأمن والهوية الوطنية، قد أسهم في جذب شريحة من النساء. إضافة إلى ذلك، قد يكون الخطاب الذي يركز على "حماية القيم العلمانية" للجمهورية في فرنسا، والذي يُنظر إليه على أنه مُعارض للتطرف الديني، قد لاقى صدى لدى بعض النساء اللواتي يشعرن بالقلق إزاء قضايا مثل ارتداء الحجاب.
أدركت الأحزاب اليمينية المتطرفة أهمية كسب أصوات النساء بعدما كان الخطاب المعادي للمرأة في الماضي أحد أبرز العوائق أمام قدرتها على اجتذاب الناخبات. وقد عبَّر ماركوس فولين، وهو شخصية بارزة في أوساط اليمين المتطرف في السويد، عن هذا التحدي بوضوح، إذ أرجع في أحد تصريحاته أسباب خسارة حزبه في النمسا جزئيًّا إلى ضعف الدعم النسائي. وفي مقطع فيديو بعنوان: "سؤال المرأة"، شدد فولين على أن تحقيق الفوز السياسي "على المدى الطويل" يتطلب حتمًا كسب أصوات النساء، حتى وإن تطلب ذلك نوعًا من التنازل عن بعض المعتقدات التقليدية المتجذرة في أيديولوجيا هذه الحركات.
ثانيًا: إستراتيجية إعادة صياغة معنى "النسوية"
تعتمد الجماعات اليمينية المتطرفة على إستراتيجية مُحكمة لجذب النساء تتمثل في إعادة تعريف مفهوم "النسوية" وتطويعه لخدمة أجنداتها السياسية. تشير الباحثة لورا جوردون، الناشطة الفرنسية والمؤسسة المشاركة في حركة نيميسيس (Collectif Némésis)، إلى أن التعامل مع "النسوية" بوصفها كيانًا موحَّدًا هو "تبسيط مُخل"؛ إذ يمكن تفسير مبادئ النسوية بطرق متعددة، وهو ما تستغله هذه الجماعات لدعم أهدافها.
حركة "نيميسيس" تُعد نموذجًا بارزًا لهذا التوظيف؛ فهي مجموعة نسوية يمينية متطرفة تستخدم شعارات نسوية ظاهرية لمعارضة الهجرة والإسلام، ما يثير جدلًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية والسياسية. على سبيل المثال، أنتجت الحركة ملصقًا يحمل عبارة "RapeFugees Not Welcome" ، يظهر فيه رجل أسود وآخر مسلم يطاردان امرأة بيضاء، في تجسيد مباشر للصورة النمطية التي تربط بين المهاجرين والعنف الجنسي. هذا النوع من الخطاب يُظهر كيف يمكن للنسوية أن تُحوّل إلى أداة لتسويغ سياسات عنصرية وتمييزية.
في مقابلة أُجريت معها عام 2021م، أوضحت جوردون أن هذه الجماعات تستخدم النسوية بانتقائية، حيث تُبرز حالات العنف الجنسي التي يرتكبها مهاجرون أو رجال من أصول غير أوروبية، بينما تتجاهل أو تقلل من شأن الانتهاكات مشابهة عندما يكون الجناة من الذكور البيض أو من النخب الاقتصادية.
تحذر جوردون من أن هذا الاستخدام الانتهازي للخطاب النسوي يشكل تهديدًا حقيقيًّا، إذ يسمح بتسويق سياسات إقصائية وعدائية تحت غطاء حماية حقوق المرأة، مما يطمس الفوارق بين النسوية الحقيقية التي تناضل من أجل المساواة، والخطابات اليمينية التي تُفرغها من مضمونها.
وفي السياق ذاته، تلفت الباحثة ماغدالينا زافيشا، محاضِرة في علم نفس المستهلك والنوع الاجتماعي بجامعة أنغليا روسكين البريطانية، إلى أن هذه الجماعات تُروّج لعودة الأدوار التقليدية بين الجنسين. فهي تُبرز دور المرأة كونها أُمًّا وربةَ منزل وتُقدمه باعتباره "احتفالًا بتمكين المرأة" و"حماية للأسرة". يتناقض هذا الطرح بوضوح مع الخطاب النسوي التقدمي الذي يدعو إلى المساواة الكاملة بين الجنسين في جميع مجالات الحياة العامة والخاصة.
علاوة على ذلك، تستخدم هذه الحركات ما يمكن وصفه بـ"النسوية الإستراتيجية"، حيث تُعاد صياغة بعض مطالب حقوق المرأة وتُدمج في سرديات شعبوية بهدف استقطاب المؤيدات. ويُضاف إلى ذلك توظيف شبكات الأمان الاجتماعي – من خلال تقديم وعود بحماية النساء ودعم الأمهات وتقوية الأسرة – لخلق إحساس بالأمان والانتماء لدى النساء في ظل مشهد سياسي يُصور على أنه مهدد من "الآخرين"، سواء أكانوا مهاجرين أم ممثلين للحداثة الليبرالية.
تُشير زافيشا إلى أن هذا النوع من الخطاب ليس وليد اللحظة، بل له جذور تاريخية، كما يتجلى في تجربة منظمة Sección Femenina ، الفرع النسائي لحركة الكتائب اليمينية في إسبانيا خلال القرن العشرين. هذه المنظمة روجت لصورة "المرأة المثالية" التي تُضحي بنفسها من أجل الأسرة والمجتمع، وهو خطاب لاقى بعض القبول في ستينيات القرن الماضي، لا سيما في سياقات النضال من أجل تحسين شروط العمل.
في العصر الرقمي، ومع انتشار منصات التواصل الاجتماعي مثل Gab، التي أصبحت مرتعًا للخطاب اليميني المتطرف، ظهرت مجتمعات افتراضية مثل حركة Trad Wives( الزوجات التقليديات)، وهي جماعة تضم نحو 30 ألف امرأة يُعلنَّ رفضهن للنسوية المعاصرة. وتُظهر هذه الظاهرة كيف يستغل اليمين المتطرف مشاعر الإحباط أو النفور لدى بعض النساء تجاه بعض جوانب الخطاب النسوي السائد، من أجل تعزيز أجنداته وتوسيع قاعدته الانتخابية.
يشير هذا التوجه إلى أهمية ما تُقدمه هذه الجماعات من شبكات أمان اجتماعي تُوصف أحيانًا بأنها "ضمانات بديلة" تُخاطب احتياجات النساء، خاصةً في ظل هشاشة السياسات الاجتماعية في كثير من الدول. كما تتبنى هذه الحركات مفهومًا مُشوّهًا لـ"حقوق المرأة"، توظفه إستراتيجيةً مدروسةً لجذب المؤيدات. فهي تبرز قضايا مثل معارضة الإجهاض أو الدفاع عن "القيم العائلية التقليدية"، بينما تُهمَّش قضايا أساسية في الخطاب النسوي مثل: المساواة في الأجور، أو مكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي.
في المجمل، تعمل هذه الجماعات على تقديم نفسها بوصفها مدافعةً عن حقوق المرأة، لكن من منظور يتناقض مع مبادئ المساواة والعدالة الجندرية. وهو ما يفرض ضرورة بلورة خطاب نسويٍّ بديل قادر على استيعاب تنوع تجارب النساء وتقديم حلول واقعية لتحدياتهن المتعددة.
تتبنى الجماعات اليمينية المتطرفة خطابًا نسويًّا مُشوهًا يُعرف أحيانًا بـ"النسوية اليمينية"، يُركز على تمكين المرأة ضمن أدوار تقليدية مثل الأمومة وربَّة المنزل، ويُقدَّم ذلك جزءًا من حماية الأسرة والهوية القومية. هذا الطرح لا يسعى إلى المساواة بين الجنسين، بل يعيد إنتاج منظومة أدوار نمطية تُخاطب مخاوف النساء من التفكك المجتمعي أو من "التهديد الثقافي"، خاصة في سياقات معادية للهجرة. في هذا الإطار، تستغل هذه الجماعات شعارات نسوية ظاهرية (مثل الحماية من العنف)، لكن بهدف خدمة أجندات قومية أو عنصرية، وليس بهدف تحقيق العدالة الجندرية.
في المقابل، تسعى النسوية الليبرالية إلى تحقيق المساواة من داخل النظام، من خلال التشريعات والمشاركة السياسية، بينما تذهب النسوية الراديكالية إلى نقد جذري للبُنى الاجتماعية القائمة، معتبرة أن النظام الأبوي هو أصل التمييز. النسوية الليبرالية تركز على قضايا مثل الأجور المتساوية وتمثيل المرأة، في حين تركز النسوية الراديكالية على إنهاء السيطرة الذكورية والعنف القائم على النوع الاجتماعي. أما "النسوية اليمينية"، فتُفرغ هذه القضايا من مضمونها، عبر التركيز الانتقائي على مظالم تُنسَب إلى "الآخر"، متجاهلة المنظومة الذكورية داخل المجتمع نفسه، مما يُحول الخطاب النسوي إلى أداة لتسويغ التمييز بدلًا من مقاومته.
ثالثًا: إستراتيجية "نزع الشيطنة" كمفتاح للاندماج السياسي
تعتمد الجماعات اليمينية المتطرفة على إستراتيجية تُعرف بـ"نزع الشيطنة"، بالفرنسية: dédiabolisation، وهي محاولة منهجية لإعادة تشكيل صورتها العامة والتخلص من السمعة السلبية المرتبطة بها، بهدف كسب شرعية أوسع داخل المجتمع وتوسيع قاعدتها الانتخابية. تتضمن هذه الإستراتيجية تعديل الخطاب السياسي، وتبني نبرة أكثر اعتدالًا في قضايا مثيرة للجدل، خاصةً ما يتعلق بحقوق المرأة، وذلك لاستمالة فئات تقليديًّا كانت بعيدة عن اليمين المتطرف، مثل الشباب والنساء والطبقات الشعبية.
نموذج حزب "التجمع الوطني" الفرنسي
يُعد حزب "التجمع الوطني" (Rassemblement National) بزعامة مارين لوبان مثالًا بارزًا على تطبيق هذه الإستراتيجية. فمنذ تسلُّمها قيادة الحزب عن والدها جان ماري لوبان، سعت مارين إلى التخلص من إرث الخطاب العنصري والمعادي للسامية، فبدأت باستبعاد الشخصيات الأكثر تطرفًا، وتبنت خطابًا يرتكز على قضايا الأمن، الهجرة، والعلمانية بلغة أكثر اعتدالًا. من بين أبرز مظاهر "نزع الشيطنة": تغيير اسم الحزب من "الجبهة الوطنية" إلى "التجمع الوطني"، وتهميش والدها بسبب تصريحاته العنصرية. كما ركزت لوبان على تقديم الحزب بوصفها مدافعًا عن "المرأة الفرنسية" في وجه ما تصفه بـ"التهديد الثقافي القادم من الهجرة"، في محاولة لجذب الناخبات. تهدف هذه الإستراتيجية في جوهرها إلى كسر "التحالف الجمهوري" الذي كان يعزل الحزب سياسيًّا، وفرضه فاعلًا شرعيًّا ضمن النظام الديمقراطي الفرنسي.
التوجه الفرنسي: تجميل الخطاب لاجتذاب النساء
في فرنسا، تسعى قيادات حزب "التجمع الوطني" إلى استقطاب أصوات النساء من خلال إعادة تشكيل صورة الحزب عبر إستراتيجية "نزع الشيطنة". يُعد الزعيم الشاب جوردان بارديلا مثالًا على هذا التوجه، إذ يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي للتأكيد على دعمه لحقوق المرأة، واعدًا بأن يكون "رئيس وزراء يضمن حقوق وحريات كل امرأة وفتاة في فرنسا". هذا التحول في الخطاب، الذي يشمل دعم قضايا مثل الحماية من العنف والرعاية الصحية، يأتي في إطار حملة انتخابية تهدف إلى توسيع القاعدة الشعبية للحزب. وقد أسفرت هذه الإستراتيجية عن نتائج ملموسة، لا سيما في الانتخابات الأخيرة، حيث ازداد دعم النساء للحزب. كما يرى الباحث توم ثيونز أن نجاح الحزب يعود جزئيًّا إلى هذه الإستراتيجية التي تُقلل من الصفات السلبية المرتبطة به وتُقدمه بديلًا سياسيًّا مقبولًا ضمن الديمقراطية الفرنسية.
النموذج الأمريكي: حقوق على الورق وواقع متناقض
أما في الولايات المتحدة، فتظهر مظاهر "نزع الشيطنة" بطريقة مغايرة، تعكس تناقضًا صارخًا بين الصورة الرسمية والتجربة الواقعية للنساء. فبالرغم من أن الحركة النسوية في الستينيات حققت مكاسب قانونية مهمة، إلا أن فترات لاحقة، خاصة مع صعود رؤساء محافظين مثل جورج بوش الابن، شهدت تراجعًا في وضع المرأة، رغم الخطابات الداعية للمساواة. كشفت دراسة بعنوان: "المرأة الأمريكية... حقوق على الورق" أن النساء ما زلن يُعانين من فجوة في الأجور، وحرمان من الضمانات الاجتماعية، وضعف في التمثيل القيادي. ففي عام 2023، حصلت النساء العاملات بدوام كامل على 83 سنتًا فقط مقابل كل دولار يحصل عليه الرجال. ويُظهر هذا أن التحسينات الشكلية لا تُترجم بالضرورة إلى واقع فعلي، ما يجعل "حقوق المرأة" في كثير من الأحيان أقرب إلى الشعارات منها إلى الممارسة اليومية. يُبرز هذا التناقض أهمية التفريق بين الخطاب السياسي والنوايا الفعلية على الأرض.
رابعًا: وهم "النساء ضد المهاجرين" واستغلال القضايا النسوية في السياسة
تلجأ الجماعات اليمينية المتطرفة إلى إستراتيجية تضليلية لتجنيد النساء، من خلال خلق انطباع زائف بأن "النساء في الغرب ضد المهاجرين". تستغل هذه الجماعات مخاوف النساء—الواقعية منها والمتخيلة—لتغذية الخطاب المعادي للهجرة وكسب تأييد سياسي. تُركّز هذه الإستراتيجية على ثلاثة محاور: استغلال الهشاشة الاقتصادية للنساء ذوات الدخل المنخفض؛ بتصوير المهاجرين منافسين على فرص العمل، ونشر روايات مغلوطة عن العنف الجنسي تربط بينه وبين وجود مهاجرين من خلفيات مسلمة، واستخدام خطاب مزدوج حول حقوق المرأة؛ إذ تُهاجم بعض التقاليد الثقافية مثل الحجاب بدعوى تحرير المرأة، بينما تُعارض في الوقت ذاته المؤسسات الداعمة لها كدُور رعاية الأطفال، كما هو واضح في خطاب حزب "البديل من أجل ألمانيا".
تُنتج هذه الإستراتيجية خطابًا انقساميًّا يُصور "النساء المواطنات" ضحايا محتملات، ويُعزز الدعم الشعبي لليمين المتطرف. ولمواجهة ذلك، من الضروري تفكيك الخطاب التضليلي عبر كشف الحقائق، ومعالجة الأسباب الجذرية للفقر والبطالة، وتبني خطاب نسوي شامل مناهض للتمييز والعنصرية، يضمن حقوق النساء بمختلف خلفياتهن الثقافية.
وفي السياق الأمريكي، تُستغل قضايا المرأة بوصفها أدوات ضمن صراع سياسي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي؛ حيث تُوظف قضايا مثل: الإجهاض، وفجوة الأجور، والعنف ضد المرأة، والتمثيل السياسي، لتحقيق مكاسب انتخابية. كما يُروج الجمهوريون لمواقف محافظة، خاصة بشأن الإجهاض، لكسب دعم القواعد الدينية، بينما يعزز الديمقراطيون خطابًا تقدميًّا يُركز على حماية الحقوق الإنجابية، والمساواة في الأجور، والتصدي للعنف القائم على النوع. أيضًا تُؤثر عوامل مثل: الهوية القومية الأمريكية، وتغطية وسائل الإعلام، والتباينات الداخلية داخل الأحزاب، على كيفية طرح هذه القضايا في الفضاء العام.
يُظهر هذا التحليل كيف تتحول قضايا المرأة من ملفات حقوقية إلى أدوات سياسية؛ لذا، من الضروري التأكيد على ضرورة فصل قضايا المرأة عن المصالح الحزبية الضيقة، والتعامل معها بوصفها قضايا إنسانية تُسهم في بناء مجتمع أكثر عدالة ومساواة.
دور المؤسسات الدولية في تعزيز حقوق المرأة
في ظل العولمة وتداخل قضايا العالم، يزداد دور المؤسسات الدولية أهمية في تعزيز حقوق المرأة على مستوى عالمي. وتسعى هذه المؤسسات، من خلال آلياتها المتنوعة، إلى تحقيق المساواة بين الجنسين، وتمكين المرأة في مختلف المجالات. ويمكن تلخيص أبرز أدوارها في النقاط التالية:
• وضع الأطر القانونية الدولية: حيث تُسهم المؤسسات الدولية بشكل كبير في وضع معايير عالمية لحماية حقوق المرأة من خلال صياغة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية. تُعتبر اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW) من أهم هذه الاتفاقيات، حيث تُحدد إطارًا قانونيًّا شاملًا لحماية حقوق المرأة في مختلف جوانب الحياة. كما تُسهم هذه المؤسسات في تطوير بروتوكولات اختيارية تُعزز آليات تطبيق هذه الاتفاقيات.
• رصد انتهاكات حقوق المرأة وتوثيقها: حيث تقوم هذه المؤسسات بجمع البيانات والمعلومات حول وضع المرأة في مختلف الدول، وتوثيق الانتهاكات التي تتعرض لها، مثل العنف القائم على النوع الاجتماعي والتمييز في العمل والتعليم والصحة. تُنشر هذه التقارير والدراسات لزيادة الوعي العالمي بهذه الانتهاكات والضغط على الحكومات لاتخاذ الإجراءات اللازمة.
• تقديم الدعم المالي والفني: حيث تُقدم المؤسسات الدولية الدعم المالي والفني للدول النامية والمنظمات غير الحكومية لتنفيذ برامج ومشاريع تهدف إلى تمكين المرأة. ويشمل هذا الدعم توفير التمويل لبرامج التعليم والتدريب المهني، والصحة الإنجابية، والمشاريع الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة التي تُديرها النساء. كما تُقدم هذه المؤسسات الخبرات الفنية والاستشارات لتدريب الكوادر المحلية وبناء القدرات المؤسسية.
وهكذا تُسهم المؤسسات الدولية بشكل فعال في تعزيز حقوق المرأة عبر بناء القدرات المؤسسية للحكومات والمنظمات المحلية، ودعم الحركات النسوية ومنظمات المجتمع المدني، إضافة إلى إطلاق حملات توعية، ومراقبة تنفيذ الاتفاقيات الدولية، وتشجيع التعاون والشراكات لتحقيق المساواة بين الجنسين. من أبرز هذه المؤسسات: هيئة الأمم المتحدة للمرأة، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، ولجنة وضع المرأة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، إضافةً إلى الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، رغم التحديات والانتقادات المتعلقة بمحدودية الموارد والتأثيرات السياسية.
كما يضطلع الأزهر الشريف بدور محوري في تعزيز حقوق المرأة من منظور إسلامي وسطي، عبر التأصيل الشرعي لهذه الحقوق، ومكافحة التفسيرات المتطرفة، ودعم الحوار بين الثقافات، وإطلاق حملات توعوية مجتمعية كما عمل الأزهر على تمكين المرأة داخل مؤسساته من خلال تعيين (1300) امرأة في مناصب قيادية، وإنشاء قسم خاص بفتاوى المرأة. وتُظهر هذه الجهود المشتركة، الدولية والمحلية، أهمية العمل المتكامل لتحقيق المساواة وتمكين المرأة على الصعيدين الوطني والعالمي.
في الختام، يتضح أن حماية حقوق المرأة وتعزيز مكانتها في المجتمع مسئولية مشتركة تتطلب تعاونًا بين المؤسسات الدولية والمحلية، الدينية وغيرها؛ فبينما تضع المنظمات الدولية الأطر القانونية والمبادرات الداعمة، تقدم المؤسسات الدينية المعتدلة، كالأزهر الشريف، نموذجًا رائدًا في التأصيل الشرعي لحقوق المرأة ومواجهة التفسيرات المتطرفة. إن تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة ليس مجرد هدف إنساني فحسب، بل هو ركيزة أساسية لبناء مجتمعات أكثر عدلًا وازدهارًا، وهو ما يستدعي استمرار العمل المشترك والجهود المنسقة على جميع المستويات.
وحدة التقارير الدورية