دراسات وتقارير

 

04 يوليه, 2023

حرية المعايير المزدوجة

 

          "الحرية مسؤولية"، "حريتك تنتهي عند حرية الآخر"، "أنت حر ما لم تضر"، وغيرها من العبارات، والجمل التي تعلمناها، وتربينا عليها، وآمنا بها، وكانت دائمًا نصب أعيننا في تعاملنا مع الآخر المختلف عنا ثقافةً، أو دينًا، أو مذهبًا، أو لغةً، أو أي اختلاف آخر نتفق فيه على إنسانيتنا، ونرفض ما يخالف فطرتها السليمة. ولم تكن هذه الجمل، والعبارات مجرد شعارات رنانة نرددها، بل كانت أساسًا في تكويننا الفكري، والديني، والإنساني؛ فالاختلاف بين البشر في فكرنا وعقيدتنا صورة من أشكال قدرة الله التي أوجدها لتتكامل مع بعضها البعض، وتمثل النموذج المصغر للكون الذي خلقه سبحانه في أبهى صوره، وأخرجه في أجمل حلاته ليؤكد على أن الاختلاف سنة كونية.. "اختلاف" لا "خلاف"، وجوده رحمة من رحمات الله سبحانه وتعالى، لا نقمة على عباده الذين هم كلهم "عيال الله".

        وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض الأمم التي تتشدق دائمًا بحمل لواء الدفاع عن الحريات، وإرساء الديمقراطيات، وكفالة الحقوق للإنسان والحيوان، موهمةً الآخرين بأنها منبع الحرية، وملاذ الديمقراطية، تتجاهل كل تلك الشعارات التي طالما رددتها على مسامعنا باعتبارها الوصي الذي جاء ليعلمنا منطقًا تعلمناه منذ قرون. ومنذ وثيقة المدينة التي كفلت لجميع من عاش في كنفها حرية الاعتقاد، والعيش، والأمن، والأمان، والسلام، أي إنها قد كفلت "الاختلاف" و"التنوع".. أمم كانت، ولا تزال على ما يبدو تستفز مشاعر ما يقرب من 25% من سكان العالم، حيث بلغ عدد المسلمين (2 مليار) نسمة من (8 مليار) نسمة، بدعوى حرية الرأي والتعبير، والتي لا نراها _ في الغالب _ تطبق إلا على المسلمين فقط، مما يوحي بأنه مخططٌ مُمنهَجٌ لإثارة مشاعر أمتنا الإسلامية؛ لأغراض تختبئ وراء الكواليس.

        إن هذا الاستفزاز الدائم، والمتكرر لمشاعر المسلمين بالاعتداء على المقدسات، وتدنيسها يحدث بين الحين والآخر بدون مقدمات، أو أسباب جوهرية، حيث يُسمَح لبعض المتطرفين بانتهاك حرمة المقدسات الإسلامية، تارة بالتعرض لخير خلق الله محمد (صلى الله عليه وسلم) وأخرى بحرق نسخ القرآن الكريم على مرأى ومسمع من سلطات دولٍ لا تجرؤ على قبول ما يحدث مع الإسلام، ومقدساته مع غيره من الأديان، أو حتى التنظيمات التي خرجت عن الطبيعة الإنسانية، وتحاول مسخ فطرتها السليمة لصالح سلوكيات شاذة..

وهنا لابد من طرح تساؤلٍ مشروعٍ: هل ستسمح هذه السلطات بحرق علم الشواذ كما حدث مع القرآن الكريم؟ والسؤال هنا ليس سؤالًا استفهاميًّا، ولا يهدف على الإطلاق لوضع القرآن الكريم في كفةٍ أمام راية، ورمز الانحراف السلوكي، والتمرد على الفطرة السليمة، حاشاه القرآن الكريم، بل هو سؤالٌ استنكاريٌّ في محاولة لتوضيح الصورة أمام العقلاء منهم، أو ممن قد ينخدع في تلك الشعارات، والتي لا تُطبَّق إلا على فئات أو أديان بعينها. وثمَّة تساؤلٌ آخرَ: هل ما يحدث مع مقدسات المسلمين يمكن أن يتكرر مع رموز كيانات أخرى تزعم أنها قائمةً على أساسٍ ديني؟! بالطبع لا، وبالتالي نحن أمام حالة واضحةٍ وصريحةٍ مما يمكن تصنيفه تحت بند "ازدواجية المعايير".

        إن هذا التطرف الذي يؤذي مشاعر المسلمين يتكرر بشكل دائمٍ، وفي كل مرة يكون السبب مختلفًا، تارة بدعوى كفالة حرية الرأي، وأخرى بزعم الرد على التنظيمات الراديكالية المنتسبة زورًا للإسلام، والتي تطعن في المسلمين قبل غيرهم، وتستهدفهم قبل غيرهم..

إن ما يحدث بحق المسلمين في بعض دول الحريات المزعومة، وبشكل متكرر يجعلنا نطرح عددًا من التساؤلات منها: هل ما حدث مؤخرًا من حرق للمصحف الشريف موجه للداخل الغربي؛ بهدف شغله، وإبعاد أنظاره عن الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال في عدد من الدول الغربية، والتي تسعي لنزع براءتهم، وتشويه فطرتهم بالمناهج الشاذة التي فُرضت عليهم، وبسببها ثار عددٌ من الآباء، والأمهات في الغرب خوفًا على فطرة أطفالهم السليمة!! أم أنه موجه للداخل العربي والإسلامي _ وهو التساؤلُ الأخطر _ خاصةً وأن مرتكب هذا الانتهاك من أصولٍ عربية! أم هي محاولة متعمدة لاستدعاء وحشيةِ داعشَ وأمثاله لأهدافٍ أخرى؟!

         ولابد من التأكيد على أمرين؛ الأول: أن مثل هذه الممارسات لن تنال من القرآن الكريم المنزه عن كل نقص، أو دنس، أو تقلل منه، ومن كونه كتاب الله الكريم المطهَّر، الذي تعهد الخالق – جل وعلا - بحفظه إلى يوم الدين، بل هي ممارسةٌ بغيضةٌ، تقلل من شأن صاحبها ومَن يسانده للقيام بها، ومَن يسمح له بالإقدام عليها. والثاني: أن ما حدث لا يمكن أن يكون  حريةَ رأيٍ بحال من الأحوال، بل هو تطرفٌ مُتعمَّدٌ ومُوجَّه، وإرهابٌ معنويٌّ قد يسهم في حدوث الشقاق، وظهور الخلافات، ومِن ثَمَّ تدميرُ النسيج الوطني للمجتمعات، وزرعُ روح الفتن، وانعدام الثقة، والشعور بالغربة وعدم الانتماء، كذلك ظهور التطرف المضاد، والذي قد تنزلق معه المجتمعات لبحور من الفوضى، وعدم الاستقرار.

وشتَّان بين دعواتٍ، وممارساتٍ، وأنظمةٍ ترعى الاندماج، وتحترم التنوع والاختلاف، وتستثمره لصالحها، فتجني من وراء ذلك التقدم، والرقي، والاحترام بين الأمم والشعوب، وبين أخرى ترعى الكراهية، والتمييز، والعنصرية، وتطلق العنان للغوغاء، يمارسون حقدهم، وبُغضَهم، فيصبحون معاولَ هدمٍ، وأدوات تخريب، لا لمجتمعاتهم فحسب، بل للعالم أجمع، ولعل المتتبع لمثل هذه الحوادث لا يجد صعوبةً في أن يدرك أن مثل هذه الممارسات الإجرامية المستفزة لمشاعر كل ذي عقل، وفطرة سليمة، بصرف النظر عن انتمائه، لا يُرجَى من ورائها إلا عنفٌ، واحتقانٌ، وتوترٌ، وتهديدٌ للسلام العالمي، في وقتٍ العالَمُ فيه أحوجُ إلى التخلص من الصراعات، والنزاعات بكافة أشكالها، ودوافعها.

وحدة البحوث والدراسات


رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.