دراسات وتقارير

 

21 نوفمبر, 2024

الشذوذ الجنسي.. اضطراب أم تنوّع

 

في خضم الصراعات الفكرية والتغيرات المجتمعية التي تفرض نفسها على العالم اليوم، أصبح موضوع الشذوذ الجنسي مادة دسمة للنقاشات، ومثارًا للتنازعات الفكرية بين من يعتبره جزءًا طبيعيًّا من تنوع البشرية، ومن يرى أنه اضطرابٌ جنسيٌ مخالفٌ للفطرة الإنسانية، فبينما يسعى أنصار وجهة النظر الأولى إلى محاولة إلباس الشذوذ الجنسي ثوب "الفطرة" في تضليل لحقيقة بيولوجية ونفسية واضحة، فالفطرة التي جُبل عليها الإنسان تسير نحو التكامل الطبيعي بين الجنسين لضمان استمرارية الحياة، يبذل أنصار وجهة النظر الثانية جهودًا كبيرة لإقناع أصحاب هذا الفكر أن فكرة الشذوذ ما هي إلا انحراف عن الفطرة وخروج عن الطبيعة الإنسانية متسلحين في ذلك بسلاح العقل والدين وما جرت عليه الأعراف المجتمعية، قبل أن تغزوها مثل هذه الأفكار المنحرفة. وبين هذا وذاك يحتاج الإنسان إلى بيان وإيضاح يدعم اتجاهه وميله وترجيحه لإحدى النظرتين على الأخرى، وفي سبيل هذا لا بد من التعرّف أولًا على الفطرة وموقع الشذوذ منها.

الفطرة: مفهومها ودورها في التوجهات الجنسية

الفطرة هي الأساس الطبيعي الذي يُولد به الإنسان، وتشمل الغرائز والميول التي تُعدّ طبيعية في إطار النمو البيولوجي والنفسي السليم، ومن وجهة نظر الأديان والعلوم النفسية والاجتماعية، إذ الفطرة هي التي تدفع الإنسان إلى السلوكيات التي تضمن استمرارية النوع البشري، بما في ذلك الميل إلى الجنس الآخر والزواج والتكاثر، وفي هذا يشير الإسلام إلى الفطرة السليمة بأنها هي التي تحث على الميل الجنسي الطبيعي بين الرجل والمرأة. والمسار الشرعي له من خلال الزواج الصحيح.

من ناحية أخرى، تشير العلوم النفسية إلى أن الإنسان يولد بطاقة فطرية جنسية موجهة نحو الجنس الآخر، ويعتبر هذا التوجه جزءًا من منظومة التطور البيولوجي الطبيعي، فالميل الجنسي نحو الجنس الآخر يضمن استمرارية النوع البشري من خلال التكاثر والتزاوج.

الشذوذ الجنسي: اضطراب أم تنوّع؟

رغم أن البعض قد يروج لفكرة أن الشذوذ الجنسي هو جزء من التنوع البشري الطبيعي، ولكن في الحقيقة يجب إرجاعه إلى الاضطرابات الجنسية والنفسية، فالشذوذ الجنسي يرتبط بعوامل عدة مثل الصدمات النفسية في مرحلة الطفولة، أو التأثيرات البيئية والاجتماعية، أو تجارب التعرّض لاعتداء الجنسي، أو ضعف الهوية الجنسية التي تتشكل بشكل غير سليم خلال مدة النمو.

ويعترف علم النفس بوجود اضطرابات جنسية متعددة، مثل اضطراب الهوية الجنسية، واضطراب التوجه الجنسي، وهنا يأتي الشذوذ الجنسي ضمن هذه الفئة من الاضطرابات، وتشير الأبحاث إلى أن العديد من الأفراد الذين ينخرطون في الشذوذ الجنسي يواجهون صعوبات نفسية، مثل الاكتئاب، والقلق، واضطرابات الهوية، وهو ما يشير إلى أن هذا الشذوذ الجنسي ليس جزءًا طبيعيًّا من الفطرة البشرية، بل نتيجة لاضطرابات أو عوامل خارجية.

العوامل النفسية والاجتماعية المؤثرة في الشذوذ الجنسي:

يتشكل السلوك الجنسي من خلال مزيج معقد من العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية، فالعوامل النفسية مثل الصدمات، أو غياب الأبوين، أو التربية غير السليمة قد تسهم في اضطراب الشذوذ الجنسي، إضافة إلى ذلك، هناك تأثيرات اجتماعية وثقافية قوية قد تعزز أو تضعف بعض السلوكيات الجنسية؛ حيث تظهر السلوكيات الجنسية الشاذة في بعض الأحيان نتيجة لخلل في النضوج النفسي أو الجنسي للفرد، كما أن بعض الأطفال الذين يتعرضون لمواقف صادمة أو يتلقون تربية غير متوازنة قد يجدون صعوبة في تشكيل هويتهم الجنسية بطريقة سليمة، ما يدفعهم إلى تبني سلوكيات جنسية شاذة.

منابع تغذي الشذوذ الجنسي

  1. التغيرات الثقافية والاجتماعية: حيث شهدت المجتمعات تغيرًا جذريًّا في القيم المتعلقة بالحريات الشخصية والحقوق الفردية، وظهرت حركات تدافع عن الحقوق الجنسية جزءًا من حقوق الإنسان، ما أتاح مساحة أكبر للتعبير عن الهوية الجنسية غير التقليدية، بما في ذلك الشذوذ الجنسي
  2. الترويج الإعلامي والسينمائي: فالإعلام يلعب دورًا كبيرًا في تطبيع الشذوذ الجنسي عبر تقديمه بصورة إيجابية أو عادية في الأفلام، المسلسلات، فبعض البرامج التلفزيونية والأفلام تقدم شخصيات من الشواذ جنسيًّا بصورة جذابة ومحبوبة، مما يسهم في تغيير نظرة المجتمع تجاههم، بل إن هذا الترويج المسموم للشذوذ الجنسي استهدف جميع الفئات في المجتمع بما في ذلك الأطفال من خلال المحتويات المقدمة لهم.
  3.  منصات التواصل الاجتماعي: حيث ازدادت الحملات التي تدافع عن حقوق الشواذ، والتي تحاول تصوير الشذوذ الجنسي على أنه جزء من "التنوع الطبيعي" للبشر، هذه الحملات تستهدف الشباب والمراهقين بشكل خاص، وتروج لفكرة أن الهوية الجنسية يمكن أن تكون مرنة وغير ثابتة.
  4. القوانين والسياسات الداعمة في العديد من الدول الغربية؛ حيث تم إقرار قوانين تعترف بحقوق الشواذ، بما في ذلك الحق في الزواج، هذه التشريعات تُعد انتصارًا قانونيًّا لهم، وتعزز من وجودهم في المجال العام وتسهم في نشر دعواتهم بشكل أوسع.

كيفية الوقاية والحد من الشذوذ الجنسي:

الوقاية والحد من الشذوذ الجنسي تتطلب اتباع نهج شامل يجمع بين التربية السليمة، والدعم النفسي، والتوعية المجتمعية ويمكن عرضها من خلال النقاط التالية:

  1.  التربية السليمة فالتربية السليمة تبدأ من المنزل من خلال توجيه الأطفال منذ الصغر نحو تعرّف هويتهم الجنسية الطبيعية، والحوار المفتوح حول الثقافة الجنسية، وتطوير علاقة صحية مع الجسم والجنس الآخر، بما يعزز الفطرة الطبيعية، كما يجب أن يغرس الأهل والمربين قيم الأخلاق والعفة، وتعليم الأطفال أهمية الروابط الأسرية الصحيحة والمبنية على الزواج بين الرجل والمرأة.
  2.  التوعية الجنسية المبكرة: من المهم تقديم تثقيف جنسي يتناسب مع الأعمار المختلفة، يركز على بيان أهمية العلاقات الطبيعية، ويشرح بشكل علمي وسليم العواقب النفسية والاجتماعية لأية سلوكيات جنسية غير طبيعية تخالف الفطرة الانسانية.
  3.  الدعم النفسي والتربوي، فالاضطرابات النفسية التي قد يواجهها الفرد في الطفولة أو المراهقة، مثل: الاكتئاب، أو القلق، أو الصدمات، والتي قد تؤثر على تطور الهوية الجنسية، والتدخل النفسي المبكر، بما يمكن أن يمنع تطور هذه الاضطرابات وتحولها إلى سلوكيات جنسية غير طبيعية، فالأطفال الذين ينمون بثقة في هويتهم وقدراتهم هم الأقل عرضة للتأثر بالضغوط الخارجية التي قد تدفعهم إلى الشذوذ أو الاضطرابات الجنسية.
  4. الإشراف على المحتوى الإعلامي والتقني المقدّم للمجتمع وخاصة النشء والمراهقين بهدف الحد من التعرض للمحتويات الضارة بما في ذلك الأفلام والبرامج التلفزيونية والمواقع الإلكترونية، والتي تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل وعي الشباب حول العلاقات الجنسية، فالإشراف على المحتوى والتوجيه نحو مصادر تثقيفية سليمة يحمي النشء والشباب من التبني غير الواعي للسلوكيات الشاذة، فيجب أن يكون للأهل دور في مراقبة استخدام أبنائهم للإنترنت، خاصة مواقع التواصل الاجتماعي، لمنع التعرض لأي محتوى غير مناسب قد يؤثر على توجهاتهم.
  5. التدخل العلاجي المبكر من خلال العلاج النفسي ففي حال ظهور علامات على توجهات جنسية غير طبيعية (الشذوذ الجنسي)، من المهم تقديم الدعم النفسي والعلاج السلوكي في وقت مبكر. ويعدّ العلاج السلوكي المعرفي من أهم الأساليب العلاجية التي تسهم في تعديل الأفكار والسلوكيات الجنسية غير السوية، ودعم الأسر في فهم كيفية التعامل مع أي اضطراب جنسي يظهر عند أحد أفرادها وتوفير الوقاية من تطوره، كما يجب على الأهل طلب المشورة من مختصين في حال ملاحظة سلوكيات جنسية غير طبيعية على الأبناء.

وختامًا، فإن الشذوذ لا يرتبط بالفطرة أو الطبيعة أو التكوين الفطري في الإنسان كما يزعم البعض، بل هو اضطراب نفسي وجنسي يُولد من عمق معاناة أو تشوه في النمو العاطفي والنفسي للفرد، وحين نعود إلى الجذور العلمية والنفسية لهذا السلوك، نجد أن الشذوذ الجنسي لا يصدر إلا عن أشخاص مذبذبين في هويتهم، مضطربين في مشاعرهم، لا يعتنقون إيمانًا صحيحًا، ولا يتبعون فكرًا قويمًا، إنما هم أشخاص ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أوراق شجر في فصل الخريف تعصف بهم الرياح يمينًا ويسارًا ويتجهون إلى كل ما هو غريب غير مألوف، بدافع التجريب أو التمرّد على الطبيعة أو إشباع رغبات شيطانية تأباها النفوس السوية وترفضها الشرائع كافة.

    وحدة البحوث والدراسات

المصادر:

- الاضطرابات الجنسية بين الطب والدين، دكتور محمد المهدي، دار أجيال للنشر والتوزيع، 2016.

- المثلية الجنسية بين الإسلام والعلمانية، أحمد طه، مدونة أمتي، الطبعة الأولى 2021.

- مسببات الشذوذ الجنسي، دراسة حالة، د. حكمت سفيان، 2022.

- الشذوذ الجنسي -أسبابه -أمراضه -أشهر الجرائم الجنسية، خليل كنش البدوي، دار علاء الدين للنشر، 2006.

- بحث بعنوان: المثلية الجنسية وموقف الإسلام منها، يعرب قحطان محمود العزاوي، منشور بجامعة بغداد، 2022.