في زمن تتسارع فيه وتيرة التحديات الفكرية والاجتماعية التي تواجه الشباب، جاء منتدى: "اسمع واتكلم" في نسخته الرابعة، المنعقد في مايو 2025م، ليؤكد مجددًا أن الأزهر الشريف لا يزال قلبًا نابضًا بحيوية الأمة وروحها، ومظلة جامعة لكل مبادرات دعم الفكر المستنير، والمواجهة الواعية للتطرف والتضليل الإعلامي، بما يعزز قيم المواطنة والانتماء والعمل التطوعي بين الشباب.
وقام مرصد الأزهر لمكافحة التطرف بمجهود كبير ليخرج هذا الحفل في هذه الصورة المشرفة للمؤسسة الأزهرية ولمنتسبيها، وقد أثبت المرصد في منتدى: "اسمع واتكلم" أنه لا يكتفي بمراقبة الخطاب المتطرف، بل يسعى لتفكيكه من خلال أدوات حوارية وعملية، تُشرك الشباب لا بوصفهم مستهدفين فقط، بل كونهم صنَّاعًا للتغيير وأصحاب رسالة. ومن خلال منصاته المختلفة، بات المرصد مركزًا لإنتاج الخطاب البديل؛ خطاب يستند إلى العقل، والقيم، والحقائق، ويواجه دعاوى التشدد والانقسام بخطاب علمي وإنساني جامع.
وانعقد المنتدى برعاية كريمة من فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، وبدعم من فضيلة وكيل الأزهر الأستاذ الدكتور محمد عبد الرحمن الضويني، في خطوة تعبِّر عن مدى إدراك المؤسسة الأزهرية لأهمية تمكين الشباب من أدوات العصر، ومجابهة ما يُحاك ضدهم من حملات استهداف فكري وثقافي. وهذا الدعم يعكس التوجه الإستراتيجي للأزهر في أن يكون منبرًا حقيقيًّا لصوت الشباب، ووسيطًا بين الوعي الديني المستنير والتحولات الرقمية والاجتماعية المتسارعة.
وجاءت الجلسة الافتتاحية للمنتدى بمشاركة رفيعة المستوى، ضمت كلًّا من وكيل الأزهر الشريف، والدكتورة رهام سلامة، المدير التنفيذي لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف، ووزير التربية والتعليم، ووزير الشباب والرياضة ممثَّلًا عنه مساعده. وقد عكست الكلمات أهمية المنتدى كونه منصة حوارية وواقعية تعيد صياغة العلاقة بين الشباب ومؤسساتهم، وتؤكد ضرورة إفساح المجال لهم في القضايا المحورية التي تواجه الأمة، وفي مقدمتها مواجهة التطرف، والعمل المدني، ونصرة القضية الفلسطينية في الفضاء الرقمي.
تناولت الجلسة الأولى، التي أدارها الإعلامي محمد سعيد محفوظ، موضوع "العمل الأهلي المدني والتطوعي ودوره في سد الفجوة المجتمعية ومكافحة التطرف". وقد جمع هذا المحور نخبة من القيادات الفاعلة، من بينهم المستشار محمود فوزي، وزير الشؤون النيابية والقانونية والتواصل السياسي، والسفيرة نبيلة مكرم، رئيس الأمانة الفنية للتحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي، والدكتورة آمال إمام، المدير التنفيذي لجمعية الهلال الأحمر المصري الذين أكدوا جميعًا على أن الشخصية المصرية بطبيعتها ميَّالة إلى العمل التطوعي، وأن هذا العمل ليس ترفًا اجتماعيًّا، بل ضرورة إستراتيجية لمواجهة التهميش، والانقسام، والتطرف.
وقد برز في النقاش دور الأسرة والمدرسة والجامعة بوصفها محاضن أولى لغرس قيم التضامن والانخراط المجتمعي. فالعمل الأهلي لا يقتصر على تقديم الخدمات، بل يتعداه إلى بناء وعي جمعي متماسك يعزز مناعة المجتمع ضد الفكر المتطرف. ولعل الأهم أن هذا النوع من العمل يعيد للشباب الإحساس بالجدوى والانتماء، ويمنحهم أدوات التأثير والتغيير الإيجابي.
أما الجلسة الثانية، التي أدارها الإعلامي نشأت الديهي، فقد حملت عنوانًا بالغ الأهمية: "الشباب ودوره في نشر الوعي بالقضية الفلسطينية في عصر الإعلام الرقمي"، وقد جمعت بين رؤى كل من الأستاذ ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، والدكتور محمد كمال، مدير معهد البحوث والدراسات العربية، واللواء الدكتور محمد إبراهيم الدويري، نائب المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية، الذين شددوا على أهمية الوعي النقدي، والقدرة على الفرز في مواجهة الكم الهائل من الأكاذيب والشائعات التي تستهدف القضية الفلسطينية وتشوِّه صورتها في أذهان الأجيال الجديدة.
وقد تميَّزت هذه الجلسة بإعادة توجيه بوصلة النقاش الإعلامي العربي؛ حيث لم تكتف بتشخيص الانحياز الإعلامي الغربي، بل دعت إلى إطلاق مبادرات إعلامية شبابية بديلة، تستخدم أدوات العصر ذاتها، ولكن بمنظور إنساني وأخلاقي يعكس الرواية الفلسطينية الحقيقية. وهنا تجلى دور مرصد الأزهر كونه حاضنة للمبادرات الشبابية في هذا الصدد، وخاصة إعلانه عن تدشين منصة إحياء لتكون نواة لمنصات جديدة للتواصل مع الشباب.
توصيات المنتدى: رؤى عملية لمستقبل فاعل
لم تكن الجلسات مجرد منابر للخطابة، بل خرجت بتوصيات عملية يمكن البناء عليها في السياسات العامة ومبادرات المجتمع المدني. وقد توزعت التوصيات على ثلاثة محاور رئيسة:
- تعزيز دور الشباب في العمل الأهلي والمجتمعي، من خلال إطلاق برامج تدريبية في القيادة والتفكير النقدي، ودعم المبادرات الشبابية ماديًّا وتقنيًّا، وبناء شراكات بين المؤسسات التعليمية والمنظمات المدنية لتكريس مفاهيم المواطنة الفاعلة.
- نصرة القضية الفلسطينية في المناهج والإعلام، من خلال دمج القضية الفلسطينية في المناهج التعليمية مع البعد التاريخي والحقوقي والشرعي، ودعم الإعلام الشبابي المسؤول عبر إنشاء صندوق مستقل، وإطلاق حملات رقمية موجهة للمجتمع الدولي، يقودها شباب مدرب على التواصل الرقمي المؤثر.
- تطوير الإعلام الرقمي أداةَ مقاومة، من خلال تنظيم ورش تدريبية حول الإعلام الرقمي ومواجهة خطاب الكراهية، وإطلاق حقيبة تدريبية من مرصد الأزهر لتفكيك الفكر المتطرف، وتوفير منصات رقمية دائمة لعرض أفكار الشباب وإبداعاتهم.
مرصد الأزهر: من رصد الفكر إلى قيادة التغيير
لا شك أن منتدى "اسمع واتكلم" قد تجاوز مرحلة "الاستماع" بوصفه فعلًا سلبيًّا يُتلقَّى، إلى "التمكين" ليكون فعلًا إيجابيًّا يَصنع ويُوجِّه ويُبادر. لقد تحوَّل المنتدى من مجرد مساحة للنقاش أو فضاء للتعبير إلى منصة إستراتيجية تُعيد صياغة العلاقة بين الشباب والمرجعية الدينية الأزهرية، في زمن أحوج ما نكون فيه إلى استعادة الثقة بين الأجيال وبين المؤسسات. وفي هذا السياق، لم يقتصر المنتدى على مناقشة قضايا عامة، بل انطلق من سؤال جوهري: كيف يمكن للمرجعية أن تُصغي بعمق، ثم تُمكِّن، ثم تُرافق، لا أن تكتفي بالإرشاد من أعلى؟
لقد نجح "اسمع واتكلم" في تأسيس معادلة جديدة: الدين والعقل والشباب في حوار تكاملي، لا تنافري. فالمرجعية الأزهرية، بثقلها التاريخي والعلمي، لم تعد مجرد سلطة معرفية عُليا، بل باتت في المنتدى شريكًا في صناعة الوعي، ومستمعًا صادقًا، وميسرًا أمينًا للطموحات الشبابية. وفي المقابل، لم يعد الشباب مجرد متلقٍّ أو متفاعلٍ سلبي، بل صاحب صوتٍ ورسالةٍ ودورٍ محوري في البناء الاجتماعي والديني معًا.
وقد أعاد المنتدى الاعتبار لفكرة: "الفكر المستنير" الذي يجمع بين الثوابت والوعي النقدي، بين الانتماء والاختلاف، بين النص والواقع، كما أرسى قيم العمل التطوعي لا كفعل خيري عابر، بل مسارًا تربويًّا مستمرًّا يُعيد تشكيل الذات والهوية، ويُربِّي على المسؤولية الجماعية في زمن الفردانية والانعزال.
أما القضية الفلسطينية، فقد خرجت في المنتدى من حيز "التضامن العاطفي" إلى مستوى أعلى من الإدراك الإستراتيجي، الذي يربطها بهوية الأمة ومركزية العدالة في الضمير الديني والإنساني.
وإذا كانت النسخة الرابعة قد رسَّخت هذا النهج، فإن التحدي الأكبر الآن يتمثل في الخروج من طور التوصيات إلى تنفيذ هذه الرؤية؛ أي تحويلها إلى سياسات شبابية متكاملة، وبرامج دائمة قابلة للقياس والتطوير، وشبكات تشبيك فاعلة بين الأزهر، والجامعات، والمنظمات الأهلية، ومنظمات المجتمع المدني، والمنصات الرقمية. التحدي ليس في الحفاظ على الزخم، بل في تحويله إلى بنية تحتية فكرية وتنظيمية تُمكِّن الأجيال المقبلة من الاستمرار في هذا المسار.
فالشباب اليوم، في ظل التحولات المتسارعة، لم يعودوا ينتظرون الأجوبة الجاهزة، بل يسعون إلى أن يكونوا شركاء في صياغة الأسئلة نفسها. ومنتدى: "اسمع واتكلم" يُدرك ذلك بذكاء، ويستثمر فيه، لأنه لا ينظر إلى الشباب بوصفهم "مستقبلًا" غامضًا مؤجلًا، بل باعتبارهم "الحاضر" الذي يُعيد تشكيل الخريطة القيمية والمعرفية للأمة. هم ليسوا ملحقًا بالرؤية المؤسسية، بل بؤرتها الحية ومحرِّكها الأصيل.
ومن هنا، يمكن القول: إن المنتدى بات يمثل تجربة معرفية ومجتمعية متميزة، تجربة تدمج بين الدين والواقع، بين الاجتهاد والتواصل، بين الإنصات والفعل. إنها تجربة تؤبِّد الثقة في قدرة المؤسسات الدينية على أن تتجدد من داخلها، وتكون صوت العقل والضمير في عالم مضطرب. "اسمع واتكلم" ليس مجرد شعار، بل هو نداء وجودي لإنسان يريد أن يسمع... ليعي، ويتكلم... ليبني.
وحدة رصد اللغة الإسبانية