دراسات وتقارير

 

27 مايو, 2025

سلسلة قراءة في كتاب (7)

الطريق إلى مكة .. مراد هوفمان

الكتاب: الطريق إلى مكة

تأليف: الدكتور مراد فلفريد هوفمان – سفير ألمانيا بالرباط

الطبعة الأولى: 1419هـ، 1998م.

Image

نبذة عن المؤلف

الدكتور/ مراد ويلفريد هوفمان (بالألمانية: Murad Wilfried Hofmann )1931- 2020)، كان محاميًا ودبلوماسيًّا وكاتبًا ألمانيًّا. اعتنق الإسلام عام 1980م. وقام بتأليف العديد من الكتب عن الإسلام، ومن بينها: (يوميات ألماني مسلم، والإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود، والإسلام عام ألفين، والإسلام كبديل، والكتاب الذي بين أيدينا وغيرها من المؤلفات)، وقد تركزت العديد من كتبه ومقالاته على وضع الإسلام في الغرب، كما أنه أحد الموقعين على مبادرة: "كلمة سواء"، وهي رسالة مفتوحة لعلماء المسلمين وللقادة المسيحيين، تدعو إلى السلام والتفاهم. توفي د/ مراد هوفمان في مدينة (بون، بألمانيا يوم الإثنين 13 يناير 2020م، عن عمر ناهز 89 عامًا) رحمه الله رحمة واسعة، بما قدم للإسلام والمسلمين.

بين يدي الكتاب:

كتاب "الطريق إلى مكة" للبروفيسور مراد هوفمان هو سيرة ذاتية وفكرية مميزة، يروي فيها المؤلف رحلته من الكاثوليكية إلى الإسلام، مسلِّطًا الضوء على التحولات الفكرية والروحية التي قادته إلى اعتناق الإسلام.

كما يعد هذا الكتاب شهادةً غربية منصفة لعالم كبير من علماء ألمانيا، تساعد في إدراك القوة الدافعة التي يستمدها المسلم من دينه، وكيف تستطيع هذه القوة أن تسمو به، والأفق الرفيع الذي يمكن أن يصل إليه العالم الإسلامي عند تمسكه بهذا الدين في حياته اليومية.

يذكر المؤلف في الفصل الأول شعور المسلم في أثناء رحلة الحج من أخلاق رفيعة عالية على رأسها (السِّلم المطلق)، ويقصد به مسالمة الإنسان والحيوان والنبات، كما يبين مدى ما يشعر به المسلم حين يقف أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة موطن هجرته وملاذه بعد الفرار من اضطهاد المشركين، وفيها أصبح الإسلام دينًا ودولة، وفيها وضع النبي صلى الله عليه وسلم أول دستور مكتوب يحقق اتحادًا بين المسلمين من مهاجرين وأنصار، وعهدًا بين المسلمين واليهود، وفيها أكمل النبي صلى الله عليه وسلم رسالته الخاتمة، وفيها توفي.

يقف المسلم أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم احترامًا وإجلالًا وتوقيرًا حين يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم هنا أقام وهنا خطط وعمل ووعظ وأحب وعانى سكرات الموت أيضًا.

ويذكر الدكتور هوفمان أن الحُجاج يلبسون لبس الإحرام، والذي يرسخ مبدأ المساواة بين أغنيائهم وفقرائهم، وأقويائهم وضعفائهم، كبيرهم وصغيرهم، ولما كانت ملابس الإحرام خالية من النقوش أو الخياطات، فلا يمكن لأحد أن يتميز عن آخر ولو بمجرد الخياطة، ولا ترمز ملابس الإحرام فقط إلى تساوي البشر أمام الله، وإنما ترمز أيضًا إلى مشهد البعث يوم القيامة.

يقول د/مراد هوفمان: "فلقد كنا نبدو ونحن نقطع صالة المطار جيئة وذهابًا كمن قام من الموت ولا يزال يرتدي كفنه. بل إن كثيرًا من الحجاج يحتفظون بالفعل بملابس إحرامهم كأكفان لهم".

 أما الكعبة فهي صورة معمارية لكمال الله تعالى في أبسط تصوير، بعيدًا عن التعقيد الذي قد يبدو في الفنون المعمارية الأخرى، وهي تُكسى بمخمل أسود مطرز بآيات من القرآن الكريم بخيوط من الذهب، ويجري تغيير الكسوة سنويًّا، وتتوفر مجموعة من المطرزين طوال العام على إعداد الكسوة في ثوب فني جميل، وفيما سلف من الزمان، كانت كسوة الكعبة تأتي من القاهرة هدية من الخديوي، وترفع الكسوة عن الكعبة في أثناء مدة الحج، حتى لا يتصور أحد أن بيت الله تعالى تحفة فنية، أو يراد له أن يكون تحفة فنية.

ثم يرى الدكتور هوفمان أن اهتمام المسلمين بالحجر الأسود يرجع إلى أسباب تاريخية. فلقد تعرضت الكعبة مرارًا لأعاصير، ومن رأى الوديان الجافة في شمال إفريقيا والشرق الأدنى وهي تجرف في طريقها كل شيء، لا يندهش من ذلك، وفي أثناء ذلك كان الحجر الأسود الذي لا ينفع ولا يضر هو الأثر الوحيد الباقي من فترة ما قبل الإسلام، وهو بإيجاز أقدم أجزاء الكعبة، ناهيك عن أن النبي صلى الله عليه وسلم شخصيًّا هو الذي وضعه حيث هو اليوم؛ فعند بناء الكعبة تنازع أشراف مكة شرف وضع الحجر الأسود في موضعه القديم، وقام النبي صلى الله عليه وسلم بحل نزاعهم عندما اقترح وضع الحجر الأسود في ثوب يمسك بأطرافه جميع أشراف مكة لرفعه ليقوم هو –الحكم المحايد- بوضعه حيث هو الآن. ولذلك فإن من يلمس هذا الحجر يتصل اتصالًا ماديًّا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وينضم مثل ملايين سبقوه في سلسلة متواصلة.

والمؤلف بهذا يسلط الضوء على الجانب الإنساني العميق في فريضة الحج، حيث يختفي التمييز الطبقي والعرقي، ويشعر الإنسان بتجرده الكامل أمام الله، وهو ما رآه قمة التجربة الدينية الصادقة.

ثم يتطرَّق الدكتور هوفمان للحديث عن عظمة الإسلام في دعوته إلى التفكير والإيمان بالله الواحد، فيقول: "إن من ينكر أن عيسى عليه السلام رسول من عند الله ليس بمسلم، وأن الإسلام لا يقبل التقليد الأعمى، وأنه ليس هناك إنسان معفي من التفكير، وهناك تفسير مبتكر وغير تقليدي لقول الله تعالى: "نور على نور" في آية سورة النور {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ([1])  فالمعنى المراد -حسب هذا التفسير- هو أن النور الجديد الذي أتت به الرسالة يكمل نور العقل الذي كان موجودًا قبل مجيئها ويزيده إشعاعًا"

ثم يعبر هوفمان بعد كل هذا عن دهشته من أن الإسلام، بخلاف ما يُشاع في الغرب، لا يتطلب "إيمانًا أعمى"، بل يدعو إلى استعمال العقل؛ فالتوحيد، والعبادة، والأخلاق في الإسلام كلها مبنية على منطق واضح، وليس على أسرار لاهوتية يصعب تفسيرها. فيقول: "لم أجد في الإسلام ما يتعارض مع العقل، بل وجدت أن الإيمان في الإسلام يستند إلى التفكير والتأمل".

وقد بدا على هوفمان التأثر الواضح بالصلاة في الإسلام، وأنه وجد فيها توازنًا بين الجسد والروح، بين الشكل والمضمون، وجعل منها مصدرًا للسكينة، على عكس بعض الطقوس الجامدة التي عرفها في صغره، فيقول "رأيت في الصلاة الإسلامية نظامًا يربط الإنسان بخالقه خمس مرات في اليوم... إنها ليست طقسًا، بل تجديد روحي مستمر".

ثم اختتم البروفيسور مراد هوفمان كتابه: الطريق إلى مكة بتأكيده أن الإسلام ليس مجرد طقوس، بل منهج شامل للحياة، يوجه الفرد نحو الخير، والعدل، والسكينة، فيقول: "الإسلام هو الدين الوحيد الذي استطاع أن يجمع بين الروح والقانون، بين الفرد والمجتمع".

وبهذا ندرك أن الإسلام لا يكتفي بالوعظ الروحي، بل يقدم نظامًا متكاملًا للحياة، وأن القيم فيه ليست نظرية فقط، بل قابلة للتطبيق في السلوك اليومي، والاقتصاد، والعلاقات، والسياسة.

ونحن في مرصد الأزهر لمكافحة التطرف إذ نقدم هذا الطرح العلمي المفيد نؤكد على أن هذا الكتاب ليس مجرد قصة اعتناق الإسلام، بل هو شهادة عقل وروح بحثا عن الحقيقة، ووجداها في نور الإسلام. وأن الكتاب دعوة للتأمل، والحوار، وتجاوز الصور النمطية عن الآخر؛ بل دعوة إلى الحوار الحضاري والتفاهم بين الأديان والثقافات، وأن الإسلام لا يمثل تهديدًا، بل فرصة للتجديد الروحي في الغرب، وأن رحلة الحج نموذج عملي لتطهير النفس وتخليصها من شوائب الدنيا، والدخول فيما يمكن تشبيهه بالخلوة الروحية التي تصفو بها النفس، وتتزكى بها الروح.

كما نؤكد من خلال ما سطرته يد العالم الدبلوماسي الكريم، الدكتور مراد هوفمان، حول الإسلام، ومبادئه وأهم قضاياه -أن الإسلام دين عقل وروح وقلب، ونظام عالمي وسلم مجتمعي، وحفاظ على البيئة والعالم، وأن الإسلام دين يصلح لكل زمان ومكان، وأن العالم كله ينبغي عليه أن يفطن إلى أن نجاته الحقيقة، وضمان استمرار حضارته وتقدم علومه مرهون باعترافه بالإسلام،  وباقتران التعاليم الإسلامية بما حققته الإنسانية من تقدم، وما عدا ذلك فنظرة جزئية مآلها الزوال أو الانحطاط؛ فالإسلام دين يضمن حياة راقية مردها إلى أوامر الله تعالى، لا إلى اللذة العاجلة لشهوات النفس أو الجسد، وإنما التوازن المطلوب لتعمير الأرض وتحقيق شرط الاستخلاف فيها، وهذا هو البديل الصحيح للبشرية جميعًا.

 

    وحدة البحوث والدراسات

 

([1]) سورة النور الآية: 35