المساجد في ألمانيا تحت نيران النقد .. نظرة على كتاب "الإسلام رؤية من الداخل"
يعود تاريخ المساجد في ألمانيا إلى مطلع القرن الماضي على أقل تقدير، إن لم يكن قبل ذلك، حيث أُسّس في أثناء الحرب العالمية الأولى مسجد لأسرى الحرب المسلمين في ألمانيا، إلا أنه لم يصمد في وجه عوامل الزمن؛ لينهار في عام 1925 أو 1926، ولكن أقدم مسجد في ألمانيا موجود حتى الآن، هو مسجد برلين، التابع للطائفة الأحمدية، وقد أُسّس في عام 1924. وقد تزايد بناء المساجد مع هجرة العمال الأتراك في ستينيات القرن العشرين، ليصل عددها -حسَب تقديرات جريدة "تسايت" الألمانية- إلى 2750 مسجدًا، في كافة أنحاء ألمانيا، تتبع معظمُ تلك المساجد اتحاداتٍ، أشهرها هو الاتحاد الإسلامي التركي "الديتيب"، الذي يُشرف على أكثر من 900 مسجد في ألمانيا.
لم تكن المساجد أبدًا موضوعًا مُهملًا، أو خارج النقاشات الدائرة منذ سنوات حول قضايا الإسلام والمسلمين والاندماج في المجتمع الألماني، فكون الكثير من الخطب تُلقى بلغة غير الألمانية (التركية في الغالب، أو العربية، أو غيرها من اللغات) كان على الدوام من النقاط التي تُثار في أي نقاش حول الاندماج في ألمانيا، إذ يرى الكثيرون في هذا الأمر عائقًا أمام اندماج المسلمين في محيطهم المجتمعي في ألمانيا. كما تشغل تبعية العديد من المساجد لاتحادات وجمعيات لها صلات بالخارج ـ أيضًا ـ حيّزًا كبيرًا من تلك النقاشات؛ لا سيّما بعد التوتّر في العَلاقات التركية الألمانية، لكون الاتحاد الإسلامي التركي يُشرف على عددٍ ضخم من المساجد، وقد طفت على السطح اتهامات للعديد من الأئمة الأتراك بالتجسس لصالح الحكومة التركية.
لكن قضية المساجد برزت بشكل واضح في الشهر الماضي، مع نشر الصحفي الألماني "قسطنطين شرايبر" لكتابه عن المساجد، الذي يحمل عنوان "الإسلام.. نظرة من الداخل"، والذي ترافق مع سلسلة أفلام وثائقية أذاعتها القناة الألمانية الأولى، بعنوان "تقرير المساجد". المؤلف "قسطنطين شرايبر"، صحفي ألماني من مواليد عام 1979، عاش "شرايبر" في صباه لفترة في سوريا، وهناك تعلم اللغة العربية، وعاش بعدها في عدة دول عربية؛ ممّا يُفترض معه أن يُعمّق معرفته باللغة العربية والدين الإسلامي. وقد سبق لـ"شرايبر" العمل مستشارًا إعلاميًّا، لوزارة الخارجية الألمانية لشئون الشرق الأوسط.
وقد سبق لـ"شرايبر" أن تناول في كتابٍ له، الاستثماراتِ الأجنبيةَ في ألمانيا، وقدّم برنامج "مرحبًا" الموجَّه للاجئين، وكان يُبثّ باللغة العربية والألمانية.
يتكوّن كتاب "الإسلام نظرة من الداخل" من مقدمة، يليها عرض لخُطب الجمعة التي حضرها الكاتب في ثلاثةَ عشرَ مسجدًا في ألمانيا، ونقاشًا حول تلك الخُطب وملاحظات، ويقع في 256 صفحة، وقد صُوّرت بعضُ تلك الخُطب بموافقة إدارة المساجد؛ لتُذاعَ بعد ذلك في سلسلة الأفلام الوثائقية المذكورة أعلاه، على القناة الألمانية الأولى. وقد تراوحت عناوين تلك الخُطب بين الدعوة لتعلّم العلوم الإسلامية، بوصفها ما يُنقذنا أمام الله، وكيف يؤثّر المجتمع الألماني في المسلمين، والدعاء على أعداء الأمة التركية في الداخل والخارج، وأن على المسلمين ألّا يَسعَوا في الأرض فسادًا، ودعوة غير المسلمين، إلى غير ذلك من الموضوعات.
وقد أثار الكتاب وسلسلة الأفلام ضجّةً كبيرةً في المجتمع الألماني، إذ عرض الكاتب في كتابه المساجد في ألمانيا؛ كمكان تُبثّ فيه خُطب الكراهية بحق غير المسلمين بالمجتمع الألماني، ويَشيع فيه التطرّف والدعاية لمعاداة الساميّة. ويدّعي "شرايبر" وبعضُ مَن استدعاهم في كتابه، أن القراءة المعاصرة للقرآن ما هي إلا واجهة غير حقيقية تُخفي وراءها التبشير والتطرّف، إلى غير ذلك من التهم التي وُجّهت -وتُوجّه- للمساجد على النحو الذي بيناه.
لقي الكتاب ترحيبًا من عدة دوائر، كان أبرزها اليمين الألماني المتطرّف؛ حيث نشرت القيادية الكبيرة في حزب "البديل من أجل ألمانيا"، مقطعًا مُصوّرًا تحضّ فيه على قراءة الكتاب، وتقول فيه: إن الإسلام لا ينتمي لألمانيا؛ لأن المسلمين لا يشاطرون الألمان قِيَمهم، وإنه حتى في المساجد المعتدلة يسود خطاب الكراهية ضد قيمنا وقوانيننا، واصفةً المسلمين بالمجتمع الموازي. كما ظهر "شرايبر" في نقاش للكتاب مع بعض المسئولين في الحزب، المعروف بمواقفه المعادية للإسلام والمسلمين.
لكن هذا لم يَحُل دون أن تُوجّه سهام النقد للعديد من النقاط في الكتاب من عدة جهات، ردًّا على ما جاء في الكتاب. ففي عدة مواضع أخطأ الكاتب أو مَن كان يساعده، في ترجمة بعض الكلمات ليُغيّر المعنى تمامًا. فبينما يتحدث أحد الأئمة عن مساعدة الأتراك في بناء ألمانيا بعد الحرب، وكيف أنهم في المقابل يتمتعون بحرية الممارسة الدينية في ألمانيا، يترجم "شرايبر" كلمة الأتراك بـ "الجنود". وبينما يتحدث أحد الأئمة من طائفة الشيعة عن الخليفة الأموي "يزيد بن معاوية"، يترجم "شرايبر" الاسم إلى طائفة "اليزيديين" في العراق، الذين تعرضوا لجرائمَ بشعةٍ على يد تنظيم "داعش"؛ ليوحيَ بكراهية المسلمين في ألمانيا لتلك الطائفة، على الرغم من عدم تناول الإمام لهذه الطائفة على الإطلاق.
ليست أخطاء الترجمة هي وحدها ما يشوب هذا الكتاب وسلسلة الأفلام الوثائقية المرافقة له، ولكن استدعاء أشخاص بعينهم بوصفهم خبراء؛ ليُدلوا بآرائهم فيما يخصّ تلك الخطب، كان محل نقد أيضًا؛ إذ استدعى الكاتبُ د. عبد الحكيم أورغي، من كلية التربية بفرايبورج، والمعروف بمواقفه المعادية لاتحادات المساجد في ألمانيا، وبانتمائه لدوائر نقد الإسلام في الإعلام الألماني.
وقال "شرايبر" بعدها: إنه راسل العديدين من المختصين بالدراسات الإسلامية، ولكنه لم يتلق ردًّا، وهذا ضمن أمورٍ أخرى ممّا حدا بالسيدة "يوهانا بينك"، أستاذة كرسي الدراسات الإسلامية في جامعة فرايبورج، لأن تكتب خطابًا لهيئة تحرير القناة الألمانية الأولى، مُبيّنةً أنها وغيرها من زملائها لم يَتلقَّوا أي استفسارٍ من السيد "شرايبر"، بخصوص كتابه أو سلسلة الأفلام الوثائقية -لا سيّما وقد أكد الكاتب أنه قد حضر إلى مدينة "فرايبورج"، مقر إقامة الأستاذة "بينك"- وأنها كانت على استعداد في حال تلقي مثل هذا الطلب، أن تُوفّر للسيد "شرايبر" مترجمين من ذوي الخبرة والدراسة.
وانتقدت الأستاذة "بينك" أيضًا ما يُقدّمه "شرايبر" في كتابه وأفلامه، عن كون التفسيرات والقراءات المعاصرة للنص القرآني مجرد واجهة غير حقيقية، وعدم قدرة المسلمين على الاندماج في المجتمع الألماني، مُشيدةً بجهود عدة جمعيات في ألمانيا في هذا الصدد، وعلى رأسها الاتحاد الليبرالي الإسلامي؛ كما قالت الأستاذة "بينك": إن "شرايبر" لم يتناول مئات المساجد الأخرى التي تدور بها الخُطب حول الصلاة والزكاة وفضائل قراءة القرآن، وعن إلقاء الخطب بلغاتٍ غير الألمانية، ذَكرت "بينك" أنّ هناك العديدَ من الكنائس الروسية والكرواتية والإسبانية في ألمانيا، حيث يُلقي القساوسةُ العِظاتِ بهذه اللغات، دون أن يُمثّل هذا مشكلةً.
جديرٌ بالذكر أن الأستاذة "بينك" قرّرت أن تُنظّم رحلةً لبعض المساجد في إطار المحاضرات الدراسية، التي تُلقيها في هذا الفصل الدراسي، للتعرّف عليها عن كَثَب.
ونحن نودّ أن نتوجّه للكاتب بأسئلة عن أوجه النقد تلك وغيرها، ففي الصفحات الأولى من الكتاب، حيث يَصف الكاتب وصوله إلى محطة القطار في مدينة فرايبورج؛ لمقابلة الدكتور "أورغي"، وكيف قُتلت فتاة شابة في الشتاء الماضي على يد أحد اللاجئين الأفغان بالقرب من هذه المحطة. والسؤال هنا: ألم يَجد الكاتب أي شيء آخر يمكن ربطه بمحطة القطار في مدينة فرايبورج سوى هذا الخبر، فعلى بُعد أمتارٍ قليلة من المحطة تقع جامعة فرايبورج، التي تعمل بها الأستاذة بينك، وغيرها من الباحثين في الدراسات الإسلامية، حيث كان يمكن للسيد "شرايبر" أن يستعين بآرائهم فيما كتب، وفي نطاق تلك المنطقة أيضًا يقع مسجد، كان يمكن للسيد "شرايبر" أن يتوجه إليه في بحثه. وهذا يقودنا للنقطة الأخرى، ماذا كان المعيار الذي اعتمد عليه السيد "شرايبر" في اختياره للمساجد؟ وماذا كان الاتفاق بينه وبين المساجد التي صَوّر فيها؟ .. خصوصًا إذا عرفنا أن أحد تلك المساجد، وهو مسجد "السلام" في برلين، قد قرر رفع دعوى قضائية بحق السيد شرايبر بدعوى تشويه صورة المسجد، ولماذا لم يَستعن السيد شرايبر بمترجمين وخبراء لديهم المعرفة والدراسة الكافية؛ كي لا يقعوا في أخطاء الترجمة المذكورة، ولا يخلطوا بين الطوائف والفرق؟ فالكاتب يتحدث طَوال الوقت عن زيارته لمسجد تابع للطائفة الأحمدية اللاهورية، وهي طائفةٌ صغيرة لا تَتبنّى أي مفاهيم سياسية عن الإسلام، خالطًا بينها وبين الأحمدية القاديانية، دون أن يُفرّق بينهما. فهل السيد شرايبر راضٍ عن احتفاء اليمين المتطرف بما كتبه وصوّره وعرضه للمجتمع الألماني عقب تحقيق هذه الأحزاب نجاحاتٍ غير مسبوقة، ليس في ألمانيا وحسب، ولكن عدة دولٍ أوروبيةٍ كبرى، وفي عام انتخاباتٍ برلمانية عامّة في ألمانيا تُعقد بعد شهورٍ قليلة. نطرح هذه الأسئلة على الكاتب أملًا في مراجعة تلك الانتقادات في الطبعات التالية من الكتاب، ونطرحها على القرّاء لنُصوّر القضية من عدة جوانبَ، لا من جانبٍ واحد.
وحدة الرصد الألمانية
3735