24 فبراير, 2016

إندونيسيا تمنح الإمام الأكبر الدكتوراه الفخرية.. وفضيلته يؤكد: رسالة الأزهر الشريف هي التمسك بمنهج أهل السُّنة والجماعة بمذاهبه المختلفة

وسط اهتمام وترحيب رسمي وشعبي كبير .. منحت جامعة مولانا مالك إبراهيم الإسلامية الحكومية بإندونيسيا درجة الدكتوراه الفخرية لفضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين،  في احتفالية ضخمة واستقبال حافل في مقر الجامعة بمدينة مالانج بمحافظة جاوة الشرقية.
وشهدت مراسم المنح مشاركة كبيرة من عمداء الكليات والأساتذة والطلاب الإندونيسيين، فيما اصطف المئات في الشوارع ترحيبًا واحتفاءً بفضيلة الإمام الأكبر.
وفي كلمته -التي ألقاها خلال الاحتفال - أكد فضيلة الإمام الأكبر أن المعرفة هي عصمة الأمة من الضلال والتيه، موضحًا أن رسالة الأزهر الشريف هي التمسك بمنهج أهل السُّنة والجماعة بمذاهبه المختلفة، موضحًا أن التعليم رسالة وحياة، ويكفي العلماء شرفًا أنها رسالة الأنبياء.
وأشار فضيلته إلى أن الأزهر الشريف يحمل مسئولية الجانب العلمي والدعوي من رسالة الإسلام، حيث يتميز الخطاب الأزهري بالوسطية في العقيدة بين أتباع السلف المحترزين من التشبيه ومن مزالق التأويل، مضيفًا أن الأزهر الشريف يسلك في فهم رسالة الإسلام وتعليمها والدعوة إليها منهج أهل السنة والجماعة، فالسمة المميزة للمنهج الأزهري هي التحليل النصي العميق والدقيق للتراث، موضحًا أن ما يلقاه الخطاب الأزهري الوسطي من قبول في العالم الإسلامي وخارجه يرجع إلى المزج بين الفكر العلمي بالروح الصوفي في وسطية واعتدال.
وعن نشأته، قال فضيلة الإمام الأكبر لقد كانت نشأتي عربية روحية في بيت علم ودين، وعلى يد أب حفي أورثني الكثير، معربًا عن سعادته بهذا التكريم الذي هو تكريم للأخوة بين مصر الأزهر وجامعة مولانا مالك إبراهيم الإسلامية الحكومية .
وفي نهاية كلمته، أكد الإمام الأكبر على مباركة الأزهر الشريف لهذه الجامعة معربًا عن استعداد الأزهر الشريف لدعمها بالأساتذة والعلماء.
وفيما يلي نص كلمة فضيلة الإمــام الأكبـــر شيخ الأزهر بمناسبة منح فضيلته درجة الدكتوراه الفخرية بجامعة مولانا مالك إبراهيم الإسلامية الحكومية بإندونيسيا:
بســـم الله الرحمــن الرحيــم
معالي أ.د/ مودجينا راها ردجيو – عميد جامعة مولانا مالك إبراهيم الإسلامية الحكومية.
إخواني وزملائي أساتذة الجامعة.
أبنائي وبناتي والطلاب والطالبات.
الســـلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛
وبعد:
فإنَّه ليُسْعِدَني حقًا ويُشرِّفني أن ألتقي بكم أيها السادة العلماء والشباب الباحثون وطلاب العلم، في رحاب «جامعة مولانا مالك إبراهيم الإسلامية الحكومية»، وأن أشم عطر البحث العلمي في أجوائكم، وأرى الشوق إلى المعرفة في عيونكم، حتى إني لأغبطكم -عَلِم الله-لما أنتم فيه، وقد أثرتم حنيني إلى أيام التبتل في محراب العلم، والتنقل في أروقة الجامعة، والتمتع بتذوق نص تراثي، أو باكتشاف فكرةٍ جديدة، أو بتوجيه باحثٍ شابٍّ إلى أقرَبِ الطرق إلى بغيته المنشودة.
يعرف شعوري هذا جيدا، مَن اتخذ -عن قصد واختيار- التعليم مهنةً ورسالةَ حياةٍ، وهي رسالة الأنبياء من قبل، ويكفي المعلم شرفًا قولهﷺ: «إنما بعثت مُعلِّمًا»، كما يُقدِّر هذا الشعور مَن ذاق حلاوة اكتشاف الحقيقة بعدَ عَناءِ البحث وطول التأمل وصدق الطلب؛ وقد كان حجة الإسلام الإمام الغزالي -رحمه الله- كثيرًا ما يُردِّد: «سُئِلَ حكيم: ما السعادة؟ فقال: هي في حجة تتبختر اتضاحًا، وشبهة تتضاءل افتضاحا».
وعندما كانت أمَّتنا -أيها السادة! - تمارس الفروسية، ويثب شبيبتها على الخيل وثبًا لم يكن في شعورها وذوقها العام ما ينافس مُتعة الفروسية بحركاتها البارعة الرائعة، إلا الجلوس الهادئ إلى صفحات كتابٍ، وكثيرًا ما ردَّد أبو الطيب المتنبي   -رحمه الله-:
أعزُّ مكانٍ في الدُّنا سرجُ سابحٍ *** وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ
إن المعرفة هي أعز ما يُطلب، وهى أول واجب على العقلاء، وهى تراث الأنبياء: ((إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ))؛ وهي مفتاح باب الجنة: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ))؛ وهي عِصمة الأمة من الضلال والتيه: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْزِعُ العِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ العُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ، يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ»؛ رواه البخاري.
فهنيئا لكم تلك الحياة الممتعة، وهنيئا لمن رفعه الله فرعَى حقَّ ذلك التكريم ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].
ثم أقول لكم أيها الإخوة:
فمنذُ ألف عام -بل تزيد- قامت في مصر، البلد الوحيد الذي يمتدُّ في فضاء القارَّتين العريقتين: آسيا وإفريقيا، وهما منشأ الحضارات الإنسانية، ومهبط كلِّ الرِّسالاتِ السماويَّة، قامت منارةٌ سامقةٌ، تبعث بأضوائها الهادية إلى أطراف العالَم كلِّه، وبخاصَّة شباب هاتين القارَّتين من أبناء الأمَّتين العربية والإسلاميَّة.
إنَّه الأزهر الشريف الذي بفضله أقفُ بينكُم اليوم، والذي أعدُّ هذا التكريم المقدور والمشكور، من إخوتنا في إندونيسيا، وفي جاوة معقل العلم والعلماء، أعده تكريمًا للأزهر في الحقيقة جامعًا وجامعة، بل هو تكريم للمسلمين متمثلًا في خادم الأزهر الشريف وخادم العلم والعلماء والفقير إلى الله تعالى الذي يقف بين أيديكم الآن.
وليس الأزهر أيها السادة –كما تعلمون– مجرَّد معهد عريق أو جامعة عالميَّة، ربّما كانت هي الأقدم في تاريخ الإنسانية التي تواصَلَ عطاؤها دون توقُّف، طوال هذه القُرون العديدة إلى اليوم، بل هو في جوهرِه رسالةٌ، ومنهجٌ، وخطابٌ فكريٌّ متمَيِّز.
فالأزهر الشريف يحملُ مسؤوليَّة الجانب العِلميِّ والدعويِّ من رسالة الإسلام، خاتمة الرسالات الإلهية إلى البشر كافَّة، رسالة السّلام العالمي والمساواة والعدالة والكرامة الإنسانيَّة، والتحرُّر من الآصار والقيود التي تُثقِل كاهلَ البَشر، وتُؤمن بكلِّ ما أرسَلَ اللهُ من رسولٍ، وما أنزَلَ الله من كتاب؛ {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
ويسلكُ الأزهرُ في فهمِ هذه الرسالةِ وتعليمها والدعوة إليها - منهجَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، كما تمثَّلَ في فِكرِ الإمام أبي الحسن الأشعري بمقالاته المنصفة، وسائر كُتُبِه الّتي شَقَّت طريقَ النّظر العقليِّ في الأصلَين بعُمقٍ ووسطيّةٍ واعتدال، كما يتمثل هذا المنهج أيضا في أصول الأئمَّةِ المتبوعين من فُقَهاءِ الأُمَّة، دون تعصُّبٍ أو إقصاء؛ فأبو حنيفة ومالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ، أعلامٌ تتردَّدُ في رحاب الأزهر الشريف، وآراؤهم وأقوالهم تُدرسُ في أروقته وتحت قبابه، في سَماحةٍ فكريَّةٍ، ونظَر موضوعي جنبًا إلى جنبٍ، وبحثٍ مخلص النيَّة والهدَف عن الأقوى دليلًا، والأوفى بحاجاتِ الأمَّة في ظُروفِها المتغيِّرة، ونوازلها المتجدِّدة.
وما أروع ما قال أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته المشهورة عن الأزهر الشريف، والتي قال فيها:
وَسَـــــما بِأَروِقَةِ الهُـــدى فَأَحَلَّهــا        **        فَرعَ الثُرَيّا، وَهيَ في أَصلِ الثَرى
وَمَشى إِلى الحَلَقاتِ، فَانفَجَرَت لَهُ     **      حِلقًا كَهالاتِ السَّـــماءِ مُنَــوِّرا
حَتّى ظَنَنّـــا الشَّــــافِعِـيَّ وَمـــالِكًـا      **        وَأَبا حَنيفَةِ وَابنَ حَنبَلِ حُضَّـــرا
هذا وقد استَقامَ للأزهر على مَدَى القُرون منهجٌ يقوم أوَّلًا على بناء مَلَكَةٍ رَصِينة لدى أبنائه في اللُّغةِ العربيَّة، وأسرارها العبقريَّة، ثم في دِراسة الكتابِ والسُّنَّة، والعُلوم التي تخدمُهما، واستخلاص الأحكام الاعتقاديَّة والعِلميَّة منهما، أعني: علومَ أصولِ الدِّين وأصول الفقهِ، وعلومَ القُرآنِ، وعلومَ الحديثِ الشريف، وعلومَ الفقهِ المذهبي والمقارَن، مع إلمامٍ بما يعينُهم على فهم عصرِهم، وماضي ثقافتهم الإسلامية وأطوارها المختلفة، ومَنابع الثقافةِ الإنسانيَّةِ بوجهٍ عامٍّ، من الفلسفةِ الشرقيَّة والغربيَّة، والآدابِ القديمةِ والمعاصرةِ؛ ليُزوَّدوا منها بما يُعينُهم على فهم الماضي والحاضر والقُدرة على استشراف المستقبل، والإفتاء في النَّوازل والوقائع المتجدِّدة على منهجٍ عِلمِيٍّ وأصولٍ مقرَّرة.
ولئن سألتُموني عن السِّمة المميِّزة للمنهجِ الأزهري في الدّرس العلميٍّ فلَأقولَنَّ: إنَّه منهجُ التحليل النَّصيِّ العَمِيق الدَّقيق لعُيون التُّراث الإسلامي والعربي، ممَّا خلَّفته القُرون الأربعةَ عَشَر من كنوز ثقافتنا؛ حتى تتكوَّن إلى جانب المَلَكةِ اللُّغويَّة مَلَكةٌ شرعيَّةٌ تُعين الخرِّيجينَ النُّجَباءَ في هذا المعهد على الوَفاءِ بحاجات الأمَّة؛ ممَّا أهَّلَه للمَرجِعيَّة الإسلاميَّة الموثَّقة في العالَم الإسلامي كلِّه.
وقد قُدِّرَ لي -بحمد الله- أنْ أَدْلِفَ إلى رِحابِ هذا المعهد العَتِيدِ بعدَ تَنشِئَةٍ عربيَّةٍ رُوحيَّةٍ في بيتِ عِلمٍ ودين، وعلى يدِ أَبٍ حَفِيٍّ أورَثَنِي الكثير الذي أسأل الله أن يجزيه عني وعن العلم خير الجزاء، ثم نَعِمتُ بتوجيهِ أئمَّةٍ أعلامٍ من شُيوخِ الأزهر، جمَعُوا بين العِلم الشَّرعيِّ على نهجِ الأئمَّة، والحكمة الإسلامية كما أبدعها الفيلسوف العربي يعقوب الكندي، والمسلكِ الرُّوحِيِّ على طريق أئمة السلوك والتُّقَى: الجُنَيد البغدادي والحارث المحاسبيِّ وأبي القاسم القُشيريّ وأبي حامد الغزالي، وهو مَزِيجٌ غلَب على الأوساطِ الأزهرية منذُ الإمام المجدِّد ابن دَقِيقِ العيدِ وشيخِ الإسلامِ زكريا الأنصاريِّ، وصاحبِ «الفتح» ابنِ حَجَرٍ العسقلانيِّ، ثم الأئمَّة حسن العطار وعُليش ومحمد عبده والمراغي  ومصطفى عبد الرازق وسليمان دنيا وغيرهم -رحمة الله عليهم أجمعين-.
وتلكم هي أصول الخطاب الأزهري المتميِّز بالوسطيَّةِ في العقيدة بين أتباع السَّلَف المحترزين من التّشبيه ومن مزالق التأويل، والخلَفِ المستحسِنين للنظَر والقائلين بالتأويل بحسَبِ قانون العربيَّة ولفظ الشَّرْعِ الشَّريف، جَرْيًا على ما رُوِيَ عن إمام دار الهجرة: «الاستواء معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤالُ عنه بدعةٌ»، وكذا التوسُّط بين إيثارِ التشدُّد أو التعصُّب لمذهب مُعَيَّنٍ في فهم خطاب الشارع، وبين التَّسيُّب العلمي، أو التفلُّت من أصول الاستدلال، والترجيح بين آراء الفقهاء على غير هدى.
وما يلقاه الخطاب الأزهري الوَسَطِيّ المعتدل الآنَ من قَبولٍ في العالَم الإسلامي وخارجه، إنَّما يرجعُ إلى هذه الرُّوح الّتي تمزجُ الفكرَ العلمي بالروح الصُّوفي، وتتمسَّك بالحدِّ الأوسط الذي وصفت في مجالي العقيدة والعمل، والّذي يعكسُ الرُّوح الإسلاميَّةَ الأصيلةَ التي تَسُودُ العالم الإسلامي -بحمد الله- بصَرْفِ النَّظَرِ عن بعض الأصوات الهامشيَّة هنا أو هناك.
وإنِّي لأشعُرُ بالسَّعادة البالغة أيُّها الإخوة لقُدومي في هذه المناسبة الكريمة، إلى إخوتي في الديار الجاوية، وقد خدمتُ العِلمَ الشريف والجيلَ الجديد، في عديدٍ من الجامعات  في العالمين: العربي والإسلامي، وهاأنَذَا آتي إليكم ممثِّلًا لمؤسستكم الإسلامية العريقة «الأزهر الشريف»، وقد وُسِّدَتْ إليَّ قيادتُها وتوجيهُ دفَّتها في ظُروفنا المتغيِّرة والمضطربة، وإنِّي لأَثِقُ بفضلِه سبحانَه وتوفيقِه، وبهِمَمِكم وإخلاصِكم وغَيْرتكم على دِينكم الحنيف، وتُراثكم العريق، وثقافتنا الإنسانية السَّمحة.
ثُمَّ إنِّي شاكر لحضراتكم جميعًا تفضلكم بمنحكم إيَّاي الدكتوراه الفخريَّة، والتي أعتقد أنها إعلانٌ منكم بتكريم الأُخُوَّة بين مصر الأزهر وجامعة مولانا مالك إبراهيم الإسلامية الحكومية.
شكرًا لكم جميعًا.. والسَّلام عَليْكُم ورَحمةُ الله وبَركَاته؛؛؛

 


كلمات دالة: زيارة إندونيسيا