30 سبتمبر, 2016

كلمة فضيلة الإمام الأكبر خلال افتتاح الجولة الثالثة من الحوار بين حكماء الشرق والغرب بجنيف

بسم الله الرحمن الرحيم

السادة الحضور، الســـلام عليكم جميعًا؛

اسمحوا لي في البداية أن أتقدم لكم بخالص الشكر والتقدير على الدعوة لهذا اللقاء الذي يجمعنا في ظروف حرجة يمر بها عالمنا اليوم ، وأزمة أخلاقية تعيشها الإنسانية جمعاء، حتى أصبحت معاني المحبة والسلام استثناءً من قاعدة كلية تحكم العالم هي الأنانية والكراهية والصراع . ولعلي لا أبالغ لوقلت أننا لا نكاد نجد الآن وطنًا من الأوطان إلا ويشتاق إلى سلام دائم وعيش لاعنف فيه ولا إرهاب،
وإنه لمن دواعي الحزن الشديد أن باتت أصابع الاتهام كلها تتوجه إلى الأديان رامية إياها بتهمة صنع هذا الإرهاب اللعين .

ولعل أصحاب هذا الاتهام لا يغفلون عن حقيقتين هامتين في هذا الشأن، أولهما: أن الأديان إنما جاءت لترسيخ السلام بين الناس ورفع الظلم عن المظلوم  والتأكيد على حرمة دم الإنسان، ويكفي أن الدين الذي أعتنقه وكما تعلمون اشتق اسمه من السلام فكان اسمه "الإسلام"، وأن السلام في هذا الدين اسم من أسماء الله تعالي ومن اسمائه أيضا  الرحمن الرحيم والرؤوف الودود اللطيف كما أن رسول الإسلام حدد من هو المسلم فقال : " المسلم من سلم الناس من لسانه ويده" أي من أذى لسانه وأذى يده.

والحقيقة الثانية أن الإرهاب الذي تتهم به الأديان عامة، والإسلام خاصة هو إرهاب لا يفرق بين متدين وملحد أو بين مسلم وغير مسلم .

وإن نظرة سريعة لضحايا الإرهاب لتؤكد على المسلمين أنفسهم هم أكثر من يدفعون ثمن هذا الإرهاب من دمائهم وأشلائهم ، ليس فقط في الشرق حيث يضرب الإرهاب دول العراق وباكستان ولبنان ومصر وليبيا وحيث تمزقت سوريا التي هدموا فيها أكثر من ألف مسجد حتى الآن،وقتل فيها أكثر من أربعمائة ألف قتيل،بل أوروبا التي سفكت فيها دماء المسلمين جنبا الي جنب مع دماء الأوربيين في حوادث هذا الإرهاب ورغم ذلك فإن  الخسارة الكبري  التي أصيب بها المسلمون هي ، فيما أعتقد ، إلصاق هذا الإرهاب بدينهم وإفراده بهذه التهمة من بين سائر الأديان وترديد هذا الاتهام وتكراره حتي أثمر خطاب الكراهية الذي تبناه يمينيون متطرفون أهانوا المسلمين ونادوا بعزلها وتهجيرهم من أوطانهم وألحقوا الأذى بدور عبادتهم، فبات الأبرياء بين مطرقة الإرهاب وسندان الإسلاموفوبيا.

السادة الحضور ،

 لا أريد أن استرسل في الدفاع عن الأديان ضد هذه التهمة الظالمة، فأنتم تعرفون ظلم هذه التهمة وزيفها ولكني أريد أن أؤكد أن مسؤولية الأديان تجاه ترسيخ السلام ونشره في ربوع الأرض أصبحت هي المسؤولية الأولى لقادة الأديان،  بل والرسالة الأصيلة للدين التي يجب أن تطرق أسمع الناس صباح مساء،  فما من دين إلا وَحَرّم دم الإنسان وماله وعرضه، ولا أعلم دينًا سماوياً سمح بِإراقة الدماء واغتيال الحقوق وترويع الامنين .
وفي اعتقادي أنه لن يعم السلام ولن تنعم به البشرية إن لم تعمل مؤسسات الأديان وقادتها  يدًا بيد علي صنع السلام ،
وأكرر علي مسامعكم ما نادي به الأزهر منذ  أكثر من سبعين عاما وفي عواصم الغرب هنا  أنه لابد أولًا من صنع السلام بين رجال الأديان أنفسهم، وبينهم وبين المفكرين، وأصحاب القرارات المصيرية قبل العمل على نشره بين البسطاء من الناس.

السيدات والسادة،

في الحقيقة لم تعد تكفي تلك الإدانات والبيانات التي تصدر من أهل الأديان ضد عمليات العنف والإرهاب وخطابات الكراهية، كأننا بهذا نعمل في جزر منفصلة ، وهو عمل لا يأتي إلا بنتائج ضعيفة ليس لها تأثير ملموس علي أرض الواقع ، بل يجب التنسيق من أجل عمل مشترك لمواجهة ظاهرة العنف ومن خلال مشروع عالمي يمس الواقع ويغيره، وتقوم عليه القيادات الدينية، عبر عديد من اللقاءات التي تبحث في أسباب الظاهرة والوقوف على أهم الحلول المقترحة لمواجهتها مواجهة فكرية علمية واجتماعية وتربوية فاعلة،
 وتجدر الإشارة هنا إلي  أن مؤسسة الأزهر استحدثت مادة جديدة في مناهجها التعليمية لتوعية التلاميذ والطلاب بمخاطر التطرف والإرهاب وتحصينهم من الوقوع في أي فكر يدعوا الي العنف أو الانضمام إلى جماعات ترفع لافتة الإسلام وتنتهج العنف المسلح  
وبموازاة ذلك فإنه لا مناص من أن تقوم الأديان بدورها في توعية شباب العالم بقيمة الرحمة والرفق  من خلال تنظيم ملتقيات شبابية دولية كبرى تعنى بتعريف المفاهيم الدينية وفي مقدمتها ترسيخ مفهوم المواطنة الذي لا يفرق بين مواطن وآخر على أساس الدين أو العرق، ويستمد قوته من بالتعددية والحرية والمساواة  وقبول الآخر واحترام معتقداته، وقد طبق رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم هذه المفاهيم وسبق بها دساتير العالم حين رسخ هذه المبادئ فينفوس مواطني المدينة المنوره بمجرد أن هاجر إليها عندما كتب لهم أن "المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب واليهود ،  أمة واحدة وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم".
هكذا رسخ النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ المساواة بين المواطنين من المسلمين وغير المسلمين في نموذج دولته الأولى وسجله في كتاب معروفباسم وثيقة المدينة.
وفي هذا السياق نؤكد أن الإيمان بقيمة هذا المبدأ فيه الخلاص من مشاكل دينية واجتماعية لا حصر لها سواء في دول الشرق أو في دول الغرب،
هذا وقت أكدت شريعة الإسلام أن على المسلمين في الشرق المسلم اعتبار المخالفين لهم من الديانات الأخرى مواطنين مشاركين في بناء الوطن والدفاع عنه،وقد اشتهرت فيهم القاعدة الشرعية "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"،
كما نادي الأزهر الشريف المواطنين المسلمين في دول الغرب بأن يعتبروا أنفسهم جزءًا من مجتمعاتهم يندمجون فيها اندماجاً ايجابيا ويتفاعلون معها تفاعلا يحقق الرخاء والسلم المجتمعي .
 ولا شك أن لرجال الدين هنا دورًا لا ينبغي أن يتجاهلوه في كسر الحواجز النفسية التي بناها دعاة العنف والعزلة والكراهية بين المختلفين في الاعتقاد، وذلك من خلال إبراز حقائق كثيرة يأتي في مقدمتها أن هذا الاختلاف سنة الله وإرادته التي لا يمكن أبدًا أن تنشأ معها علاقة صراع أو عزلة أو حرب، فهذا تناقض بين حرية التعدد ومصادرة هذا الحق.
وفي نهاية كلمتي أتطلع وأنا بينكم هنا لتكثيف جهودنا معاً لمواجهة جميع المظاهر والممارسات التي تقف في طريق نشر السلام والرحمة والعدل بين الناس في الشرق والغرب، والخروج بمشروع إنسانيٍ متكامل ينتهي بنا إلى التأثير الإيجابي على مجريات الأحداث من حولنا، علنا نقابل الله ولدينا من أعمال الخير ما يحول بيننا وبين عتابه وحسابه.
 
والسَّلامُ عَليكُم ورَحمَة الله وبركاته؛