| 20 أبريل 2024 م

د.عبدالحليم منصور يكتب: المواطنة في الشريعة الإسلامية (2)

  • | الثلاثاء, 21 مارس, 2017
د.عبدالحليم منصور يكتب: المواطنة في الشريعة الإسلامية (2)

*أستاذ الفقه المقارن ووكيل كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر

لفظة المواطنة وإن كانت من المصطلحات الحديثة التي درجت على ألسنة الكتَّاب في الحقبة الأخيرة، والتي تعني العيش المشترك بين فئات الشعب، وفق قواعد المساواة في الحقوق والواجبات، وعدم اضطهاد البعض بسبب العقيدة، أو اللون، أو الجنس، وهذا اللفظ وإن كان مستحدثا إلا إن مضمونه، موجود لدى فقهاء المسلمين، ولدى الرعيل الأول من المسلمين الذين طبقوا مدلول المواطنة وفق وثيقة المدينة وغيرها خير تطبيق على نحو لم تصل إليه المدنية الحديثة الآن.

وتأصيل هذا المبدأ يجد أساسه بالإضافة إلى التطبيق العلمي له من قبل المسلمين الأوائل، فيما يأتي:

- وحدة الأصل الإنساني: الذي تنبثق عنه الأخوة الإنسانية، والمساواة البشرية، ذلك أن الناس جميعا ينتسبون إلى أصل واحد، قال –تعالى- :" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً " فكل الناس سواءٌ في أصلهم وجنسهم، وقال –تعالى- :" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ "

فالإنسان أينما كان هو أخ لغيره من الناس في كل مكان، وتفرقهم شعوبا وقبائل لا ليتناحروا، ويتنازعوا، ويتباغضوا، ولكن ليتعارفوا، وهذا التعارف يتيح لكل فريق أن ينتفع بخير ما عند الفريق الآخر، ومن ثم فإن الإيمان الصادق بالوحدة الإنسانية، هو السبيل الأمثل لإنقاذ البشرية من كل ما تعاني منه من عصبية عرقية، أو جنسية، أو طائفية، ... إلخ جلبت على المجتمع الإنساني قديمًا وحديثًا، أشد الأخطار وأفدحها، وأكبر الأضرار وأنكاها .

- مبدأ التكريم الإنساني: إن التكريم الإلهي للإنسان هو أولى الدعامات التي قررها له الإسلام، قال –تعالى- :" وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا "

فالتكريم الإلهي للإنسان مقرر في أصل الخلقة كما قرر أن الناس سواسية لا يتفاضلون إلا بالتقوى والعمل الصالح، وحقيقة الكرامة التي يقررها الإسلام للشخصية الإنسانية، هي سياج من الصيانة والحصانة، هي ظل ظليل ينشره قانون الإسلام على كل فرد، يصون به دمه أن يسفك، وعرضه أن ينتهك، وماله أن يغتصب، ومسكنه أن يقتحم، ونسبه أن يبدل، ووطنه أن يخرج منه، أو يزاحم عليه ، وضميره أن يتحكم فيه قسرًا، وتعطل حريته خداعًا ومكرًا، هذه الكرامة التي كرم الله بها الإنسانية، هي الأساس الذي تقوم عليه العلاقات بين البشر جميعًا.

- النزعة الفطرية الإنسانية: التي تقتضي التمسك بالمواطنة وحب الوطن، ذلك أن البشر يألفون أرضهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحشًا، وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجم، ويغضب له إذا انتقص. حتى إن  الله عز وجل جعل الإخراج من الوطن معادلاً لقتل النفس، بصريح قوله – سبحانه وتعالى : " وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ.." فالتمسك بالوطن أو الانتماء الوطني ، غريزة أو نزعة إنسانية ، أو فطرة مستكنة في النفس الإنسانية، قال الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لولا حب الأوطان لخرب بلد السوء " أي : أن  الوطنية ملازمة للإنسان، حتى ولو كان البلد فقيراً  ، وأهله أشراراً.

وحينما أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ نَبِيَّه e بالهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، تأمل - صلى الله عليه وسلم  - في مكة ونظر إليها وقال: " ما أَطيَبَكِ وأَحَبَّكِ إلي ، وَلَولا أنَّ قَومَكِ أَخْرَجونِي منْكِ ما سَكَنتُ غَيرَكِ "

- وحدة المصالح المشتركة والآمال والآلام:

إن الوطن وعاء المواطنة، فمصالحه واحدة، وآماله بجعله عزيزًا كريمًا وسيدًا محصنًا منيعًا هي واحدة، والآلام والمضار التي قد تجعله معرَّضًا للمخاطر مشتركة، كل ذلك يدفع المواطن إلى الالتقاء مع بقية المواطنين بزعامة حكامهم وحكوماتهم  على خطة واحدة، وعمل واحد، سواء بالتحرر من الدخيل المحتل، أو ببنائه على أسس وقواعد قوية ، تحميه من كل ألوان العدوان والتخلف ، وصونه من الأزمات والانتكاسات، لأن الخير للجميع، والسوء أو الشر يعمُّ الجميع، وهذا يدفع المواطنين إلى الوقوف صفاً واحداً، والتعاون يداً واحدة لرفع كيان الوطن، وصون عزته وكرامته، مما يجعل الوطن الذي هو وعاء المواطنة حقاً عاماً لاستيطان جميع المواطنين.

 

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg