| 20 أبريل 2024 م

أراء و أفكار

رجائي عطية.. يكتب: الإسلام والعلم والحضارة "7"

  • | الثلاثاء, 12 يونيو, 2018
رجائي عطية.. يكتب: الإسلام والعلم والحضارة "7"
رجائي عطية

واقع الحال، أن الكهانة ظاهرة سابقة على نزول الأديان الكتابية، وقد وجدت الكهانة والرؤية بين العبرانيين من أقدم عصورهم كما وجدت فى سائر الأمم السابقة، وهى فى مجملها حرفة تستتر بالأديان بعامة، وتدعى مطالعة الغيب وكشف حجبه، والإخبار بالأسرار والحوادث المستقبلة والماضية، وتحتكر لنفسها من هذا المدخل سلطة الوساطـة بين المخلوق والخالـق، وتختص بفك رموز الدين، وتحديده، وتستأثر بالشفاعات، وتضطلع بالمراسم الدينية، وتقديم القرابين والذبائح، ومنح الأسرار، والتبشير بكلمة الله.. تتلبس بلباس تتخيره لكل دين ولكل زمن، عرفها بنو إسرائيل من قديم، وكان «الكهنة» الإسرائيليون هـم الذين تصدوا لدعوة السيد المسيح، وقادوا الأحداث لمأساة الصلب بغض النظر عن الخلاف فى «شخص» المصلوب، هل هو ذات المسيح كما يقول المسيحيون، أم شبيه له كما يقول القرآن المجيد.. إلى هؤلاء الكهنة كانت رعاية «الهيكل»، برئاسة «الكاهن الأعظم».. وهذا هو المقابل العربى للكلمة العبرية: «كوهن هاجدول» ومع أن وظيفة الكاهن الأعظم كانت دينية، وكذلك الكهنة، فقد كانت لها أبعادها الدنيوية حتى كان كبير الكهنة يعد من رجالات المملكة العبرانية وجزءاً من الارستقراطية الحاكمة!! بل كان الملك ذاته يضطلع أحياناً بوظيفة كبير الكهنة بنفسه، كما فعل داود (1004 965 ق.م).. وفى سفر صموئيل الثانى 6/12ـ19: «فأخبر الملك داود وقيل له قد بارك الرب بيت عوبيد أدوم وكل ماله بسبب تابوت الله. فذهب داود وأصعد تابوت الله من بيت عوبيد أدوم إلى مدينة داود بفرح. وكان كلما خطا حاملو تابوت الرب ست خطوات يذبح ثوراً وعجلاً معلوفاً. وكان داود يرقص بكل قوته أمام الرب..» وقد تكررت كلمة «كهن» ومشتقاتها نحو775 مرة فى العهد القديم، كما تكررت كلمة «لاوى» وهو السبط الذى كان منه الكهنة 280 مرة!، كما تكررت 185 مرة فى سفر اللاويين وحده، ولم يقتصر استخدام الكلمة على الكهنة العبرانيين، بل أطلقت أيضاً على الكهنة المصريين فى زمن القدماء والكهنة الفلسطينيين وكهنة البعل وكهنة «كموش».

وعرف العرب الكهانة قبل الإسلام، واشتهر من الكهنة والعرافين فى الجاهلية والإسلام، «شق أنمار» و«سُطيح»، ومن النساء «زرقاء اليمامة» و«سجاح» بنت الحارث التى لحقت بالإسلام ثم ادعت النبوة ونزلت اليمامة تريد حرب أبى بكر واتقاها مسيلمة الكذاب بالزواج منها، حتى إذا ما قتل أسلمت وهاجرت إلى البصرة وفيها توفيت. وكانت الكهانة لدى العرب على ثلاثة أضرب، أولها أن يكون للإنسان ولى من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء، وثانيها يدعى الإخبار بغيبيات الزمان المقبل أو المكان البعيد، أما ثالثها فيقوم على العرافة والتنجيم.

هذه السلطة الكهنوتية، منزلقٌ هائل للسيطرة على وعى وأفهام ووجدان الناس، وسلبٌ لإرادتهم وتغييبٌ لعقولهم، لتسييرهم كالعميان إلى حيث يُراد لهم وبهم. سيطرة الكهان وأضرابهم، هى تسلط على عقول ورقاب الناس باسم الدين، وتعطيل لملكة العقل التى ميز الله تعالى بها الإنسان على سائر المخلوقات والكائنات!!

لم يقبل الإسلام من المسلم أن يلغى عقله أو يسلسه بلا فهم إلى غيره، وإنما حرص بآيات القرآن المجيد على مخاطبة العقل الذى يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويميز بين الأمور، ويفرز ويوازن بين الأضداد ويتبصر ويتدبر ويحسن التفكر. هذا العقل يستلزمه لباب وجوهر الإسلام الذى رفض الكهانة بكل صورها، ولم يجعل لكهنة أو سدنة أو أحبار وظيفة الوساطة بين المخلوق والخالق، ولا شفاعة للإنسان إلاّ شفاعة عمله وعطائه وتوجهه إلى الله تعالى بضمير مخلص وقلب منيب.

عقل المسلم حرّ طليق من سلطان الكهان الذين يتخذون من الأديان حرفة وصناعة، ومن سلطان الهياكل والمحاريب سبيلاً للتحكم فى ضمائر وألباب اللاغين والسفهاء الذين يتخذونهم أربابا من دون الله، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم وضلالهم!! (التوبة 31 /32)!! وكثير منهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون فى الحقيقة عن سبيل الله.. (التوبة 34)!!

القرآن المجيد، وحىٌ إلى رسولٍ كريم، لا قول شاعر ولا حَبْرٍ ولا كاهن: «وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ، تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ» (الحاقة 41 43).. الكهانة تقترن فى البيان القرآنى بالجنون يقول رب العزة لنبيه المصطفى: «فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ، أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» (الطور 29، 30)..

لم يتخذ الإسلام هذا الموقف الرافض للكهانة والكهان، بمعزل عن رؤية شاملة تقدم للإنسان هدايته بلا حاجة إلى وساطة أو شفاعة أو تحكم حَبْرٍ ولا كاهن. صلة الإنسان بربه سبحانه وتعالى صلةٌ ممدودة موصولة لا يخفيها ولا يحجبها شىء.. فحيثما وجد المسلم يستطيع أن يتجه إلى الله، وأن يبث دعاءه ويؤدى صلاته وقيامه وتهجده، وصومه وحجه.. يطمئنه القرآن المجيد إلى أن حبله إلى الله لا ينقطع.. «فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ» (البقرة 115).. لا حاجة بالإنسان إلى كهانة ولا إلى هيكل، ولا حاجة به إلى وساطة وسيط ولا إلى شفاعة متشفع، لأن وزنه أمام الله بعمله وتقواه، ومصيره معلق بيده وما يقدمه لا بما يتوسط أو يتشفع له به سواه.. «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً» (الإسراء 13).. «كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ» (الطور 21).. الإنسان يُثاب وينجو بعمله لا بوساطة الكهان والأحبار.. يحمل وزره لا وزر غيره «ولا تزر وازرة وزر أخرى» (الأنعام 164ـ وأيضاً فاطر 18، الإسراء 15، النجم 38، 39). فى القرآن المجيد أن الإنسان بسعيه، وأنه ليس له إلاّ ما سعى، وأن سعيه مرصود معروف فى الملأ الأعلى.. «وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاّ مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأوْفَى» (النجم 39ـ 41).

العقيدة الإلهية فى الإسلام

الله فى عقيدة الإسلام، هو العليم الواسع المحيط، لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء، يعلم ما يظهره الإنسان وما يخفيه، وما يدور بدخائل الصدور.. هو سبحانه بكل شىء عليم، وعلى كل شىء شهيد، وعنده توزن الأعمال بموازينه وعدله، وما كان سبحانه بظلاّم للعبيد. أبواب السماء مفتوحة بلا وساطات، والله تعالى أقرب لعباده من حبل الوريد (ق16).. يخبرهم فى محكم تنزيله أنه «لسميع الدعاء» (إبراهيم 39)، ويوجه سبحانه دعوة مفتوحة إلى عباده باللجوء إلى رحابه: «وقال ربكم ادعونى أستجب لكم» (غافر 60).. ويطمئنهم عز وجل لتلبيته فيقول: «وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعانى» (البقرة 186).. وهذه العقيدة تغنى الآدمى فى باب الاعتقاد، وتغنيه أيضاً عن وساطات أدعياء الوساطة، أو مدعى الشفاعة وتغلق أبواب الدجل على الدخلاء، رافعة لافتة بعنوان: «الوسطاء يمتنعون»!!!

هذه الباحة الربانية، والضوابط المحكمة للمسئولية، تغلق أبواب الدجل على الدخلاء والوسطاء وكل أشكال الكهانة التى تتخذ لكل مجال لباسه، ولكل زمان وميدان سبله ومسالكه، وتتسرب من الأديان إلى غيرها، فتتحوصل حول السياسة أو الاقتصاد أو غيرهما، كهانة تدعى امتلاك الحكمة والمعرفة دون سواها، وتوغل فى الركوب على وعى وعقول وضمائر الناس، تفرض الهيمنة عليهم بحكم «اعتياد» الاتباع لهم والإخلاد إلى سلطانهم وما يُظَن أنهم يمتلكون به الحكمة والصواب فضلاً عن مفاتيح السماء وصكوك الغفران!

رفَضَ الإسلام كل صور الكهانة، ولم يجعل للمسلم أو على المسلم من سلطان غير سلطان العقل والنظر الصحيح والموعظة الحسنة.. فلا اختصاص فى الإسلام لأحد بحق الفهم والتفسير، ولا باحتكار الصواب، أو بامتلاك مفاتيح السماء.. بذلك أسقط الإسلام سلطان الكهانة ونفوذ الأحبار، ولم يقبل من المسلم أن يلغى عقله صدوعاً أو خضوعاً أو خوفاً من أى سلطان غير سلطان العقل والحكمة والصواب.. بل بلغ من احترام الإسلام للعقل أن قدمه على ظاهر الشرع عند التعارض، وجعل الأرجحية لما دل عليه العقل إذا تعارض مع النقل.

ليس فى الإسلام سلطة فيما يقول الإمام محمد عبده سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر.. ولم يجعل الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطاناً على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه.. نبوة الرسول ذاته نبوة هداية قوامها الإبلاغ والتذكير بلا سيطرة ولا تجبر.. «فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر «(الغاشية 21، 22).. » وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ» (ق 45).. سبيله فى دعوته إلى ربه الحكمة والموعظة الحسنة.. «ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (النحل 125).

رَفْضُ الإسلام للكهانة بجميع أشكالها وصورها، ليس إهـداراً أو إشاحة عن علوم الدين والاهتمام به ورعايته، وإنما هى توسعةٌ محمودة لذلك كلّه بترك الباب مفتوحاً لمن يستقيم قصده ويملك ملكاته لينهل ويغترف من العلم اللدنى وأحكام الدين حتى يمتلك أدواته وتتسع قاعدة علمه ومعارفه ويستطيع بهذا كله أن يدلى بدلوه فى تيار الدين وبحوره الواسعة، دون أن يكون مشروطاً لذلك بكهانة أو وصاية تتخذ من الكهانة والوصاية باباً ووسيلة للهيمنة ورعاية المصالح. ليس كالإسلام دين يحض على احترام العلم والعلماء والرجوع إلى أهل الذكر، ولا يرتفع المسلم بفضيلة كما يرتفع بفضيلة العلم، ولا يستوى فى شرعة القرآن الذين يعلمون والذين لا يعلمون (الزمر 9، فاطر 28)، ولم يستغن الإسلام فى إعلائه للعقل عن العلم والعلماء، فإذا أعوز الإنسان العلم بما يريد، فأمامه أهل الذكر من العلماء والدارسين العارفين. فى القرآن المجيد: «فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (النحل 43).

فارق بين امتلاك العلم والحكمة، وبين امتلاك السلطة.. بين من يتعلم العلم ويبذله للناس، وبين من يدعى احتكار السماء والأسرار. الفوارق بين العلماء وأهل الذكر فى الإسلام، وبين الكهانة، فوارق هائلة فارقة، فمادة العلماء العلم والمعرفة وليس التنبؤ أو السحر أو التنجيم، وفارق بين المعرفة والعرافة، وبين الهداية والسحر والتنجيم. العلماء وأهـل الذكر لا قداسة لهم ولا يدعون قداسة كما يدعى الكهان والرائون والعرافون، وإنما يؤدون الفرائض والمناسك والشعائر كما يؤديها المسلمون، ولا يباشرون طقوسا أو مراسم خاصة أو يختصون بقرابين ولا بشفاعات كما يفعل ويتاجر رجال الكهنوت. وعلماء الإسلام وأهل الذكر لا يُرسمون بطقوس ولا بمباخر ولا بذبائح، ولا يدعون الإصغاء لصوت الله ولا يتكلمون باسمه، ويتمايزون بعلمهم لا بطبقاتهم، ولا يتخذون الدين حرفة للتجارة. إن العلماء وأهل الذكر فى الإسلام شموع تضىء دون أن تصادر على عقول الناس، تنشد بذل العلم والهداية بلا ادعاء ولا استعلاء ولا ركوب على رقاب الناس، فلا سحر ولا عرافة ولا كهانة ولا حواصل تتشرنق فيها المصالح والمآرب والأهواء، وإنما هو مفتاح العقل والضمير الذى ينشـد به الإنسان ما يشاء حيث يشاء، ويتجه به إلى الخالق بقلب منيب!

عودة إلى معجزة القرآن

يقرأ المطالع للقرآن الحكيم: من قول الحق جل شأنه: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» (هود 13)، ويقرأ من سورة يونس: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» (يونس 38)، ويقرأ فى سورة البقرة: «وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (البقرة 23)، ومن سورة الإسراء: «قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» (الإسراء 88).

وقد مضى على نزول القرآن الحكيم نيف وأربعة عشر قرناً، فما استطاع أحد أن يجاوب هذا التحدى أو يأتى بشىء مثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.. وقل أن يوجد فى الكتاب العزيز آية ليس فيها ذكر الله عز وجل أو تمهيد أو تعقب لذكره. وقد نزل الكتاب المبين على مدى ثلاث وعشرين سنة وهو ملازم لهذه الحال وهذا التركيز التلقائى إلى أن انقطع نزوله بوفاة الرسول عليه السلام. وما جاء فى الكتاب الحكيم من الأحكام أو القصص إنما جاء تفريعا على التذكير بالله سبحانه وتعالى.. يبدأ منه ليعود إليه. لم ينقطع هذا التذكير قط فى أية سورة مهما صغر حجمها وقل عدد آياتها. وبهذا تفرد الكتاب المجيد عن كل كتاب آخر.. مقدس أو غير مقدس. واستحال أن يكون موضع تقليد سواء بالنسبة لسورة منه أو لعشر، وذلك لاستحالة توجيه أى إرادة واعية لذاتها إلى ذلك التركيز التلقائى المطرد على ذكر الله وبداية كل شىء منه وإليه ثلاثة وعشرين عاماً. لأن الإرادة الواعية لذاتها أيا كان حظها من الاقتدار والاستغراق سرعان ما تمل وتجهد من وحدة الموضوع الذى لا يزيد ولا ينقص، وتعجز عن المحاكاة دون أن يظهر فيها الاصطناع والتكلف لستر الملل والإجهاد.

قالوا إن نزول الوحى على الرسول المصطفى كان دائما شديد الوطأة بدنيا، وكان يتخلف عن مجيئه رضاً وثقة هائلين لديه عليه الصلاة والسلام، فلم يكن ما يوحى به إليه ثمرة تدبر وتفكير ونظر لوعىٍ يراقب ذاته فيما يعيه ويتتبع مشاهداته ومعلوماته وأفكاره وخواطره ومصدقاته إلى أقصى ما يستطيع وينتقى عباراته فى روية وصبر وبعد موازنة ومفاضلة. لم يكن عليه السلام يرتقب وعيه لتقييد ما قد يوحى به إليه فيكون رداً حصل عليه واقتنصه وصار منتسباً إلى ذاته كناتج من نواتج مقدرته.

لم يكن ما يوحى به إليه من عمله هو، أو مصدره ذاته هو، وعقله أو إرادته هو، أو أن من حقه أن يحجبه أو يمسه بأى تعديل أو حذف، لا هو ولا غيره. فكل آية نزلت عليه من آيات الكتاب المجيد وكل سورة من سوره ليس لها مصدر بشرى على الإطلاق، ويستحيل من ثم عليه هو أو على غيره من البشر أن يأتى بمثلها تقليداً أو محاكاة لها. لأن مصدرها هو الله تعالى، وهى من عند الله عز شأنه الذى انصرفت آيات الكتاب المبين إلى التذكير أو التمهيد للتذكير به أو التعقيب على هذا التذكير.

وبرغم ابتعاد اللغة العربية الآن مقولة أو مكتوبة عما كانت عليه إبان التنزيل، برغم ذلك ومعه زيادة الاختلاف فى اللهجات والأذواق والثقافات خلال أربعة عشر قرناً فى البقاع التى تتكلم العربية فإنه قد صار الإيمان بإعجاز القرآن جزءاً لا يتجزأ من عقيدة المسلم.. عربياً كان أو أعجمياً. ولم يعد ذلك موضع جدل أو نقاش أو مفتقراً لبينة أو إبانة لأنه جزء من إيمان المسلم. وبات حمل المصحف أو حيازته أو قراءته أو سماع تلاوته بات قُربةً إلى الله تعالى وفيه كل الغناء، ولم يعد ثمة مجال بأى وجه لتحدى الكتاب المبين أو لأى محاولة لتقليد آياته وسوره رغم تعدد نسخه بملايين الملايين وتعدد المسلمين وقراء العربية بألوف الملايين!

لم يوجد من يفترى آية أو سورة أو سوراً على القرآن الكريم، ولم يوجد من يدعى قدرته على شىء من ذلك، ولم يعد يشغل أحداً من المهتمين بالكتاب المجيد سوى حماية طبعاته المتزايدة من حذف كلمة، أو تحريف لفظ أو الإخلال بترتيبه، حماية لهذه المعجزة الربانية الباهرة التى طفقت تهدى البشرية من أربعة عشر قرناً وإلى ما شاء الله.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
لا يوجد تقييم

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.








حقوق الملكية 2024 جريدة صوت الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg