Al-Azhar Portal - بوابة الأزهر - تفكك تحالفات مكافحة الإرهاب في إفريقيا... قراءة تحليلية ورؤية استشرافية
الجديد على بوابة الأزهر الإلكترونية
بوابة الأزهر الإلكترونية
AZHAR.EG

تفكك تحالفات مكافحة الإرهاب في إفريقيا... قراءة تحليلية ورؤية استشرافية

  • | الأربعاء, 10 يناير, 2024
تفكك تحالفات مكافحة الإرهاب في إفريقيا... قراءة تحليلية ورؤية استشرافية

     لطالما كان المشهد الإفريقي هو الأكثر تعقيدًا حتى مع انتشار التنظيمات الإرهابية في مناطق أخرى من العالم، فما يزال الإرهاب يلقي بظلاله الثقيلة على القارة الإفريقية، مع ما تعانيه بالأساس من تحديات بالغة الصعوبة؛ مثل الفقر، والجهل؛ وتردي الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسة؛ والانقلابات العسكرية المتكررة، وشيوع الجريمة المُنظمة، بخلاف تفاقم ظاهرة التغيرات المناخية حديثًا؛ فتضافرت كل تلك العوامل والتحديات -علاوةً على تفشي وباء الإرهاب- حتى اضطرت حكومات القارة إلى استمداد المساعدات من القوى والمنظمات الإقليمية والدولية لتشكيل أطر أمنية هدفها الوحيد إجهاض المشروع الإرهابي في القارة الشابة.

أسهمت هذه القوى بدور فعال في دعم السلام، وتحقيق الاستقرار في المناطق المأزومة بفعل الصراعات على مدى سنوات. ونجحت عمليات القوى المشتركة الدورية في تحقيق عدد من الانتصارات وإن كانت نسبية، لكن هذا لا ينفي ارتباك هذه القوى في ترتيب أولوياتها، وتوفير التمويل اللازم، ما أثار الشكوك والانتقادات حول جدوى بقائها في الأراضي الإفريقية، وهو ما أثر سلبًا في جهود مكافحة الإرهاب. وسرعان ما أعلنت بعض التحالفات والقوى الإقليمية والأممية والدولية الانسحاب من المشهد الأمني بالقارة الإفريقية وخلّفت قلقًا كبيرًا بشأن المستقبل الأمني لتلك البلدان التي اعتمدت اعتمادًا رئيسًا على القوات المشتركة في توفيق أوضاعها الداخلية والأمنية.

انسحابات متلاحقة ودوافع متباينة

من اللافت للنظر تسارع وتيرة الأحداث والانسحابات؛ ففي وسط إفريقيا قررت جمهورية الكونغو الديمقراطية إنهاء مهام القوى الإقليمية والأممية المشارِكة في مكافحة الأنشطة الإرهابية شرقي البلاد، خاصة حركة "٢٣ مارس (M23)" المسلحة. وقد أعلنت الكونغو عدم تمديد مهمة القوة الإقليمية لمجموعة شرق إفريقيا ("إياك" (EAC)) بعد ٨ من ديسمبر ٢٠٢٣ إثر انتقادات واسعة، لتحل محلها القوة الإقليمية التابعة لمجموعة دول تنمية الجنوب الإفريقي ("سادك" (SADC)) في مهمة إرساء الأمن والاستقرار بالبلاد.

وبالفعل بدأت القوة الإقليمية لشرق إفريقيا مغادرة الكونغو بتاريخ ٣ من ديسمبر ٢٠٢٣، فبدأت بإخلاء وحدة أولية مكونة من قرابة ١٠٠ جندي كيني، إضافة إلى جنود من دول: أوغندا، وبوروندي، وجنوب السودان باتجاه نيروبي. ثم واصلت القوة انسحابها بخروج نحو ١٠٠٠ جندي بوروندي بتاريخ الأحد الموافق ١٠ من ديسمبر ٢٠٢٣، حسبما أعلن الجيش البوروندي. فيما أعلن الجيش الأوغندي بتاريخ الأربعاء الموافق ١٣ من ديسمبر سحب ١٠٠٠ جندي من قواته المشاركة في جهود مكافحة الإرهاب بالكونغو.

كما طلبت الكونغو من الأمم المتحدة الإسراع في ترتيب انسحاب بعثة حفظ السلام ("مونوسكو" (MONUSC)) التابعة لها، بنهاية عام ٢٠٢٣، إثر عجز البعثة عن حماية المدنيين أو إحراز تقدم كبير نحو إحلال السلام، أو التوصل إلى حلول سياسية بعد ٢٥ عامًا من وجودها داخل البلاد.

وفي الوقت الذي حقق فيه تحالف القوة الإقليمية لدول الساحل الخمس (G5 Sahel) نجاحًا نسبيًّا في إعادة السيطرة وتقليل الوجود الإرهابي في الساحل الإفريقي، برز انسحاب مالي -من كل أجهزة التحالف وهيئاته بما فيها قوة مكافحة الإرهاب- بوصفه أحد التحديات التي تزيد في صعوبة مواجهة نشاط التنظيمات المتطرفة في المنطقة؛ إذ أعلن المجلس العسكري الحاكم بمالي الأحد الموافق ١٥ من مايو ٢٠٢٢ ذلك، احتجاجًا على رفض الدول الأعضاء تولي دولة مالي الرئاسة الدورية للمجموعة بذريعة الوضع السياسي فيها، وهي الخطوة التي عارضتها مالي بشدة واصفةً إياها بأنها عنصرية.

وبخروج مالي انفرط عقد التحالف بانسحاب بوركينافاسو، والنيجر؛ إذ أعلنت حكومتا البلديْن في بيانٍ السبت الموافق ٣ من ديسمبر ٢٠٢٣ قرارهما الانسحابَ من كل الهيئات التابعة لمجموعة دول الساحل الخمس، بما في ذلك القوة المشتركة، بعد عام ونصف من انسحاب مالي. وأوضح بيان مشترك لحكومتي بوركينا فاسو والنيجر أن قرار الانسحاب من المجموعة قرار سيادي، جاء بعد تقييم معمق للمجموعة وعملها. وبانسحاب بوركينا فاسو والنيجر ومن قبلهما مالي فقدت دول المجموعة ميزة الترابط الجغرافي، علمًا بأن العمليات العسكرية لتحالف الدول الخمس تُباشَر برًّا عبر الحدود المشتركة، وهو ما سيضعف مسار الحرب على الإرهاب.

كما واجهت القوات الأوروبية المشاركة في العمليات العسكرية مع دول الساحل الثلاث المصير نفسه، وطالبتها بالانسحاب لما عللته الدول الثلاث بأنه فشل التحالف في وضع حد لنشاط تنظيمي "القاعدة" و"داعش"؛ إذ أعلن المجلس العسكري الحاكم في مالي بتاريخ ٣ من مايو ٢٠٢٢ إلغاء اتفاقيات التعاون الدفاعي المبرمة مع قوّتي "برخان" (Barkhane) الفرنسية و"تاكوبا" الأوروبية (Takoba)، نتيجةً لتوتر العلاقات بين الحكومة الفرنسية ودولة مالي. وفي ١٥ من أغسطس ٢٠٢٢ تم الانسحاب الكامل للقوات الفرنسية وانتقالها إلى إحدى القواعد العسكرية في النيجر. وفي ٢٠ من فبراير ٢٠٢٣ أعلنت بوركينا فاسو رسميًّا مغادرة جميع القوات الفرنسية البلادَ؛ فيما أعلنت فرنسا في ٥ من أكتوبر ٢٠٢٣ بدء سحب قواتها من النيجر على أن تستكمل انسحابها في ٢٢ من ديسمبر ٢٠٢٣ من العام ذاته، وذلك على خلفية الخلاف الذي نشب بين البلديْن في أعقاب رفض فرنسا إزاحة الرئيس النيجري "محمد بازوم". وانطبق الأمر ذاته على بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في مالي ("مينوسما" (MINUSMA))، التي انتهت مهامها رسميًّا في ١١ من ديسمبر ٢٠٢٣ بطلبٍ من السلطات المالية التي اعتبرت أنها فشلت في تحقيق أهدافها.

ومن منطقة الساحل إلى شرق القارة، حيث واجهت بعثة الاتحاد الإفريقي الانتقالية في الصومال ("أتميس" (ATMIS)) مصيرًا مشابهًا بسبب مشكلات التمويل والجمود السياسي؛ إذ أعلنت "أتميس" في ٢٧ من يونيو ٢٠٢٣ البدء في الانسحاب من البلد الواقع في القرن الإفريقي بعد ١٨ عامًا من مشاركتها في مواجهة خطر الإرهاب الذي تقوده حركة "الشباب" الإرهابية. وانتهت المرحلة الأولى من الانسحاب في ٣٠ من يونيو ٢٠٢٣ بخروج ٢٠٠٠ جندي، ومن المتوقع أن سحب قوة الاتحاد الإفريقي بالكامل من الصومال بنهاية عام ٢٠٢٤.

فراغ أمني

في ضوء معطيات المشهد الإفريقي السابقة يتبين أن موجة الانسحابات، والانشقاقات، والتفككات التي طالت المقاربات الأمنية بالقارة الإفريقية؛ وتقليص الجهود الجماعية في مكافحة الإرهاب، آخذة في الازدياد في الأعوام القليلة الماضية خصوصًا، على الرغم من الدور القوي الذي نهضت به في تحقيق استقرارٍ نسبيٍّ في بعض مناطق الصراع بإفريقيا. وهذا من شأنه إحداث فجوة أمنية يقينًا، وإيجاد بيئة مؤاتية للتنظيمات الإرهابية لتأكيد هيمنتها، وتعزيز قوتها في أجزاء واسعة من الدول المتضررة، أو حتى التمدُّد إلى بلدان أخرى كانت بمنأى عن التهديدات الإرهابية، وهو أمر ممكن الحدوث للغاية.

في المقابل، يصعب الجزم بما إذا كانت القوات الحكومية في تلك الدول قادرة على سد الفجوة الأمنية من عدمه، في ظل التطورات السياسية المتسارعة، وتغير النخب الحاكمة، وخاصة في دول منطقة غرب إفريقيا الراغبة في تقليص الوجود والتدخل الأجنبيين في شئونها الداخلية، وإعادة توجيه بوصلتها السياسية.

وتشير التطورات الأحدث في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، والصومال إلى أن سحب قوات حفظ السلام قد يؤدي إلى فجوة أمنية كبيرة، ما يؤدي إلى زيادة العنف وتدهور الأوضاع الإنسانية، ففي الصومال كثفت حركة "الشباب" وتيرةَ هجماتها الإرهابية ضد المدنيين، والقوات الحكومية، وقوات حفظ السلام بعد انسحاب قوة "أتميس" في يونيو ٢٠٢٣؛ إذ تُظهِر الإحصاءات أن الحركة الإرهابية شنت خلال المدة من ٢٧ من مايو إلى ٢٣ من يونيو ٢٠٢٣ أكثر من ٢٠٠ هجوم في الصومال، أسفرت عن سقوط ما يزيد عن ٧٠٠ قتيل.

كما تتزايد الاشتباكات العنيفة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ أكتوبر ٢٠٢٣، إذ أفضت الاشتباكات بين الحركات المسلحة غير الحكومية والقوات الحكومية إلى مقتل أكثر من ٦٠٠ شخص، ونزوح أكثر من ٤٥٠ ألف شخص قسرًا. ومنذ أن بدأ انسحاب بعثة "مينوسما" من مالي، تفاقمت حالة انعدام الأمن في المنطقة وسط تجدد الصراع بين المسلحين والجيش الوطني، وتصاعد هجمات المسلحين.

إن ثمة متغيرات جديدة تفرض نفسها على الخريطة الإفريقية، لا سيما منذ أن توالت قرارات انسحاب بعثات حفظ السلام، ما يثير تساؤلات مهمة حول تداعيات تلك الانسحابات، وتأثيرها في الحالة الأمنية بتلك البلدان خصوصًا، وفي القارة الإفريقية عمومًا.

سيناريوهات محتملة

هديًا بالمتابعة الدقيقة للأوضاع الأمنية والتحركات الإرهابية في القارة الإفريقية، يستشرف مرصد الأزهر لمكافحة التطرف عددًا من التداعيات المحتملة التي قد تتمخض عن الانسحابات العاجلة لقوات حفظ السلام من مناطق النزاع في إفريقيا، من بينها: احتمال انهيار المؤسسات الهشة بالفعل، نتيجة لخروج تلك القوات دون استعداد، أو تشكيل قوات عسكرية بديلة تبدأ من حيث انتهت إليه القوات المنسحبة، وذلك لسد الثغرات الأمنية الناجمة. ومع ذلك، فإن الجهود الوطنية لم تقدم علاجًا كافيًا للتهديدات الناشئة عن عمليات الانسحاب؛ ما قد يعيد إلى الأذهان سيناريو "طالبان أفغانستان"، وزحفها على السلطة عقب الانسحاب الأمريكي الفوضوي نهاية عام ٢٠٢١، مُخَلِّفًا البلاد في فراغ أمني دونما استعداد مسبق. ومن المتوقع أن تكون تجربة "طالبان" ووصولها إلى السلطة داعمة للتنظيمات الإرهابية في إفريقيا، خصوصًا في دول الساحل التي تعيش ظروفًا مماثلة لأوضاع أفغانستان، ذلك بأن إعلان الولاء للتنظيمات الكبرى مسألة سابقة الحدوث، وأن الفكر الأيديولوجي هو القاسم المشترك بين التنظيمات الإرهابية - وإِنْ تباينت الرؤى والأدوات.

يعضِّد هذه التكهنات الظهورُ الأحدث لـ "إياد أغ غالي"، قائد تنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين" في الساحل، التابع لتنظيم القاعدة، بعد صمت دام أكثر من ٧ سنوات؛ إذ توعَّد في مقطعٍ مصورٍ الأنظمة الانتقالية الحاكمة في مالي، وبوركينافاسو، والنيجر، وحلفائها؛ مؤكِدًا أن المواجهة دخلت مرحلة جديدة - على حد تعبيره.

ومن المحتمل أيضًا أن تحمل دعوات مطالبة بمغادرة قوات حفظ السلام من مناطق الصراع إشارات للتفاؤل بتعزيز الجهود الوطنية في مكافحة الإرهاب، وإعادة تشكيل تكتلات أمنية إقليمية جديدة لتكون بدائل قوية لملء الفراغ الأمني، مثل تحالف دول الساحل الثلاث: (مالي والنيجر وبوركينافاسو) - وهو تحالفٌ جديدٌ معنيٌّ بالدفاع المشترك ضد أي تمرد أو هجوم خارجي على أي من الدول الأعضاء. كذلك تبرز في المشهد "المجموعة الإقليمية لتنمية دول الجنوب الإفريقي" (سادك) التي حلت محل مجموعة القوة الإقليمية لمجموعة شرق إفريقيا (إياك) في الكونغو.

تأسيسًا على ما سبق، يرى مرصد الأزهر لمكافحة التطرف أن تسريع وتيرة الانسحابات دون وضع خطط بديلة باعثة على الثقة يشكل تهديدًا للأمن، ويفسح الطريق أمام التنظيمات الإرهابية والمجموعات المسلّحة للسيطرة على مفاصل الدول الإفريقية محل الصراعات، فتتفاقم بذلك أعمال العنف؛ لذا ينبغي للسلطات الحاكمة التريث والتفكير برويّة وجدية في القرارات التي تتعلق بالحالة الأمنية. ويهيب المرصد بالدول التي طالبت بانسحاب قوات حفظ السلام سرعة إيجاد البدائل العسكرية لصد أية هجمات محتملة، مع تأكيد سيادة القارة واستقلالها، وأن أولى الناس بالذود عن مقدراتها وأراضيها هم أبناؤها، شريطة التأهيل المادي والمعنوي؛ ليكون مستقبل القارة الإفريقية خاليًا من أية تهديدات آتية من تنظيمات الإرهاب والعنف.

طباعة