Al-Azhar Portal - بوابة الأزهر - أزمة حيازة السلاح في الولايات المتحدة.. الواقع والمخاطر
الجديد على بوابة الأزهر الإلكترونية
بوابة الأزهر الإلكترونية
AZHAR.EG

أزمة حيازة السلاح في الولايات المتحدة.. الواقع والمخاطر

  • | الأربعاء, 24 يناير, 2024
أزمة حيازة السلاح في الولايات المتحدة.. الواقع والمخاطر

 

     من الظواهر التي تثير دهشة المرء، ومخاوفه في الولايات المتحدة، ظاهرة حيازة السلاح بين المواطنين، تلك الظاهرة التي تتجلى لنا يوميًّا من خلال ضحاياها تجليًّا يثير مخاوف المواطن الأمريكي نفسه من نوايا حائزي السلاح، ومفاجآتهم. فلا يكاد يمر يوم دون أن تطالعنا الصحف الأمريكية، والعالمية بحادث إطلاق نار، ووقوع ضحايا بين قتلى، ومصابين؛ إذ يلقى أكثر من (٥٠) شخصًا حتفهم يوميًّا بسبب عنف السلاح في الولايات المتحدة([1]). وما يزيد الوضع سوءًا أن مرتكبي بعض تلك الحوادث من الأحداث دون السن القانونية، فالأطفال هم المسؤولون في المقام الأول عما يزيد عن نصف جرائم إطلاق النار في المدارس. والتساؤل الذي يفرض نفسه الآن: من يتحمل مسئولية هذه الحوادث؟ هل يتحملها مرتكبو تلك الحوادث، أم يتحملها المجتمع الذي لم يتخذ خطوات جادة لسَنِّ قوانين مُحصنة، وحامية لأبنائه؟

تُعد الولايات المتحدة الأمريكية الدولة ذات الشهرة الأوسع عالميًّا فيما يتعلق بقضية حيازة السلاح، وتؤكد الأبحاث أن (٤) من كل (١٠) بالغين في الولايات المتحدة يقطنون منزلًا به سلاح، فيما يمتلك (٣٠٪) من البالغين على الأقل سلاحًا داخل منازلهم([2]). وإذا نظرنا في المزيد من إحصائيات حيازة السلاح في الولايات المتحدة، وتنامي معدلات حيازة السلاح "المنزلي"([3])، فلا يُمكن أن نتصور ألا يُسهم ذلك بشكل، أو آخر في تزايد أعداد ضحايا عنف السلاح؛ فقد شهد عام ٢٠٢١م وحده وفاة (٤٨٨٣٠) شخصًا؛ بسبب عنف السلاح([4]).

وإذا نظرنا في الشق القانوني لحيازة السلاح، فسنجد أنه مفهوم متأصل في وجدان المواطنين؛ إذ تمنح المادة الثانية من الدستور الأمريكي لكل مواطن أمريكي الحق في حمل السلاح، وحيازته؛ بهدف الدفاع عن الولاية التي يعيش بها ضد أية اعتداءات من الميليشيات المسلحة. ونظرًا للطبيعة السياسية الخاصة بالولايات المتحدة، فإن الدستور يمنح كل ولاية الحق في سَنِّ القوانين المنظمة لأوضاعها حسبما تقتضيه المصلحة دون أن تتعارض تلك القوانين مع الدستور الأمريكي الذي يمثل "أساس القوانين". لكن إذا كان الدستور هو من يمنح المواطن الحق في حيازة السلاح، فكيف يمكن للقوانين المحلية "التي تسنها الولايات" أن تُخالف ذلك؟!

والسؤال الذي قد يطرأ على الأذهان هنا: ما الذي دفع مؤسسي الولايات المتحدة الأوائل إلى وضع تلك المادة في الدستور، ولماذا يُصر المواطن الأمريكي حتى اليوم على حقه في حمل السلاح، وحيازته؟ لقد أدخل المؤسسون الأوائل ذلك التعديل الدستوري عام ١٧٩١م خوفًا على الدولة حديثة النشأة من العصابات النظامية التي كانت موجودة داخل بعض الولايات، تلك العصابات التي كانت تحمل -في كثير من الأحيان- ولاءات لقوى خارجية. فقد جاء نص التعديل الثاني كما يلي: "تُعد الميليشيا، المنظَّمة تنظيمًا جيدًا، ضرورية لضمان أمن الدولة الحرة، فلا يجوز تقويض حق الشعب في حمل السلاح، والاحتفاظ به". وهكذا أدخل المؤسسون ذلك التعديل، ومنحوا المواطنين حق حمل السلاح حتى يكونوا دومًا على استعداد للدفاع عن ولاياتهم ضد أية اعتداءات محلية، أو خارجية. وربما تجدر الإشارة هنا إلى أن الحق في حمل السلاح حُرم منه كل من السود الأحرار، والعبيد القادمون من إفريقيا، أو حتى من السكان الأصليين([5]).

لكن اليوم، ومع ارتفاع معدلات ضحايا عنف السلاح الذي طال الجميع، حتى الأطفال داخل المدارس، فإن من الطبيعي أن نتساءل: لماذا تصر الولايات المتحدة، والمشرع الأمريكي على التمسك بذلك التعديل الدستوري؟ قد نتفهَّم أن هذا التعديل الدستوري كان لازمًا في حقبة زمنية محددة، لكن اليوم وبعد أن باتت الولايات لُحمة واحدة، وصارت الولايات المتحدة واحدة من أقوى القوى العسكرية النظامية في العالم، فلماذا هذا التمسك بـ"حق حيازة السلاح"؟ بل من العجيب أن المواطن الأمريكي يعتبر حق حيازة السلاح جزءًا من هويته الأمريكية، وأن تخليه عن ذلك الحق هو بمثابة تخليه عن كرامته، وحريته التي كفلها له الدستور.

ولسنا نتحدث بالضرورة عن التخلي عن السلاح، ولكن على الأقل تنظيم هذا الحق، وتقنينه ضمانًا لئلا يُصبح استخدامه وسيلة لزيادة العنف، وأداة لتشجيع المتطرفين على ارتكاب أعمال إرهابية. ولا بد هنا من ذكر بعض الحقائق المهمة عن أزمة عنف السلاح داخل الولايات المتحدة. فكما ذكرنا أعلاه أن عام ٢٠٢١م (وهو أحدث إحصائية شاملة متوفرة) شهد وقوع (٤٨٨٣٠) ضحية لعنف السلاح، كذلك ذكر "معهد بيو للأبحاث" أن ذلك العام شهد أعلى معدل وفيات لعنف السلاح عن أي عام سابق([6]). في حين شهد عام ٢٠٢٣م حتى الآن حوالي (٢٠٠) حادث إطلاق نار جماعي – وفقًا لتعريف "مؤشر أرشيف عنف السلاح"- وهذه الإحصائيات تشمل الحوادث التي وقعت داخل البيوت، وفي الأماكن العامة([7])، أي إن من بين كل (١٠) حوادث قتل، وقع (٨) منها بسبب استخدام "سلاح ناري".

كما أن الأعوام العشرين الأخيرة شهدت ارتفاعًا غير مسبوق في معدلات ارتكاب حوادث "إطلاق النار العشوائي"، وكشف مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي أن تلك الحوادث ارتفعت بين عامي ٢٠٠٠م، و٢٠٢١م، من (٣) حوادث إلى (٦٣) حادثة. ويذكر أرشيف عنف السلاح أن عام ٢٠٢٣م (حتى ٢٢ من يونيو) شهد مقتل (٢٠٢٧٨) شخصًا؛ بسب العنف المسلح، ومن بين هؤلاء (١٣٤) طفلًا، و(٧٢٠) مراهقًا([8]).

ولابد لنا أن نذكر أن عنف السلاح لا يقتصر على العنف بين البالغين، أو أفراد العصابات، بل إن الأطفال لهم نصيب لا يُستهان به –للأسف- من تلك الأزمة. فعلى سبيل المثل، منذ عام ١٩٩٩م وقع (٣٨٦) حادث إطلاق نار داخل المدارس، فضلًا عن أعداد ضحايا تلك الحوادث من الأطفال، أو المعلمين –بين قتيل، ومصاب- ممن خلَّفوا أُسَرًا تُعاني من وضع نفسي سيء، كما أن الأطفال الذين شهدوا تلك الحوادث عانوا من اضطرابات نفسية خطيرة، إضافة لفقدان زملائهم بالمدرسة، أو غرف الدراسة([9]).

بل إن من الحقائق الصادمة أن (٤,٦٪) من الأطفال الأمريكيين يسكنون داخل منزل يوجد به سلاح مُذَخَّر، وغير محفوظ في مكان آمن بعيد عن متناولهم. ولقد شهد شهر يونيو هذا العام حادثًا أقل ما يوصف به أنه كارثي، عندما وصل طفل يبلغ من العمر عاميْن إلى السلاح الذي يملكه والده، وعندما حاولت والدته أخذه من يده أطلق النار عليها، وتوفيت السيدة –التي كانت حبلى- ولم تتمكن فرق الإسعاف من إنقاذها([10]). أية صدمة، ومأساة ستعيشها تلك الأسرة التي فقدت الأم، وطفلًا لم ير النور بعد!!! أي حياة سيعيشها الطفل ذو العامين بعد أن قُتلت والدته بيديه!!! كذلك تُشير الدراسات إلى أن (٦٨٪) من حوادث إطلاق النار التي تقع داخل المدارس حصل فيها مرتكب الحادث على السلاح، إما من منزله، أو من صديق، أو من أحد الأقارب([11]). وهي حقائق تؤكد جميعها خطورة فكرة وجود سلاح يسهل الوصول إليه داخل المنزل.

الأدهى من ذلك أن الأبحاث تؤكد أن الأطفال الذين تعرضوا لأي شكل من أشكال العنف –جريمة، أو اعتداء، أو حادث إطلاق نار- هم أكثر عُرضة من غيرهم للوقوع ضحية لإدمان المخدرات، والمسكرات، كما أنهم معرضون للإصابة بالأمراض النفسية مثل الاكتئاب، والتوتر، واضطراب ما بعد الصدمة، إلى جانب معاناتهم من ضعف التحصيل الدراسي، وتراجع مستوياتهم العلمية، وانضمامهم إلى العصابات. وعلى ذلك، فلم تعُد الأزمة مقتصرة على ارتكاب حوادث عنف وضحاياها، بل هي أزمة ممتدة، ومتشعبة في المجتمع بأسره، وآثارها متجذرة حتى في تفاصيله الصغيرة.

كانت هذه إطلالة سريعة على أزمة السلاح في الولايات المتحدة، وأثرها في المجتمع، وسنحاول في العدد الثاني من هذا المقال تسليط الضوء على اثنين من أهم محركات تلك الأزمة في المجتمع الأمريكي، وكذلك جهود الساسة الأمريكيين نحو اتخاذ خطوات جادة لحماية المجتمع من آثار عنف السلاح.

 
طباعة