عقد الجامع الأزهر أمس الأربعاء، اللقاء الأسبوعي لملتقى السيرة النبوية، تحت عنوان: "أهل بدر نموذجًا" وذلك بحضور كل من: أ.د/ حسن القصبي، أستاذ الحديث وعلومه بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بالقاهرة، وأ.د/ نادي عبد الله محمد، أستاذ الحديث وعلومه ووكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية لشئون الدراسات العليا بالقاهرة، وأدار الحوار الأستاذ/ إسماعيل دويدار، رئيس إذاعة القرآن الكريم.
في بداية اللقاء، قال الدكتور/ حسن القصبي: إنه وردت العديد من الأحاديث النبوية التي تُبيِّن فضل أهل بدر ومكانتهم العالية عند الله؛ فقد غفر الله لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، ووعدهم بالجنة؛ لهذا مَثَّلَ أهل بدر نموذجًا فريدًا للإيمان الصادق والتضحية بالنفس في سبيل الله ونصرة دِينه؛ فقد لبوا نداء النبي ﷺ في لحظة عصيبة، وواجهوا العدو مع قلة عددهم وقلة عتادهم بإيمان راسخ وشجاعة فائقة، مشيرًا إلى أن غزوة بدر إقرار لقوانين وسُنن كونية في هذا الكون، القانون الأول وهو ما يظهر من قول الحق سبحانه تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ} أي: إن النصر من عند الله سبحانه وتعالى وحده، والقانون الثاني: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي: إن نصر الحق سبحانه وتعالى يكون للمؤمنين، ولكن عليهم أن يأخذوا بالأسباب، وأن يؤدوا ما عليهم. أما القانون أو السُّنَّة الكونية الثالثة: هي ضرورة التسليم والإيمان بالله مع العمل والبذل؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يُعطي دون عمل؛ كما في قوله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ}.
وأشار أستاذ الحديث إلى الموقف المُشرِّف الذي أظهره الأنصار في الاستعداد لغزوة بدر عندما استشارهم النبي ﷺ في أمر المعركة؛ فقال قائدهم سعد بن معاذ: والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: «أجل»، قال سعد: فقد آمنَّا بك؛ فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تَخلَّف مِنَّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوًّا غدًا إنا لصَبْرٌ في الحرب، صِدْقٌ في اللقاء، ولعل الله يريك منَّا ما تقر به عينك؛ فَسِرْ بنا على بركة الله. وهذا الموقف يدل على الصدق والإيمان الذي انعكس في موقفهم مع رسول الله ﷺ وفي نصرة الحق، وهو ما جعل النبي يستبشر بهذا الموقف المشرف.
وأوضح الدكتور/ حسن القصبي، أن نصر المسلمين في غزوة بدر كان من أهم أسبابه هو الإيمان العميق الذي تجذر في قلوب المسلمين ووجدانهم، إضافة إلى مبدأ مهم أسس له النبي ﷺ في قيادته للأمة الإسلامية؛ ليكون الأساس بعد ذلك في كل شيء وهو "مبدأ الشورى" وهو ما يظهر من المشهد الذي دار بينه وبين الحُباب بن منذر: أمنزلًا أنزلكه الله ليس لنا أن نتعداه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال النبي محمد: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة»؛ ليكون ذلك درسًا لكل قائد بعد ذلك بضرورة التأمل والتشاور مع من حوله؛ من أجل تحقيق النفع لعموم المسلمين.
من جانبه، أكد الدكتور/ نادي عبد الله محمد، أهمية الاستفادة من دروس غزوة بدر؛ حيث يتجلى ذلك بوضوح في تضحيات الصحابة وإيمانهم الراسخ بقضيتهم، وثباتهم على الحق، واعتزازهم بهُويتهم، واستعدادهم للتضحية بكل غالٍ ونفيس في سبيل الحفاظ على هذه القيم والمعاني السامية التي آمنوا بها؛ لأن النبي ﷺ غَرَسَ فيهم تلك المعاني؛ ليصبغهم بصبغة الإيمان {صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}؛ لأن الأمة لا يمكن أن تنتصر إلا إذا ظهرت في كل أركانها صبغة الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، مستنكرًا أن يطلب المسلم نصر الله وهو لا يتحلى بهذا المبدأ الإيماني الذي غرسه النبي ﷺ في الأمة، والقرآن الكريم أشار إلى هذا المعنى في قوله: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}. كما أن الميل إلى الأعداء على حساب الدين والعقيدة لا يعود على الأمة إلا بالخذلان.
وبَيَّنَ الدكتور/ نادي عبد الله، أن انتصار المؤمنين في غزوة بدر لم يكن وليد اللحظة، بل كان ثمرة جهود النبي ﷺ المضنية على مدى سنوات طويلة في تربية أصحابه على الثبات على الحق، وغرس الإيمان العميق في نفوسهم، وهو ما تجلى بوضوح في ذلك اليوم العظيم، مشيرًا إلى أن غزوة بدر كانت تطبيقًا عمليًّا لقوة إيمان المسلمين ومدى استعدادهم لنصرة الحق وإعلاء كلمة الحق سبحانه وتعالى، ويمثل جيل الصحابة الذين شهدوا غزوة بدر قدوة عظيمة في التمسك بالحق والاعتزاز بالدين والهُوية، بالإضافة إلى التزامهم بالأخذ بالأسباب، وهو تجسيد عملي لمبادئ الإسلام، محذرًا شبابنا من المحاولات التي يقف خلفها أعداء هذه الأمة؛ لإبعادهم عن قيم الدين الإسلامي؛ ليكونوا بذلك فريسة سهلة أمامهم.
وفي السياق ذاته، قال الأستاذ/ إسماعيل دويدار: إن المتأمل للمواقف التي انتصر فيها المسلمون يجد أنهم حققوا ذلك بسبب قربهم من الله، والتزامهم بالمنهج الذي أرسل به رسوله ﷺ كما نجد أن المرات التي حدث فيها انكسار للمسلمين كان ذلك نتيجة عدم التزامهم بالمنهج الذي أمروا به، وهو رسالة لنا أن الفلاح والنصر يكمن في الالتجاء إلى الله، وحُسن الإيمان به والتوكل عليه، وعلينا أن نأخذ بالأسباب، وأن نتوكل على الله سبحانه وتعالى، وأن نثبت على الحق؛ لأن ذلك هو سبيل النجاة في الدنيا والأخرى: {إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٍ}.
يُذكر أن ملتقى "السيرة النبوية" الأسبوعي يُعقد الأربعاء من كل أسبوع في رحاب الجامع الأزهر الشريف، تحت رعاية فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وبتوجيهات من الأستاذ الدكتور/ محمد الضويني، وكيل الأزهر؛ بهدف استعراض حياة النبي محمد ﷺ، وتسليط الضوء على المعالم الشريفة في هذه السيرة العطرة؛ لنستفيد بها في حياتنا.