يقول علماء الأصول: "الحُكم على الشيء فرعٌ عن تصوره"، وهي قاعدةٌ ذهبيةٌ تكشف بوضوح جليٍّ مدى عُمق التفكير والنظر لدى هؤلاء العلماء الأفذاذ في مقاصد الشريعة وغايتها والنظر إليها بعين البصيرة لا بعين البصر وحدها. والبَوْن بين النظرتين شاسع حقًّا؛ فالذي يملك بُعد النظر ويفكر في مآلات الأمور لا يمكن أن يتساوى مع ضيِّق الأفق قصير النظر الذي لا ينظر إلا أسفل قدميه، فيتفاجأ بالكثير من العثرات والصدمات التي يمكن أن توقفه أو تهزمه؛ بخلاف الناقد البصير.
يُمكن توضيح الفارق بين النظرتين من خلال المقارنة بين النظرة العابرة التي لا تغوص في الأعماق، مثل النظرة لإحدى المسلَّات الفرعونية الشاهقة بوصفها محض قطعة من الحجارة أو منحوتة جميلة في أحسن الأحوال، أو النظرة المتعمقة بعين البصير الناقد الذي يتجاوز الظاهر إلى الباطن، والمظهر إلى الجوهر فيتساءل: كيف أُبدِعَت تلك التحفة الفريدة الشاهدة على حضارة أمة عظيمة؛ وكيف لأناس عاشوا من آلاف السنين أن ينحتوا قطعة واحدة ضخمة تصل لمئات الأطنان من الجرانيت الأحمر الأكثر صلادة بهذه الدقة وهذه المهارة دون وجود آلات حديثة؟! وكيف استطاعوا النقش عليها برموز ورسوم بهذه الطريقة الهندسية المُعجزة؟! وما الأدوات المستخدمة في النحت والرسم والنقل والتثبيت في ذلك الزمن البعيد؟! وكيف وقف العلم -حتى اليوم- حيرانًا أمام تفسير هذا الإعجاز الهندسي العملي؟! وما الباعث على هذه الرؤية الجمالية للأشياء؟! كل هذه التساؤلات تُزاحم عقل الناظر المتبصر المتفكر، فيسعى جاهدًا في الوصول إلى ما يروي ظمأ علمه، ويسد جوع فكره، فيرى ما لا يراه العابر بنظره الضيِّق المحدود، وتنمو عنده ملكة الفقه والتدبر في كل مجال يُمعن فيه نظره؛ فيقف على أرض صلبة لا يمكن أن تحيد به إلى غير سبيل النجاة والنجاح، ولا يمكن أن يكون لقمًة سائغًة أو فريسًة لأيٍّ من شياطين الإنس والجن. وهذا الذي اعتاد أن يُمعن نظره ويُعمل عقله هو الفقيه الذي قال فيه رسول الله (ﷺ): "لفقيهٌ واحدٌ أشد على الشيطان من ألف عابد" (أخرجه الترمذي وابن ماجه، والبخاري في "التاريخ الكبير"، وابن المنذر في "الأوسط"، والطبراني في "المعجم الكبير، وغيرهم).
تلكمُ النظرة المُتسائلة المُتفكرة هي التي دعا إليها الإسلام في قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: ٢٠]. قال القرطبي في تفسير هذه الآية: "يقول تعالى ذكره لـ محمد (ﷺ): "قل يا محمد للمنكرين للبعث بعد الممات، الجاحدين الثواب والعقاب: "سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ" الله الأشياء وكيف أنشأها وأحدثها..."؛ فالنظر في الآية الكريمة ليس المقصود به مجرد النظر، إنما المقصود به التفكر والتدبر والنظر بعين البصيرة لا بعين البصر؛ بينما يشير إلى أمر البصيرة التي تحتاج إلى مزيد من النظر والتدبر ومعرفة حال المخاطب ومراعاة المقام، وهذا هو المطلوب في الدعوة، كما قال علي (رضي الله عنه): "حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله؟!". وكما قال ابن مسعود: "ما أنت بمُحدِّث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة؛ ولذلك يقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: ١٠٨].
ولا شك أنه من الدعوة "على بصيرة" كما أمرنا القرآن أن نبدأ بمواجهة الخطر الأكبر الذي يحيق بنا، وأن نقدِّر كل شيء بقدره؛ فظهور فرقة أو جماعة تدعوا إلى إنكار حجية السنة أمر جَلل، خصوصًا في ظل الشكوك حول مقاصد تلك الجماعة في طرح القضايا التراثية الفقهية للنقاش والحوار، وهل هدف هذا الطرح هو التشكيك في التراث بغرض النقض أم النظر العلمي؟ ومع ذلك، فمن أسباب ظهور تلك الجماعة وأمثالها التدافع مع ظهور جماعات أخرى متشددة دينيًّا، وتتخذ التشدد والغلو مع المخالفين من المسلمين منهجًا، وتظن أن هذا من صميم الدين، بزعم وجوب البراءة من أهل البدع والأهواء، والمقصود بأهل البدع والأهواء عندهم كل مخالف لا يتبع منهجهم ولا يسير في ركبهم ولو كان منهم، وهؤلاء -لا ريب - أخطر، لأنهم يستحلون دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم باسم الدين، وينشرون الفرقة والكراهية باسم الدين، وهؤلاء أيضًا يخالفون القرآن الذي أمرنا بالاعتصام والوحدة والتآلف والتحابّ، قال تعالى: {وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ لله جَمِیعًا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أعداءࣰ فَأَلَّفَ بَیۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦۤ إِخۡونا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةࣲ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَایَـٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} [آل عمران: ١٠٣[. قال القرطبي: "قوله تعالى "وَٱعۡتَصِمُوا" فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى الْعِصْمَةُ الْمَنْعَةُ، ورُوى عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" قَالَ: الجماعة، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ بِالْأُلْفَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْفُرْقَةِ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ هَلَكَةٌ وَالْجَمَاعَةَ نَجَاةٌ، وأما المسألة الثانية تتعلق بقَوْلُهُ تَعَالَى: "وَلا تَفَرَّقُوا" يَعْنِي فِي دِينِكُمْ، كَمَا افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي أَدْيَانِهِمْ، كما روى ذلك ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المَعْنى، وَلَا تَفَرَّقُوا مُتَابِعِينَ لِلْهَوَى وَالْأَغْرَاضِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَكُونُوا فِي دِينِ اللَّهِ إِخْوَانًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَنْعًا لَهُمْ عَنِ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الِاخْتِلَافِ فِي الْفُرُوعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ اخْتِلَافًا إِذِ الِاخْتِلَافُ مَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الِائْتِلَافُ وَالْجَمْعُ، وَأَمَّا حُكْمُ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهَا بِسَبَبِ اسْتِخْرَاجِ الْفَرَائِضِ وَدَقَائِقِ مَعَانِي الشَّرْعِ، وَمَا زَالَتِ الصَّحَابَةُ يَخْتَلِفُونَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَآلِفُونَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): "اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ" وَإِنَّمَا مَنَعَ اللَّهُ اخْتِلَافًا هُوَ سَبَبُ الْفَسَادِ."
وقد أمرنا الله تعالى بعدم التنازع لأن مصيره حتمًا الفشل وضياع الأمة (الدولة) كما في قول الله تعالى: {وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَـٰزَعُوا۟ فَتَفۡشَلُوا۟ وَتَذۡهَبَ رِیحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ} [الأنفال: ٤٦]، فيقول الفخر الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب"،: إن قوله تعالى: {ولا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} فيه مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: بَيَّنَ تَعالى أنَّ النِّزاعَ يُوجِبُ أمْرَيْنِ، أحَدُهُما أنَّهُ يُوجِبُ حُصُولَ الفَشَلِ والضَّعْفِ، والثّانِي: قَوْلُهُ: "وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ"، وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: المُرادُ بِالرِّيحِ الدَّوْلَةُ، شُبِّهَتِ الدَّوْلَةُ وقْتَ نفادها وتَمْشِيَةِ أمْرِها بِالرِّيحِ وهُبُوبِها، يُقالُ: هَبَّتْ رِياحُ فُلانٍ، إذا دانَتْ لَهُ الدَّوْلَةُ ونَفَذَ أمْرُهُ، والثّانِي: أنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ نَصْرٌ إلّا بِرِيحٍ يَبْعَثُها اللَّهُ، وفي الحَدِيثِ: "نُصِرْتُ بِالصَّبا، وأُهْلِكَتْ عادٌ بِالدَّبُورِ" والقَوْلُ الأوَّلُ أقْوى؛ لِأنَّهُ تَعالى جَعَلَ تَنازُعَهم مُؤَثِّرًا في ذَهابِ الرِّيحِ، ومَعْلُومٌ أنَّ اخْتِلافَهم لا يُؤَثِّرُ في هُبُوبِ الصَّبا، قالَ مُجاهِدٌ: "وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ" أيْ نُصْرَتُكم، وذَهَبَتْ رِيحُ أصْحابِ مُحَمَّدٍ حِينَ تَنازَعُوا يَوْمَ أُحُدٍ.
كذلك قال تعالى: {مُنِیبِینَ إِلَیۡهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَلَا تَكُونُوا۟ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ ٣١ مِنَ ٱلَّذِینَ فَرَّقُوا۟ دِینَهُمۡ وَكَانُوا۟ شِیَعًاۖ كُلُّ حِزۡبِۭ بِمَا لَدَیۡهِمۡ فَرِحُونَ ٣٢} [الروم: ٣١-٣٢]، قال شيخ المفسرين الطبري: "وقوله "مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعًا" أي: ولا تكونوا من المشركين الذين بدّلوا دينهم، وخالفوه ففارقوه "وكانوا شِيَعًا" أي: وكانوا أحزابًا فرقًا كاليهود والنصارى."
والقرآن فيه آيات تحذر من الفرقة وتدعوا للوحدة، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} [الأنعام: ١٥٩] وقوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: ٥٢-٥٣ .
وأما الحديث العمدة الذي يستند إليه أدعياء الحق في زعمهم أن الفرقة من الدين هو قوله (ﷺ) في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي"، وفي بعض الروايات: هي الجماعة، فقد اختلف العلماء في سنده على قولين؛ منهم من صححه، كأبي داود والحاكم وابن حجر، ومنهم من ضعّف زيادة "كلها في النار إلا واحدة"، وهم ابن حزم والشوكاني ومحمد بن إبراهيم الوزير، أمّا الإمام محمد بن أحمد البشاري المقدسي فذكر رواية "كلها في الجنة إلا واحدة" ثم قال: "الثانية أكثر شهرة، والأولى أصح سندًا".
وساق الحديث الإمام الترمذي من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص وقال "حديث غريب"، وقال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى في سورة الأنعام: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ٱنظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}، وقد ورد في الحديث المروي من طرق عنه (ﷺ) أنه قال: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة"، ولم يزد على ذلك فلم يصفه بصحة ولا حسن، رغم أنه أطال تفسير الآية بذكر الأحاديث والآثار المناسبة له، وذكر الإمام الشوكاني قول ابن كثير في الحديث ثم قال: "قلت: أما زيادة "كلها في النار إلا واحدة"، فقد ضعفَّها جماعة من المحدِّثين، بل قال ابن حزم إنها موضوعة."
وعلى فرض صحة الرواية، فقد اختلف العلماء أيضًا في فهم الحديث، لأنه يدل على أن هذه الفرق كلها جزء من أمته (ﷺ)، بدليل قوله: "تفترق أمتي". وأنه رغم الاختلاف لم تخرج عن الملة، ولم تُفصَل من جسد الأمة المسلمة، وكونها "في النار" لا يعني الخلود فيها كما يخلد الكفار، بل يدخلونها كما يدخلها عصاة الموحدين، وقد يعفو الله عنهم بفضله وكرمه.
وقال الصنعاني في كتابه "افتراق الأمة إلى نيف وسبعين فرقة": "وَلما كَانَ حَدِيث الِافْتِرَاق مُشكلًا كَمَا ترى أجَاب بَعضهم بِأَن المُرَاد بالأمة فِيهِ: أمة الدعْوَة لَا أمة الْإِجَابَة، يَعْنِي أَن الْأمة الَّتِي دَعَاهَا رَسُول الله (ﷺ) إِلَى الْإِيمَان بِاللَّه وَالْإِقْرَار بوحدانيته هِيَ المفترقة إِلَى تِلْكَ الْفرق، وَأَن أمة الْإِجَابَة هِيَ الْفرْقَة النَّاجِية يُرِيد بهَا من آمن بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِي (ﷺ)".
كذلك ذكر الشاطبي في كتابه "الاعْتِصَام" أن العلماء اخْتَلَفَوا فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ الْمُرَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى خَمْسَةِ أقوال، وذكر أولها أَنَّ المقصود بها السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَبِي غَالِبٍ من أِنَّ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ هُمُ النَّاجُونَ مِنَ الْفِرَقِ، فَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، سَوَاءٌ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَوْ فِي إِمَامِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ.
إن هذا المنهج المتشدد الذي يعتني بالظاهر ولا يكترث للمقاصد، ويتجاوز حد الاعتدال إلى درجة الغلو والتشدد يمثل تهديدًا وخطرًا على الأمة الإسلامية؛ لأن أصحاب هذا المنهج يتبنون أفكارًا متشددة، ويسعون لفرضها على المجتمع المسلم بزعم أن هذا هو الدين وليس فهمهم هم لنصوصه، بل يجعلون المسائل الخلافية في الفروع أحكامًا قطعية مُلزمة، وهو كذب وافتراء؛ لأن تشددهم يُعمي أبصارهم ويدفعهم لجعل الدين كله أو أغلبه أصولًا وعقيدةً. والأمر ليس كما يزعمون، فالإسلام دين متين يحث على الرفق واللين واليسر، ويدعو للوحدة، ويُحَرِّم النزاع والشقاق والخلاف، ولذلك يقول الرسول (ﷺ) في الحديث الذي رواه ابن عباس في صحيح مسلم: "إياكم والغلو في الدين، إنما هلك من كان قبلكم بغلوهم في الدين"، وعلق الإمام النووي في شرح صحيح مسلم على حديث "هلك المتنطعون" بقوله: "هلك المغالون المتجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم". فاللهم اجعلنا من الذين يتعلمون فيفقهون، ومن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وحدة اللغة الألمانية