عقدت اللجنة العليا لخطة العمل الوطنية اجتماعًا برئاسة رئيس الوزراء "محمد شهباز شريف" بتاريخ ٢٢ من يونيو ٢٠٢٤م، وشارك فيه أيضًا قائد الجيش الجنرال "عاصم منير". وانتهى المجتمعون إلى الموافقة على عملية لمواجهة الإرهاب باسم "عزم استحكام"، أي: العزم على فرض الأمن والاستقرار في البلاد؛ وذلك للسيطرة على الإرهاب المتنامي في باكستان.
ومنذ ذلك الحين، أعربت أحزاب المعارضة السياسية وغيرها من الدوائر عن مخاوف وتحفظات على العملية المزعومة. وقد رفضها "مولانا فضل الرحمن" - رئيس جمعية علماء الإسلام - ووصفها بأنها "عملية عدم الاستقرار". الأمر نفسه حدث مع شيوخ القبائل الذين يرون أن هذه العمليات تتطلب نزوح أعداد كبيرة من السكان المحليين مثلما حدث في عمليات سابقة مشابهة. إلا أن الوضع مختلف الآن؛ إذ لا يوجد متطرفون في منطقة بعينها، ومن ثمّ فإجلاء السكان في مثل هذه الحالة سيكون مهمة صعبة.
يبدو أن هذه العملية تهدف إلى إنهاء النفوذ المتزايد لحركة طالبان الباكستانية في المناطق القبلية على مدى السنوات الثلاث الماضية، هذه الحركة التي أعلنت - في الشهر الماضي - مسئوليتها عن ٩٨ هجومًا داخل باكستان، استهدف معظمها قوات الأمن، وفقًا للأرقام الصادرة عن حركة طالبان الباكستانية. كما أن هذه الحركة تنفذ هجمات مُحْكَمة التخطيط في بعض مناطق إقليم خيبربختونخوا وشمال وزيرستان وجنوب وزيرستان؛ من أجل استعادة السيطرة على تلك المناطق. ومن هنا يبرز الاحتياج الماسّ إلى إستراتيجية متكاملة لمنع ذلك.
تجدر الإشارة إلى أن هذه ليست المرة الأولى لإطلاق عملية لمكافحة الإرهاب في باكستان؛ بل شهد العقدان الماضيان تنفيذ عمليات مماثلة في البلاد، وكان للمناطق القبلية نصيب وافر منها. ففي عام ٢٠٠٧ أطلق الرئيس السابق الجنرال "برويز مشرف" أول عملية عسكرية كبرى ضد حركة طالبان باكستان في منطقة "سوات" في إقليم "خيبر بختونخوا" تحت اسم "راهِ حق".
وفي عام ٢٠٠٩، تدهور الوضع الأمني في "سوات" مرة أخرى عندما ظهر "الملا فضل الله"، وأطلق الجيش بقيادة قائد الجيش المتقاعد آنذاك "أشفق برويز كياني"، عملية تحت اسم "راهِ راست" واستمرت نحو ثلاثة أشهر. وفي جنوب وزيرستان، أُطلِقت عملية "راهِ نجات" في عام ٢٠٠٩، فيما شهد عام ٢٠١٤م إطلاق أكبر عملية عسكرية في تاريخ البلاد تحت مسمى "ضرب عضب"، بقيادة الجنرال "رحيل شريف". وفي عام ٢٠١٦، أي عندما تولى الجنرال "قمر جاويد باجوا" قيادة الجيش، أُطلِقت عملية استخباراتية تسمى عملية "رد الفساد" وشمل نطاقها جميع أنحاء البلاد.
ما سبب العملية الجديدة؟
منذ تشكيل حكومة طالبان في دولة أفغانستان المجاورة لباكستان، شهدت باكستان زيادة ملحوظة في أنشطة المسلحين، وهو ما ترتب عليه زيادة في الخسائر البشرية. ففي العام الماضي ٢٠٢٣، فقد أكثر من خمسمائة فرد من قوات الأمن الباكستانية أرواحهم في هجمات إرهابية، فيما قُتِل في الأشهر الستة الأولى من العام الحالي ٢٠٢٤ مئتان وخمسون فردًا. ومن الملاحظ -خلافًا للماضي- أن المسلحين يستهدفون قوات الأمن أكثر من مهاجمة الأماكن العامة كما كان نهجهم من قبل. وقد أوضح وزير الدفاع "خواجة محمد آصف" أن الإرهاب قد يتسلل إلى أقاليم أخرى غير خيبر بختونخوا وبلوشستان حال عدم التصدي لتلك العمليات المسلحة.
هل الأمر مرتبط بالصين؟
يقول المراقبون: إن الوضع الأمني مُرْضٍ تمامًا مقارنة بعام ٢٠٠٨-٢٠٠٩، إلا أن قرار العملية يمكن أن يُعزى إلى الهجمات التي تعرض لها مواطنون صينيون في باكستان، حيث تواجه باكستان مشكلات اقتصادية خطيرة، وتبذل الحكومة الحالية جهودًا لإحياء مشروع الممر الصيني الباكستاني (CPEC)؛ وهو مشروع اقتصادي ضخم يضم عددًا من مشاريع البنى التحتية في باكستان، لعل أبرزها يهدف إلى إنشاء طريق بري يربط بين مدينة كاشغر (في الصين) وميناء "جوادار" الباكستاني. وهو جزء من مبادرة الحزام والطريق التي تهدف إلى ربط مقاطعة "شينجيانغ" غرب الصين عن طريق البر بميناء "جوادار" بباكستان، ما سيسهل وصول الصين إلى بحر العرب، ويبدو أن نية الحل العسكري قد أصبحت واضحة من خلال هذه العملية الجديدة.
وبعد الهجمات الحديثة التي استهدفت مواطنين صينيين، ثمة تصور عام أن باكستان تتعرض لضغوط من الصين لضمان أمن مواطنيها ومشاريع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني. لكن وزير الدفاع "خواجة آصف" يقول: إنه لا توجد ضغوط من الصين على باكستان لبدء هذه العملية، ومع ذلك صرح أن التعامل مع التهديد المُحدِق بالمواطنين الصينين داخل في نطاق العملية بطبيعة الحال، لكن الغرض الرئيس منها هو حماية المواطنين في باكستان.
وقد تحدث الوزير الصيني "ليوجيان تشاو"، الذي حضر اجتماع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، بصراحة غير عادية وشدد على تحسين الوضع السياسي والنظام العام. لكن الحكومة نفت هذه المرة أن تكون هذه العملية الجديدة قد بدأت بطلب من الصين، وتقول: إنه لا يوجد طلب بهذا المعنى من الصين أصلًا. والغاية الأكبر من ذلك ذلك هو إرسال رسالة واضحة إلى المتطرفين ومؤيديهم مفادها أن دولة باكستان لم تضعف وأن العمل ضدهم سيستمر إلى أن يستقر الأمن في البلاد.
ما الجماعات المسلحة التي تستهدف المصالح الصينية في باكستان؟
ثمة معارضة شديدة من عدد من التنظيمات الانفصالية المحظورة في بلوشستان للممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني في الإقليم، حتى إنها أعلنت مسئوليتها عن الهجمات على مشاريع الممر في مواقع مختلفة منه. وترى تلك التنظيمات أنه ينبغي التخلي عن خطة الاستيلاء على أراضي بلوشستان ومواردها الطبيعية. ومن هذه التنظيمات:
· جيش تحرير بلوشستان (BLA): شن هذا التنظيم هجمات انتحارية على السكان والمنشآت الصينية، علمًا بأن المنظمة تسمي عملياتها باسم "هجمات الفدائيين". وفي مايو ٢٠٠٤، أي قبل تسع سنوات من إعلان الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني، وقع أول هجوم على المصالح الصينية في مدينة "جوادار" الساحلية في بلوشستان باستهداف مركبة تقل خبراء صينيين لبناء ميناء بسيارة مفخخة، وأعلن جيش تحرير بلوشستان مسئوليته عن الهجوم.
· جبهة تحرير بلوشستان (BLF): تعتبر جبهة تحرير بلوشستان أقوى جماعة مسلحة وأكثرها تنظيمًا في التمرد المستمر في بلوشستان. وقد كتب رئيسها "الدكتور الله نذر بلوش" رسالة إلى السفير الصيني لدى باكستان في ٢٠١٨ هدد فيها باستهداف المصالح الصينية والمقيمين، بما في ذلك السياح والعمال.
· جبهة بلوش راجي أجوي سينجر (براس): شُكِلَت في يوليو ٢٠٢٠ جبهة بلوش راجي أجوي سينجر، وهي جبهة مشتركة من أربع منظمات تستهدف المصالح الصينية في باكستان، هي: جيش تحرير بلوشستان، وجبهة تحرير بلوشستان، (BRA)، و(BRG). وفي وقت لاحق، انضم جيش السند الثوري -وهو منظمة مسلحة في السند- إلى هذا التحالف أيضًا. وجيش السند الثوري هو المسئول عن انفجار السفارة الصينية في كراتشي عام ٢٠١٣، واستهداف مركبة مهندس صيني في منطقة "جولشان" بكراتشي عام ٢٠١٦، والهجوم على مسئولي مشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني بالقرب من "سوكور"؛ كما كان ضالعًا في الهجوم على مواطنين صينيين في كراتشي في ديسمبر ٢٠٢٠.
· الجماعات الانفصالية السندية: أطلقت الفصائل المرتبطة بحركة "تحيا السند" -التي تناضل من أجل استقلال السند عن باكستان- حملة سلمية لمقاطعة المنتجات الصينية في عام ٢٠١٢ في أعقاب خطة إنشاء مدينة تسمى "ذو الفقار" آباد بالقرب من "ثاتا" بدعم مالي صيني.
· حركة طالبان باكستان: أعلنت حركة طالبان الباكستانية مسئوليتها عن قتل واختطاف عدد من المواطنين الصينيين في إقليمي خيبر بختونخوا وبلوشستان في الماضي. ففي أكتوبر ٢٠٠٤، اختطف زعيم طالبان الباكستانية عبد الله محسود مهندسين صينيين كانا يعملان في بناء سد جومالزام في منطقة وزيرستان الجنوبية القبلية في باكستان، ثم أُطلِق سراحهما مقابل إطلاق سراح اثنين من مقاتلي حركة أوزبكستان الإسلامية. وفي يوليو ٢٠٠٧، أعلنت حركة طالبان الباكستانية مسئوليتها عن مقتل ثلاثة مهندسين صينيين من منطقة تشارسادا في خيبر بختونخوا، وذلك انتقامًا لمقتل زعيم حركة تركستان الشرقية الإسلامية في الصين. وفي رسالة مصورة عام ٢٠١٤ بعنوان: "تعالوا نسبب المتاعب إلى الصين"، قال المفتي أبو "ذر البارمي"، وهو مواطن باسكتاني والمنظّر المؤثر لتنظيم القاعدة: إن الصين ستكون "الهدف التالي" بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان. وأصدر تعليماته لجميع الجماعات المتطرفة بمهاجمة السفارات والشركات الصينية واختطاف أو قتل المواطنين الصينيين. ويقول مسؤولون أمنيون في باكستان: إن إعادة توحيد فصائل حركة طالبان الباكستانية حديثًا زاد في التهديد للمشاريع المدعومة من الصين في باكستان.
· وفي ديسمبر ٢٠٢٢م، هاجم فرع تنظيم داعش خراسان فندقًا يستخدمه مواطنون صينيون في كابول، ما أدى إلى إصابة ٢١ شخصًا، من بينهم خمسة مواطنين صينيين. ووصف خبراء أمنيون الهجوم بأنه صداع جديد لبكين الحريصة على حماية المصالح الصينية في باكستان وأفغانستان. وهذا هو الهجوم الثاني الذي يشنه تنظيم داعش خراسان ضد مواطنين صينيين في المنطقة بعد اختطاف وقتل مدرسين صينيين في مدينة كويتا الباكستانية في مايو ٢٠١٧. وقد زادت التصريحات ضد الصين من التنظيم الأم لداعش. كما انتقد داعش معاملة بكين لمجتمع الإيغور والجماعات العرقية المسلمة الأخرى في الصين في مجلاته ومقاطع الفيديو الخاصة به.
وبناءً على طلب من الصين، حظرت وزارة الداخلية الفيدرالية الباكستانية في ٢٠١٣ ثلاث منظمات دولية، هيك حركة تركستان الشرقية الإسلامية (ETIM)، والحركة الإسلامية في أوزبكستان (IMU)، واتحاد الجهاد الإسلامي (IJU)، إذ تزعم بكين أنها مجموعات تنتمي إلى تنظيم القاعدة، وتنشط في إقليم "شينجيانغ" -أكبر مقاطعات الصين من حيث المساحة- الذي يعد موطنًا لأغلبية مسلمي الأويغور الذين يزعمون أنهم يمثلون حركة تركستان الشرقية الإسلامية (ETIM) ووفدوا مع تنظيمات أخرى إلى أفغانستان إبّان الجهاد الأفغاني، وآوتهم حينها حركة طالبان الأفغانية. وبعد سقوط نظام طالبان في أفغانستان، انتقلت حركة حركة تركستان الشرقية الإسلامية (ETIM) إلى المناطق القبلية في باكستان حيث انضمت إلى تنظيم القاعدة، وتلقي الصين باللوم على حركة تركستان الشرقية الإسلامية في الاضطرابات في إقليم "شينجيانغ" بغرب البلاد، وهي قريبة أيديولوجيًّا من حركة طالبان الباكستانية المحظورة. وهاجر المتشددون المرتبطون بهذه المنظمات إلى المناطق القبلية الباكستانية بعد أن هاجمت القوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي حركة طالبان الأفغانية في أفغانستان بعد أحداث ١١ من سبتمبر، حيث أنشأوا مخابئهم بمساعدة حركة طالبان باكستان وجماعة "حافظ جول بهادور" المسلحة بالتزامن مع إطلاق عملية "ضرب عضب" عام ٢٠١٤م في المناطق القبلية الباكستانية واستهداف حركة طالبان باكستان وحركة تركستان الشرقية الإسلامية. وفي ذلك الوقت، كان الجيش الباكستاني يُبرز مقتل عناصر حركة تركستان الشرقية الإسلامية ضمن أخبار العملية. وبسبب عملية "ضرب عضب"، انتقل مقاتلو حركة تركستان الشرقية الإسلامية أيضًا إلى أفغانستان مرة أخرى مع حركة طالبان الباكستانية. وفي يوليو ٢٠٢١م، أي بعد مقتل تسعة مهندسين صينيين كانوا يعملون في مشروع "داسو" للطاقة الكهرومائية في منطقة "كوهيستان" العليا في خيبر بختونخوا، وجهت باكستان والصين إنذارًا مشتركًا لحركة طالبان الأفغانية بقطع علاقاتها تمامًا مع حركة تركستان الشرقية الإسلامية وحركة طالبان الباكستانية وجميع المنظمات الإرهابية الأخرى التي تلحق الضرر بالبلدين والمنطقة.
ويظل السؤال قائمًا: هل تنجح عملية "عزم استحكام" في تحقيق النتائج المرجوة منها، أم تظل المتغيرات الجيوسياسية والتحولات التنظيمية المتسارعة في المنطقة فوق قدرة المؤسسات على الاستيعاب والمواجهة؟ وهل تضطر الصين بسبب هذه المعطيات واستهداف مشاريعها ومواطنيها إلى تفعيل سياسات أو إستراتيجيات جديدة لحماية المصالح وصون الوعد الصيني التنموي المقدم إلى العالم؟ الإجابة في ما تأتي به الأيام المقبلة.