الهند من أكبر الدول الديمقراطية في العالم، إذ يعيش على أرضها أجناس، ولغات ، وألوان، وأمزجة متعددة. ويعد المسلمون أكبر الأقليات العددية بالهند؛ إذ يبلغ عددهم ١٧٢ مليون مسلم وفقًا لأحدث إحصاء أُجري في العام الحالي.
تتواتر الأخبار من وقت لآخر عن تعرض مسلمي الهند للتضييق من حكومة رئيس الوزراء الهندي "ناريندرا مودي"، حيث تعد هذه الحكومة محسوبة على الطائفة الهندوسية، التي تكنُّ العداء الواضح الصريح للأقليات، وبخاصة الأقلية المسلمة، إذ يواجه المسلمون في الهند ممارسات تمييزية متعددة، تمثلت في عدد من الإجراءات السياسية التي نفذَّها "مودي" في سعيه لتثبيت أقدام حكومته القومية الهندوسية، ومن أبرزها قرار تعديل قانون المواطنة لعام ٢٠١٩م، الذي يستثني المسلمين من منح الجنسية الهندية، بينما تُمنح لغيرهم من الأقليات الدينية الأخرى من الدول المجاورة، وكذلك إلغاء وضع الحكم الذاتي الخاص لكشمير الخاضعة للسيطرة الهندية، وأخيرًا يأتي "مشروع قانون تعديل الأوقاف لعام ٢٠٢٤م" الذي سنته حكومة "مودي"، وهي إذ تسّن هذا المشروع فإنها تدقُّ بذلك مسمارًا آخر في نعش الديمقراطية بالهند! ذلك بأن هذا القانون المثير للجدل معنيٌّ بإدارة الأصول الدينية والخيرية للمسلمين كالمساجد، والأضرحة، والمدارس؛ وإذا سُن هذا القانون فستتضرر ممتلكات الأوقاف. والمتأمل في هذا القانون يجد وكأنه "مفصّل" خصيصًا للمسلمين؛ إذ يمثل تهديدًا خطيرًا لاستقلالية الأوقاف الإسلامية في الهند، ويعرضها لاستغلال الحكومات؛ ما قد يؤدي إلى تقليص عدد الأوقاف، وفقدان المسلمين أملاكهم الموقوفة. ولذلك فإن هذا القانون سيؤثر تأثيرًا مباشرًا في المجتمع المسلم، ويثبت -بكل وضوح- نية الحكومة في تقويض دور الأوقاف دون مراعاة للمبادئ الإسلامية.
من السلّم به -ابتداءً- أنَّ الوقف من أفضل الصدقات التي حثَّ عليها الإسلام؛ فقد اتسع نطاقه في الدين وأصبح شاملًا لمختلف أنواع الثروة، من مزارعَ، وأراضٍ، وعقاراتٍ، وأدوات إنتاج، وقد أسهم مساهمة فعَّالة في مختلف المجالات الدينية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية.
وتملك الهند من العقارات الوقفية ما لا تملكه أيَّة دولة أخرى في العالم، فهيئة الأوقاف الهندية تمتلك المساحات الأكبر من الأراضي في الهند بعد وزارتي السكك الحديدية والدفاع، وبالنظر إلى تاريخ الأوقاف في الهند، نلاحظ أن قانون الوقف هذا، الذي تعود جذوره إلى فترة الحكم الإسلامي في الهند، شهد عددًا من التعديلات، على النحو التالي:
· في عام 1954م: تمرير قانون الوقف لأول مرة بقرار البرلمان.
· في عام 1995م: اعتماد قانون أوقاف جديد، وبموجبه حازت مجالس الأوقاف صلاحيات مزيدة لتقوية دورها في حماية الممتلكات الوقفية.
· في عام 2013م: إجراء تعديلات إضافية على هذا القانون، وبموجبها أُعطي لمجالس الأوقاف الحق في تسمية الممتلكات التي يوقفها الناس بـ"الممتلكات الوقفية".
أما عن التعديلات التي يسعى مودي لتمريرها للاستيلاء على أوقاف المسلمين والسيطرة عليها، فهي كما يلي:
1- إدخال أعضاء غير مسلمين في مجالس الوقف، والسماح لهم بتولي مناصب قيادية في مجالس الأوقاف.
2- التحكم التام في الأوقاف الإسلامية؛ حيث إنه بموجب القانون الجديد ستكون الحكومة الجهة التي تقرر كيفية استخدام الأراضي الموقوفة، وهذا بلا شك يتعارض مع المبادئ الشرعية التي تنص على احترام شروط الواقفين.
3- يفرض القانون الجديد شروطًا على من يستطيع الوقف، بما في ذلك شرط مرور خمس سنوات على إسلام الشخص قبل أن يُسمح له بالوقف، وهذا الشرط يتعارض صراحةً مع حرية ممارسة العبادة.
4- ينص القانون الجديد على أن الأراضي غير المسجلة رسميًّا لن تُعد من ضمن الوقف، ما يهدد بفقدان كثير من الأوقاف التاريخية التي كانت تعتبر وقفًا من الناحية الشرعية لقرون.
5- يقيد القانون الجديد الأفراد الذين يرغبون في وقف جميع ممتلكاتهم، ويسمح لهم بوقف ثلثها فقط، ويتعارض هذا التقييد مع الشريعة الإسلامية التي تمنح الفرد الحق في التصرف في ممتلكاته كما يشاء.
6- ينقل القانون الجديد الفصلَ في نزاعات الوقف من المحاكم إلى السلطات المحلية، ويثير هذا التعديل مخاوف من إمكانية استغلال هذه السلطة من الجهات الحكومية التي تعادي المسلمين ليل نهار، وهو ما سيفتح الباب أمام التلاعب بالممتلكات الوقفية للمسلمين بالطبع.
لقد أثار مشروع قانون الأوقاف لعام 2024م، الذي قدَّمته الحكومة الهندية في مجلس النواب في البرلمان الهندي" لوك سبها"، ورفعت جميع أحزاب المعارضة - بما فيها "حزب المؤتمر"، "حزب ساماجوداي"، ومجلس عموم الهند للمسلمين، ومؤتمر "ترينامول"- صوتها ضد "مشروع القانون" ضجة واسعة، معتبرين إياه مناهضًا للدستور، ومعادٍ للمسلمين.
ولعل الباعث على المخاوف الكثيرة التي أثارها "مشروع قانون الأوقاف" هو ما يُشكِّله هذا القانون من تهديدات خطيرة للنسيج الإسلامي في الهند من خلال السيطرة على الأوقاف الإسلامية، وتقويض دور الأوقاف دون مراعاة مبادئ الشريعة الإسلامية، واستغلال الحكومات الهندية لأملاك المسلمين الموقوفة، وهذا يؤثر تأثيرًا مباشرًا في المجتمع المسلم في الهند، ويُقيِّد حريته في ممارسة حقه في إدارة أوقافه، كما سيُعرِّض القانون الأجيال القادمة لخسائر فادحة. وقد أدان المسلمون في الهند -بما في ذلك علماء الدين وأعضاء المجتمع المدني والناشطون السياسيون- بشدة مشروع قانون تعديل الأوقاف 2024م الذي قدمته حكومة مودي، ووصفوه بأنه تدخل مباشر في الشئون الدينية للمسلمين في الهند باعتباره سلاحًا قانونيًّا جديدًا يهدف إلى تقويض استقلال المسلمين، ومحاولة مبطنة لخنق الحرية الدينية للمسلمين.
من جانبه قال "كيه سي فينوجوبال" عضو الكونجرس الهندي: "إن مشروع القانون ما هو إلاّ هجوم على الحقوق الدينية والسياسية للمسلمين التي كفلها لهم الدستور".
وفي هذا السياق، قال "أسد الدين عويسي" رئيس مجلس عموم الهند للمسلمين: ؛إن مشروع القانون هذا دليل آخر على خطاب حكومة مودي المعادي للمسلمين". وأضاف: "إن ممتلكات الوقف ليست ملكية عامة، غير أن حكومة مودي تريد الاستيلاء على ممتلكات المسلمين". وقال "عمران مسعود" النائب عن حزب المؤتمر: "إن حكومة مودي تحاول الاستهزاء بالدستور من خلال مشروع القانون هذا".
وبعد احتجاج قادة الأحزاب المعارضة وقادة المسلمين من جميع الطوائف والمذاهب، إلى جانب القادة الدينين والوطنيين غير المسلمين، شُكلت لجنة لمراجعة هذا المشروع وتعديله. وترأس اللجنة "جاكدامباك بال" الذي زار علماء المسلمين في مدينة" لكهنو" للتشاور بخصوص مشروع القانون.
يُشار إلى أن الاوقاف الشيعية كانت قد تعرضت لأضرار كبيرة قبل استقلال الهند إبّان الاحتلال البريطاني، واستمرت تلك الأضرار في ظل الحكومات المتعددة عقب الاستقلال. وإذا مُرِّرَ مشروع قانون تعديل الأوقاف هذا في البرلمان الهندي؛ فستكون أوقاف المسلمين – صفة عامة- مهددة بخسائر كبيرة.
ويبقى السؤال: هل سيؤجج هذا المشروع المزيد من الكراهية والتمييز بين طوائف المجتمع الواحد؟!
بدورنا نؤكد أن تلك الإجراءات التعسفية من الحكومة الهندية تُعد ضمن الأعمال المعادية للمسلمين، كما تُعد انتهاكًا واضحًا لحق من حقوق المسلمين التي يكفلها لهم الدستور، وهي بذلك تسعى إلى نشر الكراهية بين المسلمين والهندوس، وهو ما سيؤثر في النهاية بالسلب في النسيج الوطني داخل هذه الدولة العريقة المعروفة بأنها "ديمقراطية" - لا العكس!
وحدة الرصد باللغة الأردية