12 فبراير, 2025

تمويل الإرهاب في إفريقيا.. المصادر الخفية وآليات المواجهة

تمويل الإرهاب في إفريقيا.. المصادر الخفية وآليات المواجهة

      شهدت القارة الإفريقية خلال العقود الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في نشاط التنظيمات الإرهابية، ما جعلها بؤرةً للتهديدات الأمنية التي لا تقتصر على حدود القارة فحسب، بل امتدت تأثيراتها إلى الأمن والسلم العالميين. وعلى الرغم من تعدد التنظيمات الإرهابية المنتشرة في القارة الإفريقية إلا أنها تشترك في اعتمادها على مصادر تمويل متعددة تُمكِّنها من البقاء والقدرة على تأمين مصادر تمويل مستدامة تضمن استمرار عملياتها وتوسيع نفوذها. ولذلك يصبح التصدي لهذه الظاهرة خطوة حاسمة في مكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار في المنطقة. يتطلب فهم ديناميكيات تمويل الإرهاب في إفريقيا الغوصَ في طبيعة الأنشطة الاقتصادية المشروعة وغير المشروعة التي تعتمد عليها التنظيمات الإرهابية، إضافة إلى استكشاف الطرق التي يتم بها استغلال الثغرات في النظم المالية المحلية والدولية.

كما يمثل تمويل الإرهاب في إفريقيا قضية متعددة الأبعاد، تتداخل فيها الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث تستغل التنظيمات الإرهابية مثل حركة الشباب في الصومال، وبوكو حرام في نيجيريا وغيرها من التنظيمات الإرهابية المنتشرة في أفريقيا، المصادر المحلية مثل التهريب وفرض الضرائب، بجانب مصادر خارجية مثل التحويلات المالية غير المشروعة، ويضاف إلى ذلك دور الفساد وضعف الحوكمة في تسهيل تدفق الأموال لهذه التنظيمات. يتناول هذا المقال تحليلًا معمقًا لديناميكيات تمويل الإرهاب في إفريقيا، مع التركيز على الآليات التي تعتمدها التنظيمات الإرهابية لتأمين الموارد المالية، وتأثير ذلك على الاستقرار الإقليمي والدولي.

 

أبرز مصادر تمويل التنظيمات الإرهابية في إفريقيا:

التجارة غير المشروعة

تلعب التجارة غير المشروعة دورًا محوريًّا في تمويل العديد من التنظيمات الإرهابية في إفريقيا؛ حيث تُعتبر مصدرًا رئيسيًّا لتأمين الموارد المالية التي تتيح لها تنفيذ عملياتها وتعزيز نفوذها. تشمل هذه التجارة مجموعة متنوعة من الأنشطة مثل تهريب المخدرات الذي يُعد من الأنشطة الأكثر ربحًا؛ حيث يتم استغلال المساحات الشاسعة والحدود غير المؤمنة في القارة لتمرير المخدرات إلى الأسواق العالمية. على سبيل المثال، تُستخدم بعض المناطق في الساحل الإفريقي نقاطَ عبور رئيسية لتجارة الكوكايين إلى أوروبا. وفي هذا السياق كشف تقرير صدر عن مكتب الأمم المتحدة المعنى بتجارة المخدرات والجريمة أن منطقة الساحل بغرب إفريقيا أصبحت معقلًا للشبكات العامة في تجارة المخدرات، والتي تعمل على تهديد السلام والاستقرار. كما ذكرت الأمم المتحدة أنه مع تزايد الإرهاب في منطقة الساحل، دخلت التنظيمات المسلحة على خط التهريب وأصبحت تنسق مع تجار الكوكايين([1]).

الاختطاف

يُعَد الاختطاف أحد أكثر الوسائل شيوعًا والتي تعتمد عليها التنظيمات الإرهابية في إفريقيا مصدرَ تمويل لها؛ حيث تستهدف هذه التنظيمات عادةً الأجانب، وخصوصًا العاملين في المنظمات الإنسانية والشركات الدولية، لطلب فديات مالية ضخمة. وفقًا لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، شهدت المدة من عام 1970م إلى 2010م تمثيل حوادث الاختطاف لنسبة 6.9% من إجمالي الهجمات الإرهابية عالميًّا، إلا أنه بحلول عام 2016م ارتفعت هذه النسبة بشكل ملحوظ لتصل إلى 15.8%، مما يعكس تزايد اعتماد هذه التنظيمات على الاختطاف كونه وسيلة لتحقيق أهدافها المالية.

وفي السياق الإفريقي تستغل التنظيمات الإرهابية ضعف البنية الأمنية وانتشار الفقر والبطالة لتنفيذ عمليات اختطاف تستهدف الأجانب والسكان المحليين على حد سواء. كما أشار أحد قادة تنظيم القاعدة في مالي إلى أن الكثير من الدول الغربية تدفع مبالغ هائلة للجهاديين، وأن مصدر تمويلهم هو الدول الغربية.  ويقدر أن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي تلقى 75 مليون دولار مدفوعات فديةً بين عامي 2010م، و2014م([2]).

كما تُعَد عمليات الاختطاف من أبرز الوسائل التي تعتمد عليها جماعة بوكو حرام لتمويل أنشطتها الإرهابية في نيجيريا ومنطقة حوض بحيرة تشاد. وفقًا لتقرير نشرته وكالة "رويترز"، تعتمد الجماعة بشكل كبير على الفديات الناتجة عن عمليات الاختطاف، وتتفاوت الأرقام بشأن ما تجنيه بوكو حرام من عمليات الاختطاف، ويقدر بعض المسؤولين الأمريكيين أن الجماعة تتلقى مليون دولار مقابل إطلاق سراح كل ثري نيجيري تختطفه([3]).

وتُسهم هذه الممارسات بشكل عام في زعزعة الاستقرار وتفاقم الأوضاع الأمنية في المناطق المتضررة في القارة الإفريقية، حيث تؤدي إلى تراجع الثقة في السلطات المحلية وتُعرقل جهود التنمية، لذلك يُعتبر التصدي لظاهرة الاختطاف من أجل الفدية جزءًا أساسيًّا من إستراتيجيات مكافحة الإرهاب في إفريقيا.

فرض الإتاوات والضرائب

الرسوم والضرائب ليست مجرد أرقام تُجمع، بل هي انعكاس لعلاقة قسرية بين التنظيمات الإرهابية والمجتمعات التي تسيطر عليها؛ حيث تمثل تحديًا كبيرًا ليس فقط للدول الإفريقية، ولكن أيضًا للعالم بأسره، فلا يمكن فصل تمويل الإرهاب عن تداعياته المدمرة على الاستقرار والسلام العالميين. وعلى الرغم من أن الضرائب وفرض الرسوم تُعد من الأدوات التقليدية للدول ذات السيادة، فإن التنظيمات الإرهابية في إفريقيا قد حولت هذه الوسائل إلى أدوات اقتصادية لفرض هيمنتها، وتأمين موارد مالية ضخمة. وفي ظل هشاشة الأنظمة الحكومية وضعف السيطرة الأمنية في العديد من المناطق في الدول الإفريقية، أصبحت هذه التنظيمات تُمارس ما يشبه دور "الدولة"، لكنها تعمل في الظلام لتحقيق أهدافها التخريبية. كما تقوم هذه التنظيمات بإرهاب السكان المحليين والمزارعين والتجار لإجبارهم على دفع إتاوات تحت مسمى "الزكاة" أو "رسوم الحماية"، هذه الأموال التي تُجمع بطرق غير شرعية تُستخدم لتمويل العمليات الإرهابية، وشراء الأسلحة والمواد اللوجستية، فضلًا عن تقديم حوافز مالية للمجندين الجدد في صفوف هذه التنظيمات.

وتُعد حركة الشباب الصومالية من أبرز الأمثلة على هذا النهج؛ إذ تُجبر هذه الحركة الشركات والمزارعين على دفع مبالغ مالية دورية، مشيرة إلى أن هذه الأموال تُستخدم لخدمة "الأهداف الإسلامية" كما تزعم الحركة. وفقًا لتقرير صادر عن مجموعة الأزمات الدولية (International Crisis Group) في عام 2019م، فإن حركة الشباب تجمع إيرادات كبيرة من خلال نظام ضرائب مفروض على الشركات والأفراد في المناطق الخاضعة لسيطرتها.

إضافة إلى ذلك نشر «معهد هيرال»، المتخصص في الشؤون الأمنية، تقريرًا يشير فيه إلى أن حركة الشباب يجبي مسلحوها نحو 15 مليون دولار في الشهر، ويأتي أكثر من نصف المبلغ من العاصمة مقديشو. وأورد التقرير أن "الخوف والتهديد الحقيقي لحياتهم هو الدافع الوحيد الذي يجعل الناس يدفعون أموالًا لحركة الشباب". كما يضيف التقرير المستند إلى مقابلات مع أعضاء الحركة المتطرفة ورجال أعمال ومسؤولين حكوميين وغيرهم، أن جميع الشركات الكبرى في الصومال تقدم للحركة المال، سواء على شكل مدفوعات شهرية، أو "زكاة" سنوية، بنسبة 2.5% من الأرباح السنوية([4]).

هذه الأموال لا تُستخدم فقط لتقوية البنية التحتية العسكرية للحركة، بل أيضًا لتوسيع نفوذها الاجتماعي من خلال تقديم خدمات محدودة للسكان، مثل المساعدات الإنسانية أو إقامة المشاريع الزراعية، بهدف استقطاب المزيد من المؤيدين.

وفي منطقة الساحل الإفريقي، تُمارس تنظيمات إرهابية أخرى، مثل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وتنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى الأسلوب نفسه؛ حيث تفرض هذه التنظيمات رسومًا على القوافل التجارية التي تمر عبر مناطق نفوذها، مستغلة عدم وجود بدائل آمنة للطرق التجارية.

الإتاوات والضرائب التي تفرضها التنظيمات الإرهابية ليست مجرد وسيلة لتمويل أنشطتها، بل هي أداة لفرض السيطرة السياسية والاجتماعية على المجتمعات المحلية. عندما يُجبر السكان على دفع الأموال لهذه التنظيمات تصبح أكثر قدرة على إحكام قبضتها على هذه المناطق. كما تؤدي هذه الممارسات إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية للسكان المحليين، حيث تُضاف أعباء مالية جديدة إلى كاهل المجتمعات الفقيرة مما يُعمق من دائرة الفقر والاضطراب.

وللتصدي لهذه الظاهرة، يجب أن تعمل الحكومات الإفريقية بالتعاون مع المجتمع الدولي على تعزيز القدرات الأمنية وتطوير آليات تتبع التدفقات المالية غير المشروعة. كما يجب تعزيز التنمية الاقتصادية المحلية لخلق بدائل اقتصادية للسكان تحول دون وقوعهم تحت رحمة التنظيمات الإرهابية.

الدعم الخارجي والتبرعات

تستفيد التنظيمات الإرهابية من دعم بعض الجهات الخارجية، سواء عبر دول أو شبكات اجتماعية، ويتم ذلك أحيانًا تحت غطاء المساعدات الخيرية أو الجمعيات الإنسانية، مما يصعّب تتبع هذه الأموال ومنع وصولها إلى هذه التنظيمات؛ حيث تعتمد هذه التنظيمات بشكل كبير على الدعم الخارجي والتبرعات التي تأتي عبر مسارات متنوعة، كما تتداخل المصالح السياسية مع الأيديولوجيات والاعتبارات الاقتصادية لتشكيل شبكات تمويل معقدة. ويمثل هذا الدعم عصب الحياة الذي يتيح لتلك التنظيمات القدرة على التخطيط وتنفيذ عملياتها. هذا إضافة إلى أن بعض الدول تلعب دورًا مباشرًا أو غير مباشر في تمويل الإرهاب؛ حيث تقدم الأموال والأسلحة والتدريب لتلك التنظيمات التي تخدم مصالحها الجيوسياسية. وفي أحيان كثيرة، يكون هذا الدعم وسيلة لتحقيق أهداف إستراتيجية، مثل إضعاف خصوم معينين أو تعزيز النفوذ في مناطق النزاع.

إلى جانب الدعم الذي تقدمه الدول، تشكل التبرعات الفردية مصدرًا آخر مهمًّا لتمويل التنظيمات الإرهابية؛ حيث يلجأ العديد من الأفراد بدافع الأيديولوجيا أو العاطفة إلى تقديم أموال يُعتقد أنها تُستخدم لأغراض إنسانية، بينما يتم تحويلها في الواقع إلى دعم العمليات الإرهابية، مستغلةً وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات التبرعات الرقمية لجمع هذه الأموال، من خلال دعايات مؤثرة توهم المتبرعين بأن مساهماتهم ستذهب لتحقيق أهداف نبيلة. هذا الاستخدام الذكي للتكنولوجيا يعزز من صعوبة تتبع مصادر الأموال، ويزيد من تعقيد جهود مكافحة الإرهاب. وتؤدي هذه الأموال المتدفقة إلى التنظيمات الإرهابية لعواقب كارثية؛ إذ تمكنها من تنفيذ عمليات مدمرة تشمل الهجمات الانتحارية، وتجنيد الأفراد، وشراء الأسلحة.

ولهذا يشكل الدعم الخارجي والتبرعات تحديًا كبيرًا في مكافحة الإرهاب؛ حيث يعكسان التداخل المعقد بين المال والسياسة والأيديولوجيا. ومع ذلك فإن اتخاذ إجراءات حازمة ومشتركة يمكن أن يسهم في تجفيف منابع التمويل، مما يحد من قدرة هذه التنظيمات على الاستمرار في أنشطتها الهدامة.

ولمواجهة هذه الظاهرة يتطلب ذلك تبني إستراتيجية شاملة من قبل المجتمع الدولي وتعزيز التعاون بين الحكومات لتبادل المعلومات حول مصادر التمويل وتتبع الأموال المشبوهة خطوةً أساسية، كما يجب العمل على إغلاق القنوات الرقمية التي تُستخدم لجمع التبرعات، وذلك من خلال مراقبة منصات التواصل الاجتماعي، وتطوير تقنيات متقدمة لرصد الأنشطة المالية غير المشروعة، إضافة إلى ضرورة رفع الوعي العام، الذي يلعب دورًا حاسمًا لضمان أن الأفراد يدركون خطورة مساهماتهم المالية التي قد تُستخدم لأغراض إرهابية.

ختامًا

يمثل تجفيف منابع تمويل التنظيمات الإرهابية في إفريقيا تحديًا معقدًا يتطلب إستراتيجيات متعددة الأبعاد تشمل الجوانب الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ومن خلال فهم الديناميكيات المرتبطة بهذا التمويل، إضافة إلى ضرورة وجود تعاون عالمي شامل يضمن القضاء على هذه الظاهرة التي تهدد استقرار القارة ومستقبلها، إضافة إلى أن هذه الأنشطة تُعمّق حالة الفقر والبطالة، مما يعزز دائرة العنف والتطرف. علاوة على ذلك تسهم هذه الظاهرة في زعزعة الاستقرار المجتمعي، حيث يواجه السكان المحليون ضغوطًا مستمرة من قِبل التنظيمات الإرهابية من جهة ومن الحكومات التي تحاول محاربتها من جهة أخرى. ولمعالجة هذه القضية لا بد من تقليل اعتماد الأفراد على الموارد التي توفرها التنظيمات الإرهابية، وذلك من خلال توفير فرص عمل، وتحسين البنية التحتية، وتعزيز الشفافية الاقتصادية، وتقوية المؤسسات الحكومية، ودعم التعاون الإقليمي والدولي. أضافة إلى الاستثمار في التعليم والتوعية الاجتماعية حول مخاطر تمويل الإرهاب وسبل التصدي له، مما يفتح أفقًا جديدًا يجعل الشباب الأفارقة أكثر مقاومة لاستقطاب التنظيمات الإرهابية. كما تحتاج الدول الإفريقية إلى تطوير إستراتيجيات فعّالة لمواجهة تمويل الإرهاب؛ مثل: تعزيز التعاون الإقليمي بين الدول الإفريقية في مجال تبادل المعلومات، ومكافحة الجرائم المنظمة الذي يُعتبر أمرًا حيويًّا، إضافة إلى تطوير القوانين، وتحديث التشريعات المحلية، لمواكبة أساليب التمويل الحديثة.

 

وحدة الرصد باللغات الإفريقية

 


([1])

([2])

([3])

([4]) https://aawsat.com/home/article/4035001/الصومال-«حرب-شاملة»-تطمح-لكسر-صحوة-«الشباب»utm_source=chatgpt.com

 

قراءة (654)/تعليقات (0)