16 فبراير, 2025

"أقلام طلابية".. التراث والبحث عن أصول حب مصر

"أقلام طلابية".. التراث والبحث عن أصول حب مصر

لا يستطيع المسلمون أن يقطعوا أنفسهم بالتراث الذى تركه لهم الأقدمون؛ لأن التراث إرث القدامى، وجدير بالذكر هنا أن مفهوم التراث الذى أقصده هو كل شىء متعلق بالماضى، هذا التراث الذى عرفه حسن حنفى بـ«كل ما وصل إلينا من الماضى داخل الحضارة السائدة، فهو إذاً قضية موروث وفى نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات»، فهو ليس الكتاب والورق الذى ترك الأقدمون لنا فحسب، بل هو الثقافة والحضارة والرأى والفكرة والشعور.

بهذا المفهوم للتراث نجد أن العلاقة بين المسلمين وماضيهم لا يقف على الدراسة والتعلم والحمل العلمى فقط، بل تتجاوز حتى يكون التراث هويتهم وشخصيتهم التى لا تتفرق بعضها عن بعض، كأن يكون المسلمون والتراث إنسان واحد لا يتجزأ، ولا شك أن هذه العلاقة تقوم على الحب أساساً أو كمقومته، لذلك أحب المسلمون تراثهم؛ لأن الأمر مثل حبهم لأنفسهم، أشبه هذا النوع من الحب بالتبل الذى عرفه الثعالبى فى كتابه «فقه اللغة وسر العربية» بإحدى مراتب الحب الذى يسقم المحب إذا ابتعد عنه، فإن المسلمين سقموا إذا ابتعدوا عن التراث بل وربما هلكوا وماتوا دونه.

فى هذا الإطار نشأ الحب من المسلمين فى شتى بلاد الأرض لمصر، حيث هى مركز تراثنا كالعرب والمسلمين، إن مصر شعلة العلم والحضارة العربية، وإن حضارتها وثقافتها تقوم على التراث حتى شبها جسداً واحداً لا يتجزأ، لذلك لا أحب أن أفكر فى حب مصر إلا على ضوء ماضيها البعيد، وحاضرها القريب، هذا هو ما يؤكده طه حسين فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» بأن مستقبل الثقافة بمصر مرتبط بماضيها البعيد.

هذا الحب -أو التبل- فى صدر كل المسلم ناشئ من حبهم لتراثهم؛ لأن مصر شاهد الحضارة والثقافة والتطور العلمى لدى علمائنا، فيها كان يعيش شهاب الدين بن حجر العسقلانى، المتفنن الذى برع فى العلوم المتنوعة، وعاش فيها الشيخ جلال الدين السيوطى، مؤلف «الإتقان فى علوم القرآن»، والإمام الأكبر الشيخ الخراشى المالكى، أحد كبار العلماء المسلمين، بل وفيها إحدى أشهر الجامعات فى العالم وأقدمها؛ الأزهر الشريف، الذى لا يزال يلقى العلم للطلاب الذين يتوجهون إليه من شتى بلاد الأرض.

إضافة إلى هذا، فإن الثقافة تتطور وتنمو، فولد ونشأ المفكرون المسلمون البارعون فى حقلهم العلمى فى العصر الحديث، وكثير منهم مصريون متفوقون وعلماء كبار، منهم المفسر والمعلم صاحب «المنتخب فى تفسير القرآن الكريم»، الشيخ محمد متولى الشعراوى، والإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيب، وجدنا أيضاً من ناحية الأدباء والنقاد طه حسين، الذى شُهر بنزاعه الممتع فى قضية الانتحال فى الشعر الجاهلى، ومن ناحية الشعراء وجدنا أمير الشعراء أحمد شوقى، وفائز بجائزة نوبل كاتب رواية «أولاد حارتنا» نجيب محفوظ، ويظهر دور المرأة فى تطور الثقافة فى مصر ظهوراً لا يقل عن دور الرجل، نجده فى شخصية المفسرة المفكرة العبقرية بنت الشاطئ التى ألفت كثيراً من الكتب والأعمال الأدبية والروائية منها «القرآن وقضايا الإنسان» و«بطلة كربلاء» و«مع المصطفى، مقال فى الإنسان».

وما منح الله مصر من الفضائل يجعلها منحوتة فى قلوب المسلمين، حيث نزل فيها كثير من الأنبياء حتى لقبت مصر بـ«أرض الأنبياء»، وإن مصر الأرض المكنونة التى صانها الله وحفظها فى قلب الصحراء، أليس ذكر مصر فى القرآن الكريم والحديث الشريف كثيراً يدل على فضائلها من بقاع الأرض الأخرى؟ إنها بلد سكن فيه مدة سنوات موسى، عليه السلام، كما قال الله تعالى «وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً»، وفيها سُجن يوسف، عليه السلام، ورفع يوسف بعد سجنه وزير مصر حتى لقى أبويه وقال «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين».

أما الأحاديث الشريفة، فقد نبّه بها الرسول أصحابه بقوله «إذا افتتحتم مصراً فاستوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً»، يحب رسول الله مصر وأهلها وأرضها وترابها وأنهارها وثقافتها حتى يهتم عليه السلام بالتعامل مع أهلها قبل أن تفتح مصر للمسلمين، وقال عليه السلام موضحاً فضيلتها: «قسمت البركة عشرة أجزاء فجعلت تسعة فى مصر وجزء بالأمصار»، فإن مصر أرض مبروكة يفتحها الله للمسلمين، وقد أخبر بها رسول الله للصحابة، يدل على فضائل مصر كثير من الأحاديث الشريفة لا يمكن أن أذكرها تفصيلاً فى هذه المقالة.

إذا رجعنا الفكر إلى أن حب مصر ينشأ من ينبوع التراث، نجد أن القول يمد إلى حد بعيد من حيث النتيجة والموضوع، أحبها أيضاً غير المسلمين فى شتى بقاع العالم؛ لأن مصر البلد الوحيد الذى لقب بـ«أم الدنيا».

ونجد بعض الدارسين الغربيين يحب مصر كما يحب بلدهم؛ لأنهم يشعرون بأن ثقافتهم متعلقة بهذه الأرض المباركة، وأن فى عمق عقلهم ارتباطاً قوياً بحضارة مصر، وأن حضارتهم قد تتعامل مع مصر من قبل أن تتحضر حضارتهم بالتكامل فى الزمن القديم، بناء على هذا صارت مصر بؤرة الدنيا لوضعها لب العالم. فى هذا الإطار جدير أن نقول إن غير المسلمين يحبون مصر كما أحبها المسلمون.

وبناء على ما تقدم صار العالم ابن مصر، وصارت مصر أم الدنيا من ناحية الثقافة والحضارة والعقل والفكر، ولا مبالغة فى أن نقول إن الدنيا تدور حول مصر فى سيرها خلال التاريخ.

أحمد بن عباد

طالب إندونيسى وافد بالأزهر الشريف

قراءة (1065)/تعليقات (0)

كلمات دالة:
12345الأخير