16 فبراير, 2025

الشباب.. والمسئولية الاجتماعية

الشباب.. والمسئولية الاجتماعية

إذا كانَ لكلِّ أمَّةٍ ثروةٌ تعتزُّ بها، ورصيدٌ تدَّخرُه لمستقبلِها وقوَّةٌ تبنى عليها مجدَها ونهضتَها، فإنَّ فى مقدِّمةِ هذه الثَّروةِ الشَّبابَ الَّذى يُعدُّ الدُّعامةَ الأساسيَّةَ فى المجتمعِ، والثَّروةَ الحيَّةَ الحقيقيَّةَ فيه، والأمل المرتجى على الدَّوامِ، وإنَّ مِن مظاهر التَّحضُّرِ والرُّقىِّ لدى الأممِ أن تُعنى بالشَّبابِ، وأن تهيِّئ لهم ما يجعلُهم رجالاً أكْفاءَ أقوياءَ، تقومُ الأوطانُ على سواعدِهم.

ولقد أثنى الله على أهل الإيمان الَّذين أَوَوا إلى الكهفِ فذكر أوَّل صفاتهم أنَّهم شبابٌ، قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (الكهف: 13)، وكان النَّبىُّ، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، محاطاً بشبابِ الصَّحابةِ الَّذين نقلوا نورَ الوحىِ إلى الدُّنيا، وكثيراً ما كانَ صلى الله عليه وسلم يُكلِّفهم للقيامِ بعددٍ مِن المهامِ الجسامِ؛ فكان الصَّحابىُّ الجليلُ مصعبُ بنُ عميرٍ أوَّلَ سفيرٍ للإسلامِ فى المدينةِ يعلِّمُ أهلَها، وكانَ الصَّحابىُّ الجليلُ أسامةُ بنُ زيدٍ قائدَ جيشٍ، ولم يتجاوزْ عمرُه ثمانيةَ عشرَ عاماً، رضىَ الله عن الصَّحابةِ أجمعين.

إن الإسلام قد عُنى بالشَّبابِ عنايةً تامَّةً، فأعلى من قيمتِهم، وزكَّى نفوسهم، ووجَّه قلوبهم وأفكارهم ومشاعرَهم، وراعى طاقاتِهم، ووضع السُّبلَ الَّتى تُعينهم على تسخيرِ تلك الطَّاقةِ فى الخيرِ والمعروفِ، وبما يعود عليهم بالفائدةِ فى أنفسِهم وأوطانِهم، وبما ينفعُهم فى الدُّنيا والآخرةِ، وهذا ما قدَّمَه الإسلامُ ورسولُ الإسلامِ حين جعلَ أركانَ الدَّولةِ قائمةً على أكتافِ الشَّبابِ وجهودِهم، علماء ودعاةً وأمراء وقادةً، ممن تنطقُ كتبُ التَّاريخِ بآثارِهم.

وإنَّنا وإنْ تحدَّثْنا عن منهجِ النُّبوَّةِ فى توجيهِ طاقاتِ الشَّبابِ؛ فإنَّنا نحمدُ لقياداتِنا الواعيةِ ومؤسَّساتِنا الوطنيَّةِ أنَّها تُدركُ أهميَّة هذه المرحلةِ، وأنَّها تسعى بكلِّ ما أُوتيتْ من قوَّةٍ لتمكينِ الشَّبابِ واستثمارِ طاقاتِهم، وحينما نتكلَّم عن الشبابِ والمسئوليةِ المجتمعيةِ، فنحن بهذا نأخذُ بأيديهم إلى الطريقِ الصحيحِ، الطريقِ الذى ينبى فى نفوسِهم حبَّ الوطنِ والناسِ والحياةِ.

فالمسئوليةَ التزامٌ أخلاقىٌّ يبدأُ بالوعى بأن يعرفَ الإنسانُ دورَه وما هو مطلوبٌ منه فيُلزِمَ به نفسَه أوَّلاً، ويكتملُ بالسَّعى فَيَفِى بعد ذلك بالتزامِه، فهى قيمةٌ يحتاجُ النَّاسُ إليها دائماً، ولولاها لعاش النَّاسُ فى فوضى تدمر ما حوله، وإنَّ هذه المسئولية –وإن كانت ملقاةً على عاتق كلِّ فردٍ– فهى منوطةٌ بالشبابِ بالدرجة الأولى؛ لأنَّهم قاطرةُ عمليات التغيير فى المجتمعات، وفى عُزلتهم تراجعُ الأمة وضعفُها، ونحن عندما نقول: "شخص مسئول" نعنى بذلك مسئوليته ذات الأبعاد المختلفة المتصلة به وببيئته وبمجتمعه ثم بأمّته، وإذا استقرَّ الإحساسُ بالمسئولية فى قلب الإنسان انبثق من هذا المعنى شعور عميق بعظم ما يتحمّله ويؤديه، فيسعى جاهداً للقيام بما تفرضه المسئولية من أعمالٍ على أكمل وجه بما لديه من استعداد فطرى.

ولقد خلَّد القرآن هذه النَّماذج المبادرةَ التى أحسَّت بواقعها وفهمت الواجب فيه، ولم تتأخَّر عنه، فهذا رجل يذكره القرآن فيقول: ﴿وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ (يس: 20)، وأكاد أشعر أن كلمة «يسعى» تحملُ معها معانى كثيرةً من بذل هذا الرجل المسئول جهده لحماية قومه من الهلاك، وحرصه على نجاتهم، وحبه للدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والخير، حتى قال لهم: ﴿إنِّى آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ، قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّي وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ (يس:25- 27)، وأتصوَّر أن ما فعله هذا الإنسان المؤمن ما هو إلا أثر من تجليات المسئولية الاجتماعية، ولا أتصوَّر أن تكون الشخصية المؤمنة إلا على هذه الصورة من المسئولية والإيجابية التى تسعى بالرحمة والإشفاق وإرادة الخير للناس.

إن مفهوم المسئولية المجتمعية وإن بدا معاصراً، وإن ظن بعضكم أنه ينتمى إلى حياض الفكر الإدارى؛ فإنى أجد أصوله فى الإسلام، وأنبّه هنا إلى أننا لا نجرى وراء أى طرحٍ جديد معاصر لنلبسه لُبسة الإسلام، فهذا ما لا نعنيه، وما لا ينبغى أن يكون، وإنما كلامى هنا من باب قراءة عطاء الإسلام قراءةً معاصرةً.

والذى ينبغى أن يُعرف أن المسئولية الاجتماعية مفهومٌ أصيل فى الإسلام، سبق الإسلامُ بها الأفكار والنظم المعاصرة، وهى واجب دينى، وضرورة حياتية، لا تستغنى عنها المجتمعات، وأن قيام المسلمين بأداء هذه المسئولية المجتمعية ليس تقليداً لنظم وافدة أو تنفيذاً لاتفاق عالمى أو دعوات من فلسفات مستوردة، بل هو نوع من العبادة الواجبة، فالله، عزَّ وجلَّ، هو الذى أمر بالسعى فى الأرض بالمعروف والخير، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، هو الذى نقل أوامر الوحى إلى سلوك عملى حياتى.

ولسنا مبالغين إن قلنا: إن المسئولية المجتمعية فى الإسلام أكثر تميُّزاً وتفرداً؛ وذلك لأن القيام بالمسئولية الاجتماعية وما تفرضه من أعمالٍ إنما هو محاولة لعلاج فشل الفلسفة المادية والرأسمالية التى سادت فى كثيرٍ من البلاد، وسكنت كثيراً من العقول، والتى لم تستطع تحقيق العدالة الاجتماعية، ثم إن الشركات والهيئات والمنظمات حين تتبنى المسئولية المجتمعية، فإنما تسعى إلى تأكيد وجودها فى سوق المادة، وتحقيق الأرباح، وإثبات المصداقية والموثوقية فى أعمالها، فالباعث على المسئولية المجتمعية باعثٌ مادىٌّ بحت.

أما فى المنظور الشرعى، فالباعث على القيام بما تفرضه المسئولية المجتمعية من أعمالٍ هو روحىٌّ مستقى من أنوار الوحى، فالتكليف الشرعى الربانى هو الذى يُوجِّه الإنسان إلى القيام بهذه المهام، فيباشرها الإنسان؛ استجابةً لأمر الله؛ وطلباً للثواب، ومن تأمَّل شريعة الإسلام وجد أن بعض أعمال المسئولية المجتمعية قد أعلت من مكانتها أوامر الشريعة فجاءت فى رتبة الفريضة.

 وإذاً فليست المسئولية المجتمعية مستحدثةً كما فى الأنظمة الوضعية، وإن كان هذا لا يعيبها، ولكن مبادئ المسئولية الاجتماعية متأصّلة فى الإسلام من خلال آيات قرآنية وأحاديث شريفة وقواعد فقهية، ولا تتوقّف المسئولية المجتمعية عند صورة واحدة من صور العطاء والنفع، وإنما تتعدَّى العمل الخيرى والتطوعى أو الهبات المالية إلى بناء المساجد والمراكز التعليمية والصحة وكفالة الأيتام والأرامل ورعاية المسنين، والحفاظ على حقوق الأجراء، وكذلك حماية الموارد الطبيعية والحفاظ على البيئة من مختلف أشكال الفساد، والمشاركة فى التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ولا تتوقّف المسئولية المجتمعية فى الإسلام عند الناحية المادية فحسب، فتعمل على توفير السلع أو الخدمات أو الأموال، ولكن تتسم المسئولية المجتمعية فى الإسلام بنظرة شمولية، فتشمل إلى جانب النواحى المادية، النواحى الأدبية والروحية والعاطفية والعقائدية من حُبٍ وتعاطفٍ وأمرٍ بالمعروف ونهىٍ عن المنكر.

إن المتأمّل لأحاديث سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يجد أنها أصَّلت للمسئولية المجتمعية، فقوله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ القَائِمِ فى حُدودِ اللهِ، والْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ فى أَسْفَلِهَا إِذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا»، يفهم منه ضرورة أن يأخذ بعضنا بيد بعض، وألا نترك مَن يفسد فى المجتمع دون توجيه ونصح، وتأمّلوا قول سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا»، ففيه تربية للناس بعدم إقصاء المخطئ، والتعاون على المعروف، وضرورة أن يهتم بعضنا ببعضٍ؛ سواء أكان هذا على محيط الأفراد أو المجتمعات، وهذا لا يـتحصُّل إلا إذا تحقّق كل فردٍ من أفراد المجتمع بالمسئولية التى حثّ عليها الحديث الشريف.

ولست مبالغاً إن قلت: إن المسئولية الاجتماعية من المنظور الإسلامى أكثر عمقاً؛ وذلك لأنها لم تهمل أى فردٍ من أفراد المجتمع، بل تنظر الشريعة إلى أفراد المجتمع كلهم على أنهم مسئولون، وتأمّلوا كيف أعلن ذلك فى صراحة ووضوح رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، حين قال: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ فى أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية فى بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ فى مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسئول عن رعيته».

 إنه صلى الله عليه وسلم لم يكتفِ باللفظ الدال على العموم، وهو قوله: «كلكم»، وإنما ضم إليه نماذج من الحياة على تفاوتٍ بينها، ولو أنه وقف عند الأغنياء أو أصحاب القرار لكان مقبولاً أيضاً، ولكنه لم يرضَ إلا أن يجعل الرجل مسئولاً والمرأة مسئولة، وحتى الخادم جعله مسئولاً، فسبحان مَنْ علَّمه.

 وإذا كان المجتمع كله مسئولاً فإن الشباب، وهم أصحاب القوة البدنية والعقلية والصحية، أكثر مسئوليةً من غيرهم، غير أن بث روح المسئولية المجتمعية لدى الشباب يحتاج منا إلى وضع أرضية صلبة بيننا وبينهم أساسها الثقة والمحبة والمشاركة، وأن نُنمِّى فيهم روح حب الوطن؛ لأجل أن يتفهم الشباب المجتمع من حولهم ويتعرَّفوا عاداته وتقاليده واتجاهات التفكير فيه، وآمال الناس وطموحاتهم، مع بث روح العمل العام فيهم، وإدراكه مدى أهمية هذا الدور.

ويجب علينا أن نُصدِّر لهم القدوة الصالحة من المعلمين والمعلمات، وأن نُفعِّل قنوات التواصل معهم، وأن نُعلِّمهم معنى القدوة الحسنة، التى تجمع بين العِلم والأخلاق، وهذا ركن ركين فى بث روح المسئولية المجتمعية، فمنه يتعلَّم الشباب حقيقة المسئولية، وأنه راعٍ ومسئول عن رعيته.

ويجب علينا أيضاً أن ننشر برامج التوعية الأسرية التى توعى الآباء بدورهم الحقيقى، فالأسرة هى المكان الأول الذى يتعلَّم فيه الشخص القيم والمبادئ والمهارات اللازمة لتحمُّل المسئولية، وفى هذه البرامج نعلِّم الآباء تعزيز الإيجابية فى نفوس أبنائهم وتحميلهم المسئولية منذ الصغر، فالتعليم فى الصغر كالنقشِ فى الحجر.

وإن الواجب على مؤسسات المجتمع أن تُربِّى أجيال الشباب على تحمُّل مسئولياته، وأن تُعزِّز ثقته بنفسه، وأن تغرس فيهم الشعور بالانتماء لأمتهم والاعتزاز بهويتهم الإسلامية، وأن توجِد لهم مسارات مجتمعية صحيحة؛ حتى لا توظَّف طاقاتهم فى خدمة مشاريعَ مضادَّةٍ للهوية.

فيا أيها الشباب، أنتم مسئولون، ولستم صغاراً كما يُقال لكم، بل أنتم كبارٌ بدينكم وقيمكم والتزامكم وأخلاقكم، وإن المجتمع يُناديكم، وإن الأمَّة تدعوكم، فعليكم أن تعرفوا الأسسَ والمبادئ والقيم التى تُسهم فى صياغة شخصياتكم وصَقلها، وأن تعيشوا لهدفٍ أسمى وأرقى وأبعد من النظرة القاصرة، وأن تقوموا بواجب الاستخلاف فى الأرض وعمارتها وفق شرع الله تعالى، وأن تستشعروا هموم المسلمين وآلامهم، وآمالهم وطموحهم، وأن تتحلّوا بروح المبادرة فتكونوا لبنةً فى بناء مجد الأمَّة.
 

د. محمد الضوينى

وكيل الازهر الشريف

قراءة (213)/تعليقات (0)

كلمات دالة:
12345الأخير