مضى وولّى عام 2018م، الذي خصّصه فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف الأستاذ الدكتور "أحمد الطيب"، خلال كلمته بمؤتمر الأزهر لنصرة القدس في السابع عشر من يناير 2018م، ليكون عام القدس، تعريفًا به ودعمًا للقضية، وذلك ردًّا على قرار الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، الذي اتخذه في السادس من ديسمبر عام 2017م، باعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمةً للكيان الصهيوني، وعزمه على نقل السفارة الأمريكية إليها.
هذا وقد دشنت الولايات المتحدة رسميًّا سفارتها، في الرابع عشر من مايو، في مدينة القدس المحتلة عبر رسالة فيديو من الرئيس الأمريكي، وبمشاركة كبير مستشاريه وصهره "جاريد كوشنر" وابنته "إيفانكا ترامب"، وعدد من المسؤولين الأمريكيين.
ولم يكن اختيار هذا اليوم اعتباطًا من قبل الإدارة الأمريكية بالتنسيق مع الاحتلال الصهيوني؛ بل كان ذلك عمدًا واستخفافًا بالذكرى السبعينية للنكبة الفلسطينية المريرة، ففي الوقت الذي كانت تتعالى فيه أصوات الفرح والابتهاج بهذا الاحتفال والتحدي السافر للأمة الإسلامية والعربية والمواثيق والنداءات الدولية، كانت قوات الاحتلال تحصد أرواح الشباب والأطفال والنساء الفلسطينيين المحتجِّين في غزة والضفة الغربية بهدف إرسال رسالة إرهاب وترويعٍ للفلسطينيين، ولتثبيت القدس عاصمةً موحدةً أبديًّة للكيان الصهيوني المحتل.
الدوافع والخلفيات:
احتلت إسرائيل دولة فلسطين بصفةٍ عامةٍ والقدس الغربية بصفةٍ خاصةٍ عام 1948م، واتخذت القدس الغربية عاصمةً لها بحلول عام 1950م، ثم استولت على القدس الشرقية خلال حرب عام 1967م.
وفي 31 يوليو عام 1980م، صوّت نواب الكنيست الإسرائيلي على قرار "قانون أساس: أورشليم القدس عاصمة إسرائيل" الموحدة والأبدية؛ لكن هذا القرار لقى معارضة شديدة من قبل المجتمع الدولي ومجلس الأمن ومن الفلسطينيين والدول العربية والإسلامية؛ كونه يخالف القانون الدولي، وأن من شأنه تجميد مفاوضات السلام بين الجانبين.
وتنص القرارات الدولية على أن القدس الشرقية التي تقع ضمن حدودها الأماكن المقدسة لليهود والمسيحيين والمسلمين، أرضٌ محتلَّة.
هذا وقد تبنّى الكونجرس الأمريكي "قانون سفارة القدس" عام 1995م، الذي نصّ على ضرورة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في سقفٍ زمني لا يتجاوز 31 مايو 1999م؛ لكن الإدارات الأمريكية المتعاقبة لم تجرؤ على تنفيذ القانون خوفًا من تداعيات الأمر الإقليمية، حتى جاء "ترامب" وأصدر قراره العنصري غير المسبوق، والمخالف لكل قرارات الأمم المتحدة والمواثيق الدولية.
بين السطور
وجَّه الكيان الصهيوني الدعوة إلى عدد كبير من دول العالم للمشاركة في الاحتفال، لكن لم يقبل الدعوة سوى 32 دولة، من بينها التشيك ورومانيا وجورجيا، وأوكرانيا، وأنجولا وجنوب السودان وإثيوبيا، وجواتيمالا وهندوراس، وباراجواي والفلبين. في حين قاطعت روسيا والدول عربية والإسلامية ومعظم دول الاتحاد الأوروبي المشاركة في هذا الاحتفال.
وبمناسبة نقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، أطلق متحف أصدقاء إسرائيل، الذي يقع في قلب المدينة المحتلة، حملة إعلانية لتهنئة الرئيس الأمريكي على قراره بنقل السفارة، وعلى هامش هذا القرار الأمريكي أطلقت حكومة الاحتلال على الميدان المجاور للسفارة الأمريكية الجديدة اسم "ميدان الولايات المتحدة الأمريكية" تكريمًا للرئيس "دونالد ترامب".
ردود الأفعال الدولية لنقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس
وقد أثار نقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس المحتلة ردود فعلٍ متباينة على الساحة الدولية والعربية؛ فقد أدانت الدول العربية والإسلامية وأغلب دول الاتحاد الأوربي، ومنظمة التعاون الإسلامي ومجلس حقوق الإنسان والأمم المتحدة - القرار الأمريكي العنصري الصهيوني الذي خالف القرارات والمواثيق الدولية بشأن قضية القدس، واستنكرت فرنسا استعمال الكيان الصهيوني القوة المفرطة في التعامل مع المتظاهرين الفلسطينيين، الرافضين للقرار الأمريكي الذي من شأنه عرقلة مفاوضات السلام، كما سحبت جنوب أفريقيا يومئذٍ سفيرها من إسرائيل معبرةً بذلك عن امتعاضها حول ما يجري في قطاع غزة.
إضافة إلى ذلك ألغت وزيرة خارجية الاتحاد الأوربي "فِدريكا مورجريني" زيارتها إلى الكيان الصهيوني، والتي كان من المقرر لها 10 يونيو 2018، خاصةً بعد أن رفض "بنيامين نتنياهو" لقاءها بذريعة مواقفها المعادية لإسرائيل.
وعلى الرغم من أن دولة أثيوبيا كانت من بين الدول الأفريقية التي حضرت مراسم نقل سفارة الولايات المتحدة إلى مدينة القدس المحتلة، والتي كانت تعتزم نقل سفارتها إلى هناك، لكنها جمّدت تلك الخطوة إثر اعتداء قوات الاحتلال على القساوسة الإثيوبيين الذين أَجْلَتهم قسرًا من مجمع تملكه الكنيسة الإثيوبية في القدس.
تداعيات نقل السفار الأمريكية
وخلال حفل تدشين السفارة الأمريكية بمدينة القدس أعلن رئيس حكومة الاحتلال أن العديد من الدول ستحذو حذو الولايات المتحدة، لكنَّ الرياح لم تأتِ بما تشتهيه السفن؛ فدولة جواتيمالا فقط كانت هي الدولة الوحيدة التي سارت على خطى الولايات المتحدة ونقلت سفارتها إلى القدس، في السادس عشر من مايو 2018م، وظلت هناك حتى الآن.
أما سفارة باراجواي التي نقلها الرئيس " هوراسيو كارتيس"، في نهاية فترة ولايته، في الحادي والعشرين من شهر مايو إلى مدينة القدس فقد أعادها الرئيس الجديد المنتخب "ماريو أبدو" إلى مدينة تل أبيب في الخامس من شهر سبتمبر 2018م؛ أي بعد مرور ثلاثة أشهر ونصف من نقلها، بهدف تعزيز الجهود الدبلوماسية في المنطقة؛ لتحقيق سلام واسع وعادل في الشرق الأوسط؛ الأمر الذي أغضب الكيان الصهيوني، فقد أمر "نتنياهو" بإغلاق سفارة الكيان الصهيوني في باراجواي، كما مارست الولايات المتحدة الأمريكية ضغوطًا على باراجواي للحيلولة دون تنفيذ إعادة سفارتها من القدس إلى تل أبيب. بينما رحب الجانب الفلسطيني بهذه الخطوة التي رأى أنها بمثابة انتصار كبير للدبلوماسية الفلسطينية على انتهاكات سياسة الرئيس "ترامب" وسياسات الحكومة الإسرائيلية. كما أشادت جامعة الدول العربية بقرار دولة باراجواي معتبرةً أن هذه الخطوة تأتي ضمن المسار الصحيح، وستكون بمثابة النموذج لبقية الدول الأخرى.
وقد تعهدت سلوفاكيا في الثالث من شهر يوليو بنقل سفارتها إلى القدس وافتتاح مركزٍ ثقافيٍّ علميٍّ بها، لكنها لم تنفذ تعهدها حتى الآن، في حين وافقت جمهورية مولدوفا، في الثالث والعشرين من شهر يوليو على فتح سفارتها بالقدس شريطة أن تفتح إسرائيل سفارة لها في "كيشينيف" عاصمة مولدوفا، لكن الأمر لم يخرج عن نطاق التصريحات.
وعلى الرغم من أن جمهورية التشيك دشّنت، في السابع والعشرين من شهر نوفمبر 2018م، مركزًا ثقافيًّا لها في مدينة القدس المحتلة إلا أنها لم تنقل سفارتها حتى الآن.
أما الحكومة الأسترالية فقد أقرّت، في الخامس عشر من شهر ديسمبر 2018م، رسميًّا بالقدس الغربية عاصمةً لإسرائيل، دون نقل سفارتها إلى مدينة القدس؛ الأمر الذي أحدث ردود فعلٍ متباينة ما بين مؤيدة ورافضة لهذا القرار الأسترالي غير المسؤول، والذي يمثل انحيازًا سافرًا لمواقف الاحتلال الإسرائيلي وسياساته، وتشجيعًا لممارساته وعدوانه المتواصل على الشعب الفلسطيني وحقه في أراضيه المحتلة.
كما أبدى قادة البرازيل وهندوراس ورومانيا وأوكرانيا رغبتهم في نقل سفارات بلادهم إلى القدس، لكن بدون اتخاذ خطوات ملموسة في هذا الاتجاه.
هذا إضافة إلى أن الكيان الصهيوني يتودد إلى عدد من الدول الغربية بالإغراءات الماديّة والاقتصادية والأمنية، بهدف نقل سفاراتهم من مدينة تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة؛ للإقرار بها عاصمةً موحدة وأبدية للكيان الصهيوني على غرار النمسا وبولندا، وجورجيا وإيطاليا، ومن هنا نتساءل، هل ستستجيب تلك الدول أو غيرها لتوسلات وإغراءات الكيان الصهيوني خلال العام الجديد 2019م؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.
ومن أبرز النتائج التي ترتبت على نقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس المحتلة:
• تصاعد وتيرة الاقتحامات الصهيونية لساحات المسجد الأقصى المبارك خلال عام 2018م والتي وصلت إلى 28606 مقارنةً بـ 26 ألف في 2017م، كمًّا ونوعًا، سواء كانت من أعضاء كنيست ووزراء بارزين في الحكومة، أو من الحركات والجماعات المتطرفة الصهيونية.
• اعتماد جماعات الهيكل المزعوم خططًا مستقبلية لعام 2019م وما بعده من شأنها زيادة وتيرة الاقتحامات؛ حتى تصبح هذه الزيادة مطلبًا شعبيًّا مُلزمًا بتحويل الوجود اليهودي داخل ساحات الأقصى من مؤقت إلى دائم.
• تأسيس مرحلة جديدة بالمشروع الاستيطاني بالقدس؛ حيث صادقت حكومة الاحتلال خلال عام 2018م على بناء أكثر من 10 آلاف وحدة استيطانية بالقدس ومحيطها، منها 2400 وحدة داخل الأحياء المقدسية، حيث وضعت إسرائيل برامجها ومخططاتها على الطاولة، بعد أن كانت في الأدراج، وشرعت بالعمل فوق الأرض وتحتها، وحتى في فضاء القدس وسمائه.
• شروع جمعية "أمانا" الاستيطانية في تنفيذ مشروع توطين مليون مستوطن في الضفة الغربية، التي تراها جزءً لا يتجزأ من أرض إسرائيل التوراتية.
• أعطى قرار "ترامب" الضوء الأخضر لحكومة الاحتلال بالتخطيط للقدس 2050 بعد أن أشرفت على إنجاز مشروع "القدس الكبرى"، والإعلان عن القدس في عام 2020م عاصمةً للشعب اليهودي في العالم.
• يعدُّ يوم الاحتفال بتدشين السفارة الأمريكية هو اليوم الأكثر دموية في قطاع غزة منذ نهاية الحرب عام 2014م؛ إذ أسفر عن استشهاد 62 فلسطينيًّا وإصابة أكثر من 2500 آخرين بجروحٍ متباينة.
• انطلاق مسيرات العودة الفلسطينية في صبيحة الثلاثين من شهر مارس 2018 على طول السياج الفاصل بين الاحتلال وقطاع غزة المحاصر، رفضًا للقرار الأمريكي ورغبةً في العودة إلى الديار المحتلة وكسر الحصار، وإقامة دولة فلسطين وعاصمتها القدس؛ الأمر الذي رفضه الاحتلال وتعامل معه بوحشيّة مفرطة أسفرت عن استشهاد أكثر من 250 مواطنًا، من بينهم 45 طفلًا، وخمس سيدات، وإصابة حوالي 25700 بجروحٍ متباينة.
• هدمت قوات الاحتلال خلال عام 2018م أكثر من 145 مبنًى فلسطينيًّا في القدس الشرقية، بدعاوى زائفة؛ مما أدى إلى تشريد سكانها.
• إقدام حكومة الاحتلال على إصدار عدة قوانين عنصرية بحق الشعب الفلسطيني، أبرزها قانون "الدولة القومية اليهودية"، الذي ينص على أن إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي، ولهذا الشعب حقٌّ في تقرير مصيره، وأن القدس هي عاصمة إسرائيل الكاملة والموحدة، كما ينص على أهمية تطوير الاستيطان اليهودي بوصفه قيمة وطنية. إضافة إلى سن قانون يجيز طرد أُسر منفذي عمليات المقاومة الفلسطينية.
• إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وإلغاء القنصلية الأمريكية العامة التي تعني بشؤون الفلسطينيين ودمجها مع سفارتها في القدس، ووقف المساعدات الأمريكية للاجئين الفلسطينيين، واستهداف وكالة "الأونروا".
• صمود الفلسطينيين في مدينة القدس في مواجهة الاحتلال وسياسته التي تستهدف الوجود الفلسطيني في المدينة ومحيطها.
وختامًا؛ نشدد على أن القدس هي جَذوة نضالنا وعزيمتنا التي لا تلين في مواجهة الكيان الصهيوني الغاصب وكل الداعمين له، مؤكدين أن الاعتراف بالقدس بشطرها الغربي أو بشطريها عاصمةً لدولة الاحتلال أو نقل أي دولة لسفارتها إلى مدينة القدس المحتلة - هو انتهاكٌ للقانون الدولي، ومساسٌ بحقوق الشعب الفلسطيني وحقوق الأمتين العربية والإسلامية، نظرًا لما تمثله القدس في الوجدان والضمير العربي والإسلامي، ونظرًا لمكانتها الحضارية والتاريخية والدينية بالنسبة لشعبنا ولأمتنا العربية الخالدة.
ونؤكد على ما قاله فضيلة الأمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف الأستاذ الدكتور أحمد الطيب: "إن هذا القرار الجائر للرئيس الأمريكي والذي رفضه أكثر من ثمان وعشرين ومائة دولة، وأنكرته كل شعوب الأرض المُحبة للسلام، يجب أن يُقابَل بتفكير عربي وإسلامي جديد يتمحور حول تأكيد عروبة القدس، وحرمة المقدسات الإسلامية والمسيحية، وتبعيتها لأصحابها، وأن يتحول هذا التأكيد إلى ثقافة محلية وعالمية تحتشد لها طاقات الإعلام العربي والإسلامي، وما أكثره، وهو الميدان الذي هُزمنا فيه ونجح عدونا في تسخيره لقضيته".
وحدة رصد اللغة العبرية