إن المتابع لوضع الفتوى والإفتاء في العالم الإسلامي على مدار التاريخ يجد أن الفقهاء ومن سار على نهجهم اجتهدوا في بيان الأحكام الفقهية التي تحفظ للفرد دينه وتنظم أمور معاشه وتحدد علاقته بمجتمعه، وذلك من خلال توضيح الأحكام الفقهية المتعلقة بالعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية من خطبة وزواج وطلاق ورضاع وميراث، وغير ذلك من الأمور التي لا غنى للمسلم عن معرفة الحكم الشرعي فيها، لكن هناك طلبًا متزايدًا الآن لفتاوى شرعية جديدة بسبب التطورات الهائلة في المجالات كافة، وانتشار وسائل الإعلام المختلفة من فضائيات ومواقع إنترنت وغيرها من وسائل مقروءة ومسموعة ومرئية، فهذا الواقع الذي نعيشه اليوم يؤكد أننا أمام مجالات جديدة للفتوى وللاجتهاد – بالإضافة إلى مجالات الفتوى التقليدية - حتى نحمي المجتمع وشباب الأمة من الوقوع في براثن التيارات الإرهابية التي تستغل الدين وتطلق أحكامًا تهدم ولا تبني ولا علاقة لها بشريعتنا الإسلامية السمحة.
ولذا، فقد أصبحت الحاجة ملحة الآن لتخصص فريق من العلماء في الإفتاء لبيان أحكام المسائل التي تعرض للناس في حياتهم، خاصة تلك المسائل التي تحتاج إلى قدح زناد الاجتهاد والبحث من قبل المفتي لاستنباط حكم لها يلائم أحوال الناس في هذا الزمان، فالإفتاء وثيق الصلة بالاجتهاد ويستند عليه، وذلك من خلال مباشرة المفتي الاجتهاد متى اقتضى الأمر ذلك، أو من خلال رجوعه إلى اجتهادات المجتهدين لمعرفة ما قالوه في المسألة موضع الاجتهاد ويتخير ما يناسب حال السائل من بينها فيفتيه به، لكن الملاحظ في زماننا اقتحام كثير من غير المتخصصين وغير المؤهلين مجال الإفتاء، وانتشار العديد مما يعتبره الناس فتاوى تتميز بالتشدد وتفتقد منهجية التفكير المنضبط بقواعده، مما يجعل أهل الاختصاص يصدرون بيانات ترد على تلك الفتاوى الشاردة، وهو ما يوقع الكثير من الناس في حيرة من أمرهم، حيث لا قدرة لديهم على التفريق بين المؤهل الذي يمكن اعتبار فتواه وبين غير المؤهل الذي قد يكون أكثر شهرة في عالم الناس من المؤهل، ولحل هذه المعضلة فإنه من الضروري التنبيه على عدة أمور:
أولا: التفريق بين الفتوى والرأي، فليس كل ما يصدر عن شخص مشهور - أو مغمور - في المجال الديني يعد فتوى يمكن الاستناد إليها والعمل بها، وكثير مما يطلق عليه الناس في زماننا فتاوى ليس كذلك، وإنما هو رأي يخص قائله ولا يجوز الاعتماد عليه ليتحول إلى سلوك في حياة السائل، بل إنه يتحمل تبعته إن كان خطأ، وقبل الامتثال لهذا الرأي يجب التأكد من صلاحية مصدره وتأهله علميا، حيث يجب أن يكون المتصدي للإفتاء مؤهلا وممتلكا لأدواته، وذلك من خلال التبحر في العلوم الشرعية وبخاصة الفقه وأصوله، والعلم بالمذاهب الفقهية واجتهادات الفقهاء السابقين، وإتقان القواعد الأصولية والفقهية، والمعرفة بأحوال الناس وما يلائم عصرهم، فضلا عما اشترطه بعض السابقين من كون المتصدي للإفتاء من المجتهدين، وإن اكتفى آخرون باشتراط قدرته على معرفة حكم المسألة سواء عن طريق الاستنباط أو من خلال ما ذكره السابقون.
ثانيا: الكف عن إصدار الفتاوى المباشرة في الفضائيات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي ولو كان ذلك من أهل الاختصاص، لأن الكلمة المتضمنة للفتوى أشبه بطلقة الرصاص، فمتى أطلقت يكون تصحيح مسارها متعذرا حتى مع إصدار تصويب لها في حال قصورها أو خطئها، فمن سمعها أول مرة ربما لا يقف على تصويبها عند صدوره، ولذا فإن الأولى والأحوط أن يجاب عن أسئلة المستفتين بعد التأمل وفهم السؤال جيدا ومراجعة الفتوى قبل إعلانها على الناس، وهذا ما لا يمكن تحققه في الإفتاء المباشر، ولا بأس من تأخر الفتوى بعض الوقت في سبيل صدورها على الوجه المنضبط.
ثالثا: اتباع المفتين المؤهلين للمنهج النبوي المتمثل في البعد عن التشديد على الناس والأخذ بالتيسير، فما خُيِّر النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. وهناك فرق بين إفتاء الناس برأي فقهي ما، والاختيار من بين أقوال الفقهاء، فالأخذ بالأحوط وليس الأيسر هو الأولى في حال اختار الإنسان لنفسه من بين أقوال الفقهاء، فإن اختلف الفقهاء في نجاسة الكلب وطهارته فالأحوط للنفس اعتباره نجسا، وإن اختلفوا حول وقوع الطلاق البدعي من عدمه، فالأولى اعتبار وقوعه احتياطا، ولا سيما إن كانت الطلقة الأولى أو الثانية ليحذر الزوج معاودته، وإذا دار الأمر بين الحلال والحرام غلب جانب الحرام احتياطا، لكن هذا لا يعني الأخذ بهذا المبدأ في إفتاء الغير، حيث يكون من الغلو والتضييق على الناس، وهو ما يقع فيه من يحل لهم التحريم متى وجدوا له مسلكا، والواجب على من يتصدر للإفتاء ألا يضيق على الناس ما وجد للتيسير بابا.
رابعا: على من أصدر فتوى ثم تبين له تعجله فيها أو غفلته عن جانب مؤثر قد يغير الحكم أن يبادر لتصويبها وإعلان خطئها وعدم جواز الأخذ بها إبراء لذمته، وعلى هؤلاء المتجرئين على الإفتاء من غير أهله أن يتقوا الله في أنفسهم ويكفوا عن الزج بها في نار جهنم بحصائد ألسنتهم، وليحمدوا الله على عدم لزوم الإفتاء لهم، فهو ليس مغنما ولا كلأ مباحا، وليعتبروا بكثير من الصحابة – رضوان الله عليهم - حيث كان يدور السائل بينهم حتى يفتيه أحدهم وهو كاره خشية تحمله إثم فتواه، وهذا من باب التقوى والورع، وليعلم من يتصدر للفتوى وهو غير مؤهل لها أنه ربما صدرت عنه فتوى واحدة غير صحيحة فيتلقفها بعض الناس فيعملون بها فيتحمل وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
وحتى نقضي على عشوائية الفتاوى في زماننا هذا، فلا بد من إصدار تشريع يجرم صدور الفتوى من غير أهل الاختصاص ويعاقب الفاعل بعقوبة رادعة تمنعه وغيره من الإقدام عليها، ويجب أن يتضمن التشريع منع المؤهلين المتخصصين في علوم الشريعة من إصدار الفتاوى المتعلقة بالشأن العام كتحديد بدايات الشهور ونهاياتها على سبيل المثال، حيث إنها من اختصاص القائمين على الإفتاء كدار الإفتاء عندنا في مصر، ولا بأس من قيام هؤلاء العلماء المؤهلين بإفتاء الناس في أمورهم الخاصة التي لا يضر اختلاف الامتثال فيها من شخص لآخر، كالمفطرات في الصيام، ونقل أموال الزكاة، وقضاء الصلاة والصوم، والمعاملات المالية وغيرها.