ينكر بعض الناس اجتماع الحجاج يوم عرفة خاصة على جبل عرفة، ويقولون: إن الحج جائز خلال الأشهر الحرم، وليس خاصًا بيوم عرفة (التاسع من ذي الحجة)، وبناء عليه يقترحون أن يوزّع الحج على الأشهر المعلومات؛ لكي نتفادى الزحام الذي يحدث كل عام، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى:{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } ( البقرة:197)، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم- لم يحج مرة ثانية في نفس التوقيت؛ حتى نتأكد أنه أمر توقيفي أوحاه الله إليه.
وللجواب على ذلك نقول وبالله التوفيق:
أولًا: أن الله - تعالى- فرض الحج على المسلمين وجعله في أيام معلومات، وجعل يوم عرفة يوم الحج الأكبر، وهذا التحديد – الزماني والمكاني- من الأمور التوقيفية – متوقف فيها على القرآن والسنة والإجماع- التعبدية، فلا مجال للتغيير فيها بالعقل.
ثانيًا: وأما ادّعاؤهم أن الحج جائز خلال الأشهر الحرم، مستدلين لذلك بقوله تعالى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} فهذا باطل من وجوه:
الأول: أن الأشهر المعلومات غير الأشهر الحرم، فالأشهر الحرم قد ذُكرت إجمالًا في القرآن قال تعالى:{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } ( التوبة:36)، فجاءت السنة النبوية – كعادتها- لتفسر وتبين ما أجمله القرآن، فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ" ( أخرجه البخاري:4385).
وأما الأشهر المعلومات فقد قال ابن عمر : هي شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة . ( ذكره البخاري في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم).
إذن الأشهر المعلومات ليست هي الأشهر الحرم كما يقولون.
الثاني: أن الحج عبادة لها ميقات زماني، وآخر مكاني، والكلام هنا على الأول، وقد قال تعالى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ }، وقد سبق بيان الأشهر المعلومات، ومعنى الآية: أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل هذه الأشهر، وفي أثناء هذه الأشهر يجوز للمسلم أن يحرم للحج فيها، وبناءً على ظاهر النص فلو أحرم للحج في غير هذه الأشهر لم يصح الإحرام على الراجح، وهذا هو المراد بكونها " معلومات" أنها مؤقتة بأوقات معينة، لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها عنها.
وهذا المعنى هو ما أكده حبر الأمة، وترجمان القرآن ابن عباس - رضي الله عنهما- حيث قال: لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج.
وقال عطاء، ومجاهد، وطاووس، والأوزاعي: من أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجزه ذلك عن حجه، ويكون عمرة، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة، وبه قال الشافعي، وأبو ثور. تفسير القرطبي (2/ 406).
الثالث: نقول : وإن كان الدخول في نسك الحج يبدأ من شوال إلا أن هناك من المناسك من له وقت محدد كيوم التروية، ويوم عرفة، ورمي الجمرات، وهذا مأخوذ من قول النبي – صلى الله عليه وسلم-، وفعله، حيث قال: " الْحَجُّ عَرَفَةُ " ( مسند أحمد:18774)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر في الحجة التي حج فيها فقال: أي يوم هذا ؟ فقالوا: يوم النحر، فقال: هذا يوم الحج الأكبر"، (سنن أبي داوود: 1945)، ويوم عرفة معلوم للأمة كلها، ومعلوم أنه يوم التاسع من ذي الحجة، وبعد هذا البيان نقول لهؤلاء: لو وُزِّع الحج على الأشهر المعلومات كما تريدون لتفادي الزحام فهذا يلزم منه أن يكون يوم عرفة متعددًا، وهذا لا يصح؛ لمنافاته الشرع والواقع.
فكل من أراد الحج يجوز له الدخول في نسكه في الأشهر المعلومات - سواء في شوال، أو في ذي القعدة-، لكن يجب على كل حاج أن يتواجد بأرض عرفة يوم التاسع من ذي الحجة، وإلا فقد بطل حجه، يقول الإمام الغزّالي وهو يتكلم عن الوقوف بعرفة،: " ومن فاته الوقوف حتى طلع الفجر يوم النحر فقد فاته الحج فعليه أن يتحلل عن إحرامه بأعمال العمرة، ثم يريق دماً لأجل الفوات، ثم يقضي العام الآتي ..". اهـ (إحياء علوم الدين: 1/253).
ثالثًا: وأما الاحتجاج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يحج مرة ثانية في نفس التوقيت؛ حتى نتأكد أنه أمر توقيفي أوحاه الله إليه، فنقول: إن كل أمر توقيفي لا يشترط فيه أن يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم- أكثر من مرة حتى يتبين لنا أنه واجب الاتباع، ولو مدّ الله في عمره - صلى الله عليه وسلم- لحج مرارًا، وكرر المناسك ذاتها، فالأصل أن النبي- صلى الله عليه وسلم- بيّن للأمة مناسك الحج بقوله وفعله، يقول جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما-: يَقُولُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ:" لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ" ( رواه مسلم: 1297).
قال الإمام النووي في شرحه على مسلم: وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ ) فَهَذِهِ اللَّامُ لَامُ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ: خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ،.... ، وَتَقْدِيرُهُ هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي أَتَيْتُ بِهَا فِي حَجَّتِي مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْهَيْئَاتِ هِيَ أُمُورُ الْحَجِّ وَصِفَتُهُ، وَهِيَ مَنَاسِكُكُمْ فَخُذُوهَا عَنِّي وَاقْبَلُوهَا وَاحْفَظُوهَا وَاعْمَلُوا بِهَا وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ :" صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي". [ رواه البخاري].
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَعَلِي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ ) فِيهِ : إِشَارَةٌ إِلَى تَوْدِيعِهِمْ وَإِعْلَامِهِمْ بِقُرْبِ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَثِّهِمْ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالْأَخْذِ عَنْهُ، وَانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ مِنْ مُلَازَمَتِهِ، وَتَعْلَمِ أُمُورِ الدِّينِ، وَبِهَذَا سُمِّيَتْ حَجَّةُ الْوَدَاعِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . اهـ.
فهذا الحديث فيه دلالة واضحة أن الأحكام والمناسك لا تتغير، ولا تتبدل، وأن الأمر لا يتوقف على تكراره من النبي - صلى الله عليه وسلم-.
رابعًا: النبي - صلى الله عليه وسلم- وسع على الأمة في كثير من مناسك الحج، فبين أنه لا يصح أن يتمسك الناس بالمكان الذي وقف فيه في عرفات، بل كل عرفات موقف، وكذلك الأمر بالنسبة للنحر فإن منى كلها منحر، فلو كان الميقات الزماني كذلك لبينه - صلى الله عليه وسلم-، ونص على أنه يمكن أن يحرم الإنسان بالحج في أي وقت، ويمكن أن يقف بعرفات في أي يوم، وكما هو معلوم " أن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة"، لكنه - صلى الله عليه وسلم- لم يبين ذلك، وإنما بيّن عكس ذلك، بيّن أن الحج يكون في الأشهر المعلومات – وقد تقدم بيانها -، وبيّن أن الحج عرفة – كما تقدم في الحديث-، فلو كان الحج يمكن التوسعة في وقته لبيّن لنا - صلى الله عليه وسلم- ذلك كما بيّن في توسعة بعض أماكن الشعائر، لا سيما وأن حجة الوداع كان الزحام فيها شديدًا؛ فقد وصف جابر بن عبد الله رضي الله عنهما كثرة من حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع من المدينة فقال: (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ) رواه مسلم (1218)، وقد ذُكِر أنهم كانوا قرابة مئة ألف (100000) صحابي، وهذا لا شك أنه يدل على أن التوقيت الزماني محدد، ولازم.
الخلاصة: الله -عز وجل- شرع لنا الحج، وبيّن لنا ميقاته فقال: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}، وخص النبي - صلى الله عليه وسلم- منها يوم عرفة بيوم الحج الكبر، فدعوى هؤلاء باطلة، ولا أساس لها من الصحة، فكيف نوزع الحج على الأشهر الحرم ؟!
كل أمر توفيقي لا يشترط فيه أن يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم- أكثر من مرة حتى يتأكد لنا مشروعيته، وأنه واجب الاتباع، بل يكفي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قاله أو فعله مرة واحدة، وقد بيّن للأمة مناسك الحج بقوله وفعله، ولو مدّ الله في عمره - صلى الله عليه وسلم- لحج مررا، وكرر المناسك ذاتها في أوقاتها، وأماكنها.