ميراث المرأة في الإسلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن واله، وبعد:
فقد تميَّزت الشريعة الإسلامية بصلاحيتها لكل زمان ومكان، ومراعاتِها جميعَ أحوال الناس على تنوعِهم واختلافِهم؛ لما تمتَّعَتْ به من مُرُونة.
ولكنَّ هذه المرونة ليست سمةً لجميع نصوص الشريعة، فبعضها ثابتٌ راسخٌ لا مجال للاجتهاد فيه، كالنصوص التي تُقرِّر جوانب العقيدة والعبادة والأخلاق؛ حتى تجمع الشريعة بين رسوخ الأصول الذي يُكَوِّن هُوية المسلم وشخصيته، وبين مرونة التعامل مع الواقع ومتغيراته في آن واحد.
وإن النصوص المتعلقة بالميراث في الإسلام لَمِن هذا القسم الراسخ الذي لا يقبل الاجتهاد أو التغيير، فقد تَولَّى الله عز وجل وضْع أُسسه وضوابطه بنفسه؛ لأهميته، وعِظَم خطره؛ فلا يخفى على أحد أن الظلم في الميراث ربما يتعدى لأجيال متتابعة، أو تُقَطَّع لأجلِه الأرحام، بل وقد تُرتكَب بدافعه الجرائم.
ورغم أن الشرع الشريف قد ضَبَط هذا الباب، وأزال منه أسبابَ النِّزاع والشِّقاق إلَّا أنَّه لم يسلم من المعارضات، بل والاتهامات بالتحيُّز والظلم وانتقاص الحقوق.
وقبل أن نوضح فلسفة توزيع الميراث في الإسلام؛ لا بد من بيان النقاط الآتية:
أولًا: إن المُسلم الذي استسلم لله عز وجل، ورضي به ربًا، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا، يكفيه لالتزام أمرٍ ما؛ أن يعرف أن الله عز وجل هو الآمر به؛ لما عَرَفَ من صفاته سبحانه، فهو الحَكَم العدل المُحيط، الذي يعلم خلقه، ويعلم ما يُصلحهم.
ثانيًا: التفرقة بين العدالة والمساواة؛ لتصحيح مُغالطة تدَّعي ألَّا فرق بينهما، أو بصيغة أخرى تدَّعي أن: تحقيق العدالة مُتوقف على تحقيق المساواة.
والصواب: أن العدل لا يقتضي التسوية، فقد تعدل بين شخصين دُون أن تسوي بينهما؛ لأن العدل هو: وضع الشيء في مَوضِعه، مع مراعاة الحال.
فإن كان لك -على سبيل المثال- وَلَدَان: أحدهما في التعليم الثانوي، والآخر في الابتدائي، هل ستُسوي بينهما في النفقات مُتغاضيًا عن كثرة حاجات ومتطلبات ابنك الأكبر؟ فإن كان جوابك: أنك ستعطي الأكبر أكثر من أخيه، هل يعني هذا أنك لن تحقق العدل بينهما؟ أم أن تلبية حاجات كلٍ منهما عدل، وإن لم تسوِّ؟!
ألَا ترى معي أن المساواة بينهما في النفقات مع تفاوت متطلباتهما من الظلم؟!
مما يدل على أن المساواةَ قد تكون عدلًا، وقد تكون هي الظلم بعينه.
ثالثًا: إذا أردنا بيان فلسفة الميراث في الإسلام -لا سيما ميراث المرأة- لا ينبغي أن نغفل واقع الأمم الأخرى في القضية نفسها.
فلم يكن الميراث إلا للرجل القادر على القتال والضرب بالسيف لدى كثير من أصحاب الحضارات القديمة، ولا إرث للنساء أو الصغار، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل كانت المرأة نفسها -في بعض المجتمعات- جزءًا من الميراث، ولوَارِثِها الحق في الزواج منها، أو عَضْلِها عنده إلى أن تدفع له مبلغًا من المال.
ولا يختلف الأمر كثيرًا عند بعض الديانات السماوية التي قررت قاعدةً تقول: لا إرث للإناث إلا عند فَقْد الذّكور.
ولِمَ الغَوص في أعماق التاريخ، ونظرة واحدة على الماضي القريب لأوروبا وغيرها لتُطلِعُنا على واقعٍ مشابه؟! حيث كان الابن الأكبر هو المالك الوحيد لتركة أبيه أو -على الأقل- أكثر الوارثين حظًا، من خلال نظامِ إرثٍ أُطْلِق عليه: (أبويّ البكورة).
رابعًا: سَبَقَ الإسلامُ الشرائعَ والقوانين الوضعية إلى إنصاف المرأة، وكفالة حقوقها، وحقَّق لها ذلك من خلال الآتي:
(1) أبطل الإسلام جميع المُمارسات الظالمة ضد المرأة لا سيما ما يخصّ الميراث، والتي ذُكر طرف منها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ..). [النساء: 19].
(2) جعل لها ولاية على المال، وذمة مالية مستقلة، قال تعالى: (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا). [النساء: 32].
(3) أقرَّ لها حق مُباشرة العقود بنفسها كعقود البيع والشراء والرَّهْن والشَّرِكة، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ». أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما.
(4) جعل لها نصيبًا في تركة المُتوفَّى، قال تعالى: (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا). [النساء: 7].
وخلاصة الأمر أن الإسلام سوَّى بين الرجل والمرأة في حقِّ كسب المال، والعمل، والأجرة، والذمة المالية.
يتبع.....